القدس المحتلة- مع كل دورة يعقدها مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، يُذكّر المشاركون بالوثائق الهامة المتصلة بمسألة نزاهة النظام القضائي، والمبادئ الأساسية المتعلقة باستقلال هذا النظام ودور المحامين وأعضاء النيابة العامة من أجل حماية الأشخاص الذين يتعرضون للسجن أو الاحتجاز.
لكن قافلة القضاء الإسرائيلي، بكل أقسامها، تسير منذ تأسيسها بعكس تيار هذه المبادئ، وتُجدّف منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول المنصرم بشكل أعنف أسقط كل مفاهيم العدل والحيادية التي يجب أن يتمتع بها أي جهاز قضائي.
فمنذ اندلاع معركة “طوفان الأقصى” بات القضاء أحد الأذرع التي تنفذ سياسات التيارات اليهودية المتطرفة، لكن قبل اندلاع الحرب أيضا، يرى المحامي المختص في شؤون القدس خالد زبارقة، أن القضاء الإسرائيلي كان أحد الأذرع المستخدمة في تمرير مخططات الاحتلال وتنفيذ السياسات العامة “وهو جهاز مرتبط بالسياسة ولم يكن يوما مستقلا”.
إحكام القبضة
وتطرق زبارقة في حديثه للجزيرة نت إلى أن الخطوة الأخطر كانت زرع مندوبين في منظومة القضاء الإسرائيلي -التي تضم جهاز المحاكم والنيابة العامة والشرطة وقسم التحقيقات والمخابرات- عن التيارات اليمينية الأكثر تطرفا متمثلة بالوزيرين إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش.
“هذه التيارات يوجد لها مندوبون زُرعوا في منظومة القضاء الإسرائيلي، وهؤلاء لا ينفذون سياسات الاحتلال العامة فقط وإنما سياسات التيارات اليهودية المتطرفة بواسطة الجهاز القضائي” وفق زبارقة.
وأكد المحامي زبارقة أنه بعد السابع من أكتوبر تعزز خطاب ونفوذ هذه التيارات في القضاء الإسرائيلي مستغلين ما حدث، ويرى هؤلاء أنه يجب مواجهة الخطر بالقبضة الحديدية التي تمارسها الدولة بكل أذرعها بما فيها القضاء على العرب.
واليوم يضع القضاة -وفقا لزبارقة- كل الثقل على الأجهزة الأمنية باعتبارها المسؤولة عن الحفاظ على الأمن، وأصبحت قرارات القضاة في جلسات المحاكم تنسجم مع الإرادة الأمنية التي تكون دائما تعسفية وتبحث عن الاستحواذ والسيطرة والنفوذ وتمرير المخططات، “وإذا كان الجهاز القضائي سابقا يقف نوعا ما في وجه التعسف السلطوي فهو الآن يمرره فقط”.
ويحدث كل ذلك في أروقة هذا الجهاز -حسب زبارقة- لأن إسرائيل تطلق على هذه المرحلة اسم “الحسم”، فهي تريد في طريق وصولها إلى ذروة هذه المرحلة أن تحسم كل الملفات ومن بينها الوجود العربي في القدس.
وقال إنه لا يمكن إغفال الخطوة التي اندلعت من أجلها احتجاجات واسعة في الشارع الإسرائيلي خلال العام الذي سبق اندلاع الحرب وثورته على التعديلات القضائية عند الحديث عن “حجة المعقولية”.
استهداف الوجود
“كانت هناك محاولات لإجراء تغييرات في الجهاز القضائي ليكون أداة بيد السلطة السياسية لتمرير مخططات الاحتلال، وبعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول نشط الحديث مجددا عن هذه التعديلات من طرف التيارات اليهودية المتطرفة، فاختار القضاء أن ينسجم مع توجهاتها لا أن يلجمها” يضيف المحامي زبارقة.
وذكر أن المقدسيين دفعوا في نهاية المطاف ثمن هذا الانسجام بسلب حرياتهم وأموالهم وفرض غرامات غير مسبوقة عليهم، من أجل الوصول إلى الهدف الأكبر وهو استهداف وجودهم في القدس وتقليصه إلى الحد الأدنى.
وليس بعيدا عن ذلك لاحظ المحامي في مركز العمل المجتمعي التابع لجامعة القدس محمد شهابي، تغييرات كبيرة في طريقة تعامل المحاكم والدوائر الحكومية الإسرائيلية المختلفة مع ملفات المقدسيين منذ اندلاع الحرب، وعلى رأسها وزارة الداخلية الإسرائيلية التي أعاقت سير الكثير من الملفات بسبب طلباتها التعجيزية.
“لاحظنا تغييرا في تطبيق القانون، فهناك فجوة كبيرة في هذا الإطار قبل السابع من أكتوبر وبعده، وفي ملفات الداخلية خاصة تلك المتعلقة بمعاملات لم الشمل لمستُ الاتجاه نحو مطالبة المقدسيين بتوفير أوراق ثبوتية أكثر وبعض هذه الطلبات تعجيزي، كما أن الكثير من الفلسطينيين ممن يملكون تصاريح إقامة في القدس انتظروا بعد انتهائها لـ4 أشهر للحصول على أخرى جديدة بادعاء أن المخابرات الإسرائيلية تجري فحصا أمنيا على الشخص”.
تمييز وعنصرية
ووصف شهابي تعامل وزارة الداخلية مع المقدسيين قبل الحرب بالسيئ وبعد الحرب بالأكثر سوءا، وأشار إلى أنه واجه في بداية الحرب إقدام إحدى القاضيات على شطب قرار قاضية أخرى أصدرت قرارا لصالح أحد موكليه من المحكمة ذاتها.
وهذا يدل وفقا للمحامي المقدسي “على تصرف القضاء الإسرائيلي بطريقة تمييزية وعنصرية ضد العرب”، مؤكدا أن ذلك “انسحب على كافة الملفات التي تتعلق بحياة المقدسيين اليومية بدءا من موضوع مخالفات البناء غير المرخص وأوامر الهدم مرورا بإجراءات الترخيص والبناء وليس انتهاء بملفات المخالفات والاعتقالات التعسفية”.
ويؤكد شهابي أن القضاء والدوائر الرسمية استغلت الحرب ذريعة للانتقام من أهالي المدينة المقدسة، ففي ظل انشغال العالم بما يجري في غزة وعدم تسليط الضوء إعلاميا بما يكفي على ما يجري في القدس استغلت كافة الجهات هذه الظروف من أجل الاستمرار في تنفيذ سياسات التهجير.
وهكذا وجد المقدسيون أنفسهم أمام تضييقات غير مسبوقة، وحملات جباية لم يشهدوا لها مثيلا قبل اندلاع الحرب بهدف تفريغ جيوبهم من أجل سد العجز في ميزانية الدولة التي قررت توسيع رقعة الحرب الجغرافية لا إنهاءها.