طهران- منذ الهجوم الإسرائيلي على القنصلية الإيرانية في سوريا مطلع الشهر الجاري، يخلد الشعب الإيراني إلى النوم على وقع التقارير الاستخبارية والتقديرات الإعلامية باقتراب ساعة الصفر، ليصحو اليوم التالي على قراءة تقديرات الأوساط السياسية المتباينة، بين الإشادة بحكمة طهران الإستراتيجية والتهكم على عدم ردها الفوري.
ورغم إرسال الحسابات الإيرانية الرسمية على منصات التواصل -بحلول منتصف كل ليلة- إشارات توحي بأن الرد قاب قوسين وأدنى، ومسارعة الإعلام الغربي إلى تسريب معلومات عن عملية طهران المتوقعة، وكمية التسليحات المتوقع استخدامها ونوعيتها، فإن الانتقام لم يأت بعد حتى لحظة كتابة هذا التقرير.
وفي حين يرى مراقبون في طهران أن الجمهورية الإسلامية تتقصّد نهج سياسة الغموض بشأن الرد واختيار توقيته والآليات المناسبة لتنفيذ تهديدها، ولها ما يبرر ذلك، يذهب طيف آخر إلى أن التأجيل المتكرر للانتقام قد يفرغه من محتواه، ويمنح الجانب المقابل فرصة لاتخاذ التدابير اللازمة بمساعدة حلفائه الغربيين.
حرب هجينة
يرى أستاذ العلوم السياسية بجامعة طهران ورئيس نقابة مراكز الأبحاث والدراسات في إيران عماد آبشناس، أن بلاده “تتقصد نهج سياسة الغموض في حربها الهجينة ضد الكيان الإسرائيلي، ومنها الحرب النفسية والضغط النفسي، لكسر ظهر رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، الذي أوعز بمهاجمة القنصلية بعد إبادة الفلسطينيين في غزة”.
وفي حديثه للجزيرة نت، يشير الباحث إلى أن “طهران تتعمّد تمديد موعد الانتقام لإبقاء العدو متأهبا في سياق حرب الأعصاب لكي لا تريحه بضربة عابرة”، موضحا أن التقارير التي تسرّبها الوكالات الأجنبية عن كيفية الرد الإيراني ترمي لرفع سقف توقعات الرأي العام من الانتقام عاليا، لكي لا تكون مضطرة على الرد عليه إذا ما جاء الانتقام أدنى مما روّجت له”.
وتابع بقوله إن “جزءا من التقارير المسربة على لسان مصادر أمنية وأخرى مطلعة تهدف للضغط على الجانب الإيراني، وحثه على تنفيذ الانتقام بسرعة لخدمة الجانب الإسرائيلي”، مؤكدا أن أصحاب القرار الإيرانيين يتحركون بهدوء وبرود أعصاب ولا يأبهون للتهويل الخارجي.
وكشف آبشناس أن بلاده كوّنت بالفعل خلية مصغرة جدا تعكف على إعداد خطة الرد وتحديد التوقيت، ولا يعرف أحد سواها قرار الرد وتوقيته وتفاصيله، وأن الإيحاء بتنفيذ الرد خلال سويعات هو جزء من الخطة المرسومة.
وخلص إلی أن “طهران لن تنفذ عمليتها في ظروف يكون حينها الجانب المقابل مستنفرا”، وأنه “لا تأثير للاتصالات الدبلوماسية والمبادرات الأجنبية لتراجع طهران عن انتقامها”، مستدركا أن بلاده قد تخفض شدة الانتقام في حال إنهاء العدوان المتواصل على غزة، وإرغام تل أبيب على قبول هدنة فورية ودائمة، وضمان عدم مهاجمة الأهداف الإيرانية وحلفائها مرة أخرى.
سياسة الغموض
ويقول الخبير العسكري والعقيد المتقاعد في الحرس الثوري محمد رضا محمدي، إن “عدم إستعجال طهران في الرد يأتي لتفويت الفرصة على نتنياهو، الذي أراد التغطية على انسحاب غالبية قواته من غزة، من خلال تصدير الأزمة الداخلية التي يعيشها والضغوط الدولية إلى الخارج، وافتعال حرب مباشرة مع إيران”.
وفي حديثه للجزيرة نت، أوضح الخبير العسكري أن بلاده ستعتمد “عنصر المباغتة في اختيار توقيت الرد والآليات المناسبة لتنفيذه”، موضحا أن بلاده تضع عدة خطط وإستراتيجيات للانتقام، وكيفية ردها على مراحل ومستويات متفاوتة في حال ردت إسرائيل وحلفاؤها الغربيون بمهاجمة العمق الإيراني.
ورأى محمدي أن “تنسيق إيران مع أذرعها الإقليمية وتحديث الخطط المرسومة مسبقا قد يستغرق وقتا”، وأن “طهران ليست على عجلة من أمرها، بل تدرس موضوع الرد، الذي من شأنه أن يتطور إلى حرب محدودة أو شاملة بعناية فائقة، لكي تدور أحداثها وفق إرادة الجانب الإيراني”.
ولدى إشارته إلى احتمالات تصدي الدفاعات الجوية الأميركية والغربية بالمنطقة للصواريخ والمسيرات الإيرانية قبل وصولها أهدافها، رأى العسكري السابق أن بلاده تأخذ جميع الاحتمالات والعوائق على محمل الجد وتعمل على معالجتها، ذلك أن ثمن الإخفاق في العملية المزمع القيام بها سيكون باهظا على سمعتها إقليميا ودوليا وفق تعبيره.
وقال المتحدث ذاته إن “الكيان الصهيوني قد قتل قادة عسكريين كبارا في هجماته على الأهداف الإيرانية في سوريا، ولابد أن يكون رد طهران رادعا ومناسبا، ويقضي على عناصر إسرائيلية وازنة، وليس الهدف منه إيصال عدد من الصواريخ والمسيرات إلى أراضي فلسطين المحتلة”، مؤكدا أن “الرد الإيراني قد يتأخر عدة مرات حتى تأتي الظروف مواتية لتحقيق هذا الهدف، داخل الأراضي المحتلة أو خارجها”.
العين بالعين
وعقب تنفيذ بحْرية الحرس الثوري الإيراني عملية إنزال عسكري على متن سفينة “إم إس سي أرييس” التابعة لإسرائيل، والسيطرة عليها بالقرب من مضيق هرمز، واقتيادها السبت نحو المياه الإقليمية الإيرانية، قال المستشار الأسبق لرئاسة مجمع تشخيص مصلحة النظام محمد مهدي مظاهري، إن بلاده تعتبر الهجوم على قنصليتها بمثابة مهاجمة أراضيها، وسوف ترد بالمثل.
وفي حديثه للجزيرة نت، أوضح الباحث أن المرشد الإيراني الأعلى آية الله علي خامنئي القائد العام للقوات المسلحة هو الذي يشرف مباشرة على سياسات البلاد العليا، وأن تأكيده علنا -في خطبة صلاة عيد الفطر- على ضرورة الرد يجعل من الانتقام أمرا حتميا ومماثلا، وفقا لقاعدة السن بالسن والعين بالعين والبادئ أظلم.
واعتبر مظاهري أن عدم استعجال بلاده في تنفيذ انتقامها وعدم انجرارها للأجندة الأجنبية نابع من حكمتها الإستراتيجية، مشددا على أن “التوتر الإيراني الإسرائيلي بلغ مرحلة يرى أن تراجع طهران عن الرد قد يحفز تل أبيب وحلفاءها على الإمعان في استهداف المصالح الإيرانية، والتماهي في ارتكاب المجازر بحق الفلسطينيين”.
ورأى في “إبقاء اسرائيل واقفة على رجل ونصف وشلها من الداخل أهمية لا تقل عن العملية العسكرية المزمعة”، مؤكدا أن “الإيرانيين الذين اعتادوا الصبر على حياكة السجاد لن يستعجلوا في رسم السياسات الإستراتيجية وتنفيذ الانتقام لضحايا الهجوم على القنصلية”.
ورغم تزايد أصحاب نظرية الصبر الإستراتيجي في الجمهورية الإسلامية، فإن شريحة من الإيرانيين يرون في عقد مقاربة بين السياسة وصناعة السجاد مغالطة قد تتسبب في تحميل البلاد أوجاعا، وهو ما فتح الباب أمام المعارضة الإيرانية في الخارج لتوجيه انتقادات لاذعة لطهران، والتهكم على عدم ردها الفوري على هجوم القنصلية.
في المقابل، تفاعل المغردون في داخل إيران مع الوعود الرسمية بالانتقام، واصفين انتقادات المعارضة بـ”العمالة للجهات الأجنبية”، مطالبين الرأي العام الإيراني في الداخل والخارج بـ”الوقوف إلى جانب الوطن، ودعم الجهات العاملة على الذود عن أرضه ودم أبنائه”.