بينما كان الجميع مشغولا في البحث عن كلمات وعبارات تصف الإبادة الجماعية في غزة يخرج الرئيس الروسي فلاديمير بوتين فجأة ليشبه ما يجري في القطاع بحصار مدينة لينينغراد.
وذهب بوتين أكثر من ذلك، إذ رفض “الحصار المحكم الذي تفرضه إسرائيل على قطاع غزة الذي يعيش فيه أكثر من مليوني نسمة”، محذرا من أن شن إسرائيل عملية برية في غزة سيؤدي إلى زيادة الخسائر في صفوف المدنيين.
لكن، ماذا حصل في لينينغراد التي باتت تسمى اليوم سان بطرسبورغ عام 1941 خلال الحرب العالمية الثانية؟
يخبرنا التاريخ أنه في 8 سبتمبر/أيلول 1941 حاصرت القوات الألمانية والفنلندية التابعة للزعيم النازي أدولف هتلر العاصمة الثانية للاتحاد السوفياتي، واستمر الحصار حتى 27 يناير/كانون الثاني 1944 بهدف كسر مقاومة المدينة والاستيلاء عليها.
وهذا الحصار قد يكون الأقسى والأفظع في التاريخ الحديث، بسبب الخسائر البشرية التي قدرت بنحو مليون شخص -بينهم 140 ألف طفل- وهؤلاء قتلوا خلال 842 يوما من الحصار.
وكانت خطة هتلر تقوم على مفاهيم عدة، أبرزها:
- عقائدي: احتلال مهد الثورة الشيوعية وجعلها عاصمة لشرق أوروبا المحتلة.
- عسكري: تدمير المدينة بكاملها من خلال القصف المدفعي والجوي تمهيدا لدخولها في ربيع 1942.
- تهجيري: ترحيل من يبقون على قيد الحياة من سكان المدينة إلى الأقاليم الروسية النائية أو احتجازهم كأسرى ومحو المدينة من على وجه الأرض.
ولم يكتف هتلر بهذا، بل حاصرت القوات الألمانية لينينغراد من الجنوب والغرب وبرا وبحرا، ومنعت كل الإمدادات عن المدينة حتى فقد سكانها الغذاء والدواء والرعاية الطبية وانقطعت المياه والكهرباء، وقتل ما يزيد على مليون شخص في المدينة بسبب الجوع والمرض.
ورغم كل ما سبق فإن المدينة -التي سميت على اسم الزعيم الشيوعي البارز لينين- قاومت وتمكنت من فك الحصار جزئيا في يناير/كانون الثاني 1943 وبدأت قطارات محملة بالغذاء بالوصول إلى المدينة، وعام 1944 فك الحصار كليا فتلاشت خطة ألمانيا لإخراج لينينغراد من حيز الوجود.
وهذا السيناريو النازي يطبقه حرفيا مسؤولو الاحتلال من تدمير وتهجير وتجويع تمهيدا لما يشاع عن غزو غزة بريا وإعادة احتلالها وتهجير أهلها.
نتنياهو وهتلر
يتباهى وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت بأنه أمر بفرض حصار كامل على غزة، وبرره بالقول “نحن نقاتل حيوانات بشرية ونتصرف وفقا لذلك حتى الآن، لا كهرباء ولا طعام ولا وقود لغزة”، فيما هدد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بأنه سيحول “جميع الأماكن التي تختبئ فيها حماس إلى أنقاض”.
وأبلغت إسرائيل الأمم المتحدة أن أكثر من مليون شخص يعيشون في شمال غزة يجب أن ينتقلوا إلى جنوب الأراضي الفلسطينية خلال الساعات القادمة، فيما دعت الأمم المتحدة إلى سحب الأمر لأسباب إنسانية.
وهذا الحصار والقصف والإبادة الجماعية وسياسة الأرض المحروقة -والذي دخل أسبوعه الثاني فقط- خلّف أكثر من ألفي شهيد -بينهم أكثر من 500 طفل- وآلاف الجرحى، بينهم 1600 طفل.
ويعتمد سكان القطاع إلى حد كبير على إسرائيل للحصول على الطاقة، إما بشكل مباشر عبر خطوط الكهرباء الإسرائيلية أو بشكل غير مباشر عن طريق الوقود الذي يتم توفيره عبر إسرائيل ومصر لمحطة توليد الكهرباء التي تعتمد على الديزل في غزة.
والأربعاء الماضي، قُطعت الكهرباء عن غزة، وستكون لذلك آثار غير مباشرة قريبا، مثل تفاقم نقص المياه الصالحة للشرب إذا لم يكن هناك ما يكفي من الطاقة لتشغيل محطات تحلية المياه في المنطقة وترك المستشفيات المكتظة مع أيام فقط من الطاقة التي تغذيها المولدات.
دعم أميركي
ويذكر موقع “فوكس” الأميركي أنه “بعد وابل نيران المدفعية والصواريخ واحتمال العملية البرية على غزة لاستهداف مقاتلي حماس يبدو القطاع المدمر بالفعل كمناطق الحرب المدمرة من الذاكرة الحديثة، مثل حلب بسوريا، أو ماريوبول بعد الهجوم الروسي على أوكرانيا”.
وتدعم الولايات المتحدة إسرائيل بشكل كامل، فقد أكد الرئيس جو بايدن أنه “في هذه اللحظة المأساة أريد أن أقول لهم وللعالم وللإرهابيين في كل مكان إن الولايات المتحدة تقف إلى جانب إسرائيل”.
أما وزير خارجيته أنتوني بلينكن فصرح بأن “تركيزنا الأول هو التأكد من أن إسرائيل لديها ما تحتاجه للتعامل مع الوضع في غزة، وأيا كان ما تفعله إسرائيل في غزة -كما هو الحال دائما- فإننا نتطلع إلى بذل كل ما في وسعنا لتجنب المدنيين وسقوط ضحايا، وهو أمر لا تفعله حماس بالطبع”.
ويشعر المدافعون عن حقوق الإنسان والخبراء في شؤون الشرق الأوسط بالقلق من أنه في غياب دعوة أوضح لضبط النفس من جانب المسؤولين الأميركيين فإن مثل هذه اللغة يمكن أن تكون بمثابة تشجيع ضمني لهذا النوع من التكتيكات التدميرية التي مارستها إسرائيل على غزة مرات عدة.
لكن غزة تعيش تحت حصار منذ 15 عاما، فإسرائيل ومصر تسيطران على المعابر الحدودية لقطاع غزة، ويتحكم الاحتلال بمنفذ القطاع على البحر الأبيض المتوسط ويقفل مجاله الجوي، ويخنق أكثر من مليوني فلسطيني يعيشون في بقعة جغرافية تبلغ مساحتها ضعف مساحة واشنطن فقط.
ومنذ سيطرة حماس على القطاع عام 2007 فرضت إسرائيل حصارا على القطاع، مما أثر بشكل كبير على نوعية الحياة:
- زيادة في معدلات الفقر المدقع.
- أكثر من 60% من السكان يحتاجون للمساعدات الغذائية.
- الحصول على الرعاية الصحية محدود للغاية.
- يعاني نحو ربع الفلسطينيين في غزة ونحو 80% من الشباب من البطالة.
ووصف خبراء الأمم المتحدة هذا الحصار بأنه “عقاب جماعي”.
تدمير المدينة لإنقاذها
ولم تسمح إسرائيل ومصر بدخول ما يكفي من مواد البناء لإعادة إعمار غزة بعد الحروب الإسرائيلية عليها، فخلال عدوان مايو/أيار 2021 دمر نحو 58 ألف منزل.
وأجرت سارة روي الباحثة في جامعة هارفارد بحثا ميدانيا في القطاع أظهر أن إسرائيل تعيق عمدا تحسين الظروف المعيشية للفلسطينيين في الأراضي المحتلة.
وفي السياق نفسه، كشفت منظمة “بتسيلم” الإسرائيلية الحقوقية أن “قطاع غزة مسرح لكارثة إنسانية لا علاقة لها بالأسباب الطبيعية، لأنها من صنع الإنسان بالكامل، وهي نتيجة مباشرة للسياسة الإسرائيلية الرسمية”.
وإذا كان ما جرى في لينينغراد -التي كانت عبارة عن مقاومة روسية للاحتلال النازي- فنعرج على الحرب الأميركية على فيتنام ليكون فيها إسقاط تاريخي على يجري في غزة، فقد حذرت صحيفة نيويورك تايمز الأميركية من مغبة تحول غزة إلى فيتنام ثانية ورفع شعار أميركي قديم “أصبح من الضروري تدمير المدينة لإنقاذها”.
وقدمت الصحيفة الأميركية -التي عانت بلادها من خسائر ثقيلة خلال حرب السنوات الثماني (عشرات آلاف القتلى وآلاف المصابين والأسرى)- “نصيحة ثلاثية من الصعب اتباعها” إلى الاحتلال قبل أن يقرر غزو غزة بريا مفادها:
- “لإسرائيل الحق في ملاحقة الذين هاجموها”.
- “سِجل القتال في المناطق المأهولة ضعيف في تحقيق أهدافه، ولديه تاريخ طويل من الخسائر المروعة”.
- “إذا كانت بوصلتك الأخلاقية متوافقة مع معاناة جانب واحد فقط فإنها ستنكسر وتخسر إنسانيتك”.
وزيادة على النصيحة الأميركية تقول القاعدة العسكرية إنه في حالة الحروب الجوية فإن المهاجم تكون لديه قوة تعادل ضعف أو 3 أضعاف قوة المدافع، لكن في الحرب البرية فإن الأمور تكون لصالح المدافع بنسبة 10 مرات، وهذه القاعدة كانت جلية في لينينغراد وفيتنام.