غزة- لا تبدو وفرة البضائع أو الانخفاض الذي طرأ على أسعارها الفاحشة أمرا مهما بالنسبة للسيدة نائلة حِلّس، المقيمة في مركز إيواء أنشئ داخل مدرسة بحي الدرج وسط مدينة غزة.
فبعد أكثر من 6 أشهر على بدء الحرب، لم تعد نائلة وأبناؤها يمتلكون المال لشراء السلع الجديدة التي سمحت إسرائيل بإدخالها للأسواق بعد ضغوط دولية.
وكانت عائلة السيدة الفلسطينية المكونة من نحو 20 شخصا تمتلك متجرا في حي الشجاعية شرقي مدينة غزة، يُدر عليهم دخلا جيدا قبل الحرب، قبل أن تدمره قوات الاحتلال بالإضافة لمنزلهم، فاضطروا للنزوح من مكان لآخر، إلى أن استقر بهم المقام في مركز الإيواء الحالي.
ولا ترى حلس فائدة من انخفاض السعر في غياب المال، وتقول للجزيرة نت “نرى البضائع بأعيننا، لكننا لا نستطيع شراءها، وانخفض السعر، لكن على الفاضي، لا يوجد مصاري (نقود)، ماذا نفعل؟” وتذكر أنهم كانوا يعتمدون على المتجر (السوبرماركت) كمصدر رزق يعتاشون منه ويكفيهم، لكنهم اليوم وبعد 7 أشهر من الحرب بلا مصدر دخل، “لا يوجد معنا شيكل واحد”، تتابع.
ومثل حال كثيرين من الذين كانوا من أصحاب الدخل المرتاح، باتوا لا يملكون حتى الطعام، تضيف المتحدثة ذاتها “الوضع صعب جدا أكثر مما تتصور، صحيح أن المواد الغذائية وصلت، لكن نحن منذ 7 أشهر بدون عمل، أولادي لا يعملون”.
بضائع دون مشترين
يقول مراقبون إن سماح إسرائيل بإدخال كميات أكبر من المواد الغذائية إلى شمالي قطاع غزة، استجابة لضغوط أميركية كبيرة، قد تسبب في توفر العديد من السلع وتخفيض الأسعار، وإن كانت لا تزال باهظة الثمن.
وعلى مدار الأشهر الماضية، وصل سكان شمالي القطاع البالغ عددهم قرابة 700 ألف شخص إلى حافة المجاعة، بحسب مؤسسات دولية، جراء تعمد سلطات الاحتلال إعاقة إدخال المواد التموينية، لكنّ السكان يقولون إن السماح بإدخال البضائع لم يحل المشكلة، نظرا لعدم امتلاك السكان المال الكافي للشراء.
وفي هذا الصدد يقول المواطن سعيد هزّاع، من مخيم جباليا للاجئين، إن البضائع بالفعل توفرت بالأسواق، لكن “لا مال لدى الناس، ولا يوجد سيولة نقدية”، كما أشار في حديثه للجزيرة نت إلى أن أسعار البضائع لا تزال مرتفعة وفوق مقدرة الناس على شرائها، رغم الانخفاض الذي طرأ عليها.
من أين سيأتي الناس بالمال للشراء بعد 7 أشهر من الحصار والبطالة؟، يتساءل هزاع، ليجيب بنفسه أن توفر المواد الغذائية مهم، لكن الأهم منه توفر المال مع الناس كي تشتري، ووصف الوضع الحالي بقوله “لا شيكل ولا فلوس”.
أما بالنسبة لإسماعيل قاسم، فقد أتاح له توفر الطحين العودة لافتتاح بسطته الخاصة بإنتاج المعجنات، في البلدة القديمة بمدينة غزة، لكنّ انتشار الفقر المدقع، يُقلل المشترين من بسطته بشكل كبير، ولا يسمح بانتعاش الأسواق.
ورغم وجود مواد غذائية، فإن الأوضاع لم تتحسن، والأيدي العاملة مفقودة، إما جرحى أو شهداء، أو نزحوا إلى الجنوب، يوضح قاسم للجزيرة نت.
ويبقى الإقبال ضعيفا جدا، بسبب غياب المال، وإغلاق المصالح، ونزوح معظم الناس، ومن توفر معه مال، فلن ينفقه في السوق، بل سيحتفظ به للمستقبل وللاحتياجات المهمة، يضيف قاسم.
القمامة بالأطنان
ولا تقتصر معاناة السكان على عدم توفر السلع التموينية وحالة الفقر المدقع، بل تتعداه إلى كثير من الإشكاليات، وأهمها تراكم كميات كبيرة من النفايات في الشوارع والنقص الحاد في كميات المياه، وتسرب مياه الصرف الصحي بين الطرقات، بالإضافة إلى تدمير البنية التحتية والمرافق الخدماتية.
وتتجمع نحو 100 ألف طن من النفايات في الشوارع، بسبب عدم قدرة البلدية على جمعها وترحيلها، كما أدى تدمير الاحتلال لنحو 125 آلية إلى “شلل شبه كامل” في قدرة البلدية على تقديم الخدمات للمواطنين، حسب بلدية غزة.
وأدى ارتفاع درجات الحرارة إلى سرعة تحلل النفايات وانتشار الروائح الكريهة والحشرات والقوارض الضارة، مما يتسبب بتفاقم الكارثة الصحية والبيئية في المدينة وانتشار الأمراض، حسب المصدر ذاته.
وفي هذا الصدد، تقول نائلة حلّس إن انتشار القمامة وتسرب مياه الصرف الصحي، يزيد من سوء الأوضاع في مركز الإيواء الذي تقيم فيه، وكشفت أن إحدى حفيداتها قد توفيت مؤخرا متأثرة بإصابتها بنزلة معوية، بسبب قلة النظافة في المركز، وتضيف “القمامة أمام الغرف، والحمير والحيوانات تزعجنا، والمياه المالحة التي تستخدم للتنظيف غير متوفرة، حياتنا صعبة جدا”.
أما سعيد هزاع، فيشكو من أن القمامة باتت في كل مكان، مشيرا إلى وجودها بين بسطات التجار، ويضيف “نضطر للمشي فوق القمامة، ونقفز من فوق مياه المجاري (الصرف الصحي)، الأمور تسير من سيئ إلى أسوأ”.
بدوره، يعتبر صانع المعجنات إسماعيل قاسم أن انتشار القمامة هي من أكبر المشاكل التي تواجهه في عمله، مضيفا “نعيش في بيئة غير صحية وصعبة جدا، والبعوض والقمامة في كل مكان، وهذا له تأثير على الوضع الاقتصادي”.
ويتسبب انتشار القمامة وتسرب مياه الصرف الصحي بالفعل في انتشار الأمراض، حسب تأكيد الممرض محمد الشيخ من المستشفى الأهلي العربي (المعمداني) للجزيرة نت مشيرا لاستقبال 4 حالات تشكو من آلام معدة، اليوم، والتهابات وحساسية على الجلد، بسبب قلة النظافة والقمامة والصرف الصحي والأطعمة الملوثة.
ويستقبل المستشفى بشكل يومي حالات جديدة بسبب التلوث البيئي المنتشر، حسب توضيحات الممرض نفسه، الذي حذّر من الانتشار الواسع لمرض التهاب الكبد الوبائي “أ” في شمالي القطاع، بسبب إجراءات الاحتلال التي تمنع البلدية والسلطات الحكومية من القيام بدورها في تجميع القمامة ومعالجة تسرب مياه الصرف الصحي.
انقطاع المياه مستمر
كل صباح، يستيقظ عبد الغني أبو نجيلة مبكرا، ليبدأ رحلة يومية مرهقة لتعبئة عدة جالونات من المياه للاستخدام المنزلي، وحينما يصل إلى الصنبور الذي يتم تغذيته من بئر جوفي يعمل على مولد كهربائي، يجد أمامه طابورا طويلا من السكان القادمين أيضا للحصول على الماء.
يقف أبو نجيلة كل يوم 4 أو 5 ساعات في الطابور، وقد تنقطع المياه قبل أن يأتي دوره، وقد ينتهي وقود المولد الكهربائي، وأحيانا تتعطل مضخة البئر، “إنها معاناة لا تنتهي” يؤكد.
وتقول البلدية إن قوات الاحتلال دمرت 75% من مصادر المياه في مدينة غزة، مما منع وصولها للمنازل بشكل مباشر، ويضطر السكان لتعبئة المياه من آبار صغيرة يمتلكها مواطنون في منازلهم، وتعمل على مولدات كهربائية.
ولا تكفي كمية المياه للجميع، ولذلك تكتفي العائلات بتعبئة عدد قليل من الجالونات، والاقتصاد في المياه بشكل كبير، وهو ما يوضحه أبو نجيلة بقوله “لا نستطيع العيش بدون المياه، لذلك نضطر للسير مسافات طويلة للوصول إلى الآبار لتعبئة كميات قليلة جدا من المياه”.