“إن إسرائيل لا يمكنها إعلان النصر في هذه الحرب، فقد كان بوسع حسن نصر الله الخروج في اليوم التالي معلنًا انتصاره”.
- آفي ديختر وزير الأمن الداخلي في إسرائيل، وبلاده على مشارف الانسحاب من لبنان في أغسطس/آب 2006
في الأول من أكتوبر/تشرين الأول الجاري، بدأت إسرائيل غزوها البري للبنان الذي وصفته بأنه “عملية عسكرية محدودة”، وهو ما يعيد إلى الأذهان الاجتياحات الإسرائيلية للأراضي اللبنانية في العقود الماضية، وآخرها في يوليو/تموز 2006.
وذلك حين غزا الجيش الإسرائيلي، متسلحا بعتاده المتقدم والدعم المالي والتقني الأميركي، الأراضي اللبنانية بغية تقويض حزب الله، الذي كان حينها لا يزال قوة صاعدة أقل عددا وعتادا مما هو عليه الآن.
اقرأ أيضا
list of 2 items
“المسيح سيخلف نتنياهو”.. هكذا تحيي إسرائيل الحلم التوراتي بإعادة احتلال لبنان
عملية يافا.. كيف يغيّر الفدائيون مسار الحروب؟
end of list
وبالرغم من هذا التفاوت الكبير بين الجبهتين، تمكن حزب الله من إلحاق هزيمة بإسرائيل وأجبرها على الانسحاب في غضون 33 يوما فقط.
حينها قارن المراقبون الإسرائيليون تلك الحرب بحرب فيتنام، بل أطلق عليها بعضهم “فيتنام إسرائيل”.
فكما تمكنت قوات فيتنامية غير نظامية من هزيمة الجيش الأميركي الأقوى عالميا وإجباره على الانسحاب من فيتنام ملحقة به أكبر وصمة في تاريخه، هزّ حزب الله مكانة الجيش الإسرائيلي بشكل غير مسبوق وطرح أسئلة جدية حول قدرته على الردع، بل وأثار الشكوك حول دور إسرائيل ومكانتها في المنطقة، بإقرار “لجنة الخارجية والأمن في الكنيست الإسرائيلي” في تقريرها الصادر في ديسمبر/كانون الأول عام 2007، بعد عام ونيف على الحرب.
في هذا التقرير نستحضر نموذج معركة 2006، التي يُطلق عليها حرب لبنان الثانية، أو حرب تموز، والتي تمكنت فيها المقاومة اللبنانية ممثلة في حزب الله من إعادة الجيش الإسرائيلي منكسرا وخالي الوفاض بعد مغامرة قصيرة في أراضي لبنان.
يوفر لنا هذا النموذج فرصة لإضاءة بنك التوقعات التي تصاحب عملية الاجتياح الحالية.
صحيح أن ظروفا كثيرة تغيرت، قد يكون أهمها غياب زعيم الحزب حسن نصر الله بعد اغتياله، ووجود حكومة إسرائيلية توصف بأنها الأكثر تطرفا في تاريخ إسرائيل، والتي يرأسها بنيامين نتنياهو، والذي يبدو أنه على استعداد لأن يحارب حتى الرمق الأخير.
لكن تظل هناك معادلات حاكمة لهذا الصراع، أبرزها أنه لا يزال صراعًا بين جيش نظامي تدعمه قوى دولية كبرى وجماعة مسلحة ذات حلفاء إقليميين، وفي بيئة اتسعت فيها الجبهات، ويحوطها توتر جيو استراتيجي متفاقم.
ويظل العامل الأخطر هذه المرة هو الارتباك الذي لا بد أن حزب الله يمر به، جراء الضربات المصممة لقطع أنظمة اتصالاته، وتفريغ قياداته، والتي سبقت مباشرة إعلان الغزو الإسرائيلي. وهو ما يجعلنا نتساءل: هل يمكن أن تعود الكرّة مرة أخرى ويغرق نتنياهو في “مستنقع الشمال”؟ أم أن الأمر مختلف هذه المرة؟
إذلال لم تنسه إسرائيل
بدأت إسرائيل عدوانها على الجنوب اللبناني في 12 يوليو/تموز 2006، على خلفية نجاح حزب الله في أسر جنديين إسرائيليين عبر الحدود الشمالية، بغرض مبادلتهم بمعتقلين في السجون الإسرائيلية؛ إلا أن تل أبيب رفضت التفاوض وقررت بدلا من ذلك اللجوء إلى لغة الحرب التي تفضلها، لتبدأ المعركة بقصف جوي إسرائيلي مكثف وحصار بحري، تبعه توغل بري في الجنوب اللبناني.
لطالما كانت العودة إلى لبنان حلما يراود القادة الإسرائيليين بعد أن أُجبروا على الانسحاب من البلد العربي الصغير بعد 18 عاما من غزوه عام 1982.
وكان احتلال إسرائيل للأراضي اللبنانية حينها هو الشرارة التي حفزت ظهور المقاومة غير النظامية الأكثر شراسة والأفضل تجهيزا ضد إسرائيل حتى ذلك الحين ممثلة في حزب الله، الذي أدّى دورا بارزا في إنهاء الاحتلال الإسرائيلي للبنان.
وفي أعقاب انسحاب إسرائيل، ألقى حسن نصر الله خطابا شهيرا في مدينة بنت جبيل المحررة، عرف باسم “خطاب بيت العنكبوت” أعلن فيه الانتصار على إسرائيل وأذلها خطابيا بعد أن أذاقها البأس ميدانيا بقوله: “إن إسرائيل التي تملك أسلحةً نووية وأقوى سلاح جو في المنطقة، هي أوهن من بيت العنكبوت”.
منذ ذلك الوقت حلمت إسرائيل بهزيمة حزب الله في عقر داره، ورفع العلم الإسرائيلي في بلدة بنت جبيل التي ألقى بها نصر الله خطابه المحفور في الذاكرة.
وبهذه النية حاولت القوات الإسرائيلية السيطرة على منطقة بنت جبيل في يوم 24 يوليو/تموز عام 2006 إبان الحرب اللبنانية الثانية، إلا أنها خاضت مع مقاومة حزب الله واحدة من أشرس المعارك، انتهت بمقتل 13 جنديًّا إسرائيليًّا وإصابة العشرات؛ مما اضطر القوات الإسرائيلية إلى الانسحاب من بنت جبيل بحلول يوم 29 يوليو/تموز.
بيد أن أهداف إسرائيل من حرب تموز كانت تتجاوز محاولة محو الإذلال الذي تعرضت له في لبنان، نحو تحقيق أهداف إستراتيجية أوسع نطاقا. وشملت الأهداف المعلنة الإفراج غير المشروط عن الأسرى الإسرائيليين وتدمير حزب الله ونزع سلاحه وإنهاء تهديده للحدود الشمالية للاحتلال، وفيما وراء كل ذلك، كان هناك هدف كبير غير معلن هو استعادة إسرائيل لقدرتها على الردع العسكري، التي تضررت بشدة بعد انسحابها مجبرة من قطاع غزة عام 2005.
غير أن دولة الاحتلال لم تتمكن من تحقيق أي من هذه الأهداف، وحتى هدف إطلاق سراح الأسرى لم يتحقق إلا بعد مرور زهاء عامين على الحرب، وليس عن طريق القتال كما أرادت إسرائيل، ولكن عبر المفاوضات غير المباشرة تماما كما أراد حزب الله. كما خسرت إسرائيل 121 جنديا في المعارك، إضافة إلى 44 آخرين قتل معظمهم بفعل صواريخ حزب الله التي حلقت فوق رؤوس الإسرائيليين في المدن الفلسطينية المحتلة، ولم تتوقف إلا مع صدور القرار الأممي رقم 1701 القاضي بوقف إطلاق النار في 11 أغسطس/آب 2006، بعد 33 يوما من الإذلال العلني لجيش طالما ادعى أنه لا يقهر.
من الكاتيوشا إلى الكورنيت
ومن فضول القول، أن حرب تموز لم تنجح في تقويض قدرات حزب الله، التي نمت وازدهرت بوضوح منذ ذلك الحين، حتى أصبح الحزب اليوم يمتلك ترسانة ضخمة من الصواريخ تقدر بما يزيد على 150 ألف صاروخ بحسب التقديرات الإسرائيلية، وهو عشرة أَضعاف ما كان يملكه عام 2006 (حوالي 14 ألف قذيفة متنوعة المدى)، كما ضاعف الحزب عدد مقاتليه من أقل من 10 آلاف مقاتل (5 آلاف في بعض التقديرات) إلى زهاء 100 مقاتل اليوم، فضلًا عن الطفرات التقنية والتكتيكية التي حققها منذ ذلك الحين.
أكثر من ذلك، أعطت تلك الحرب فرصة غير مسبوقة للحزب اللبناني لاستعراض قوته.
لقد شهدت الحرب قيام حزب الله للمرة الأولى بإطلاق صواريخه باتجاه “الأجواء الإسرائيلية” وكان هذا أول تهديد صاروخي حقيقي لإسرائيل منذ صواريخ سكود العراقية التي أطلقها صدام حسين من العراق عام 1991، حيث لم تكن صواريخ المقاومة الفلسطينية الناشئة آنذاك (أُطلق أول صاروخ من حركة حماس نحو الأراضي المحتلة في عام 2001) قد بلغت المدى الذي تشكل معه تهديدا حقيقيا.
إلى درجة أن تقرير مجموعة الأزمات الدولية الصادر في 25 يوليو/تموز 2006 وصف ترسانة حزب الله العسكرية في ذلك الوقت بأنها “ترسانة مخيفة يمكن لها أن تهدد أمن مستوطنات الشمال الإسرائيلي” الذي أُجبر سكانه على ترك منازلهم والاحتماء بالملاجئ.
كان الكاتيوشا هو بطل تلك الحرب بلا منازع. والكاتيوشا قذائف صاروخية روسية الأصل يصل مداها إلى 40 كيلومترا، وبإمكانها حمل رأس حربي يزن 20 كيلوغراما من المواد المتفجرة، وقد أطلق حزب الله منها زهاء 3500 قذيفة على مدار الحرب، بعد أن كدسها في مخابئ ومواقع إستراتيجية جاهزة للإطلاق في الجنوب اللبناني.
وإلى جانب الكاتيوشا، أطلق الحزب 700 صاروخ من طرز أخرى متنوعة يتراوح مداها بين 40 و200 كيلومتر، مع حمولة تصل إلى 600 كيلوغرام من المتفجرات، على رأسها صواريخ “فجر-5” التي استخدمها حزب الله لأول مرة في هذه الحرب، مع مدى يبلغ 75 كيلومترا ورأس حربي يزن 90 كيلوغراما.
كما استخدم الحزب أيضا نوعا من صواريخ غراد غير الموجهة، وهي صواريخ سوفيتية تعود إلى الخمسينيات ويصل مداها إلى 20 كيلومترا وتعد من أكثر الصواريخ انتشارا منذ ظهورها، ورغم ضعف دقتها فإنه يمكن توجيهها بنجاح من المسافات القصيرة فضلا عن سهولة نقلها وإمكانية إطلاقها بشكل متزامن.
هذا فضلا عن مجموعة متنوعة من الصواريخ المضادة للسفن أهمها صواريخ “سي-802” (C-802) الصينية المنشأ، التي يصل مداها إلى 120 كيلومترا، وهي مزودة برأس حربي يزن 165 كيلوغراما، وقد مكنت حزب الله من استهداف الفرقاطة الإسرائيلية “آي إن إس خانيت” أو “الرمح”، وهي إحدى ثلاث فرقاطات من طراز “ساعر 5” بنتها شركة نورثروب غرومان للجيش الإسرائيلي، وتكلف الواحدة منها أكثر من 250 مليون دولار؛ لذا فإن تدميرها فرض هيمنة نفسية مبكرة لحزب الله على مجريات الحرب.
في غضون ذلك، ساعدت الصواريخ الموجهة المضادة للدبابات حزب الله على تحقيق نجاحات تكتيكية مهمة في المعارك البرية، وأهمها منظومة صواريخ “كورنيت” الروسية المنشأ، التي يصل مداها إلى 10 كيلومترات، والتي اخترقت المدرعات والمواقع الحصينة، وألحقت خسائر كبيرة بصفوف مشاة الجيش الإسرائيلي.
وقد ذكر الدكتور يوسف نصر الله في كتابه “الحرب النفسية: قراءات في إستراتيجيات حزب الله”، أن الجنود الإسرائيليين كانوا يخشون الوجود في الوحدات القتالية التي تتطلب الاشتباك المباشر مع المقاومة، ومنها سلاح المدرعات (الميركافا)، إذ تحولت هذه الأسلحة إلى توابيت متنقلة، بفعل القذائف المضادة للدبابات، وفي مقدمتها الكورنيت.
أسرار الحرب الهجينة
يدفعنا ذلك إلى التساؤل عن السبب الذي يجعل قوة غير نظامية أقل عددا وتجهيزا، قادرة على إلحاق الهزيمة بجيش نظامي متفوق. ويكمن الجواب في تكتيكات الحرب غير التقليدية التي أتقنها حزب الله منذ نشأته، والتي عانى منها الجيش الإسرائيلي في المقابل.
عن ذلك يقول الباحث الإسرائيلي رون بن يشاي إن الأزمة في الحرب بين قوات عسكرية نظامية وجماعات عسكرية غير تقليدية، تكمن في أن كافة الأساليب العسكرية المُتبعة عادة في الحروب التي من شأنها أن تقوض القوى الدفاعية لهذه الجماعات، لا تحقق النتائج المرجوة منها.
كان يشاي يشير إلى ما يُعرف اليوم بـ”الحروب الهجينة”، وهي إستراتيجية تمزج بين وسائل الحرب التقليدية وتكتيكات “حروب العصابات”، وفيها لا تتحكم الفوارق في العدد والعتاد وحدها في نتائج المعركة.
إذ تعتمد المعارك على التكيف وتكتيكات الكر والفر والاختفاء والظهور وإعداد الكمائن، وبالتالي تصبح المرونة التنظيمية والخفة والقدرة على التكيف عوامل مؤثرة، بل حاسمة.
إذا قمنا بتحليل عمليات حزب الله في حرب 2006، فسنجد أنها أظهرت تنوعا ملحوظا بين أنماط القتال المختلفة بما يشمل الكمائن البسيطة أو المركبة، والاستدراج نحو الفخاخ بأنواعها، والغارات البسيطة والمعقدة، والهجمات عبر الخنادق وغيرها، وهي إستراتيجية تهدف إلى مفاجأة العدو، وجعله غير قادر على التنبؤ بتحركات القوات في ميدان المعركة.
في الوقت ذاته، اعتمد الحزب على مبدأ عدم إخلاء الميدان وأن يكون لكل نقطة مقاتلوها وفقًا لطبيعتها وخبرة المقاتلين، وهو ما جعل قوات العدو غير قادرة على التشبث بالأراضي التي تصل إليها، ويذكرنا ذلك بالمعارك التي تخوضها كتائب القسام والمقاومة الفلسطينية في قطاع غزة ضد قوات الاحتلال منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي.
ما ساعد حزب الله على فعل ذلك هو معرفته الكبيرة بالجغرافيا ونجاحه في تطويعها لصالحه، وهو مبدأ أساسي للحروب الهجينة أو الحروب غير المتكافئة، فاستخدم مقاتلوه الكهوف والأشجار والنباتات لإخفاء تحركاتهم، كما استفادوا من شبكة معدة جيدا من المخابئ والأنفاق في المناورات الحربية وإعداد الكمائن، واستغلّوها أيضا في عمليات إطلاق الصواريخ ونقل المعدات بشكلٍ آمن نسبيًّا.
كانت عملية إطلاق الصواريخ نفسها مدروسة ومحسوبة وليست عشوائية أو اعتباطية، فقد تمت الاستعانة بها إلى جانب مسيّرات من طراز “مرصاد” في تدمير البنى التحتية الإسرائيلية المهمة.
كما استمر قصف الشمال الإسرائيلي بالصواريخ طوال مدة الحرب لإيجاد تأثير نفسي هائل، ووُظفت القذائف المضادة للدبابات في المعارك البرية بفاعلية؛ مما أثمر تدمير نحو 20 دبابة إسرائيلية على مدار الزمن القصير للحرب.
أضف إلى ذلك ما أشار إليه الدكتور يوسف نصر الله في كتابه المذكور سابقا حول امتلاك حزب الله لقدرات جيدة في مجالات الإشارات اللاسلكية ومكافحة التجسس، كان لها بالغ الأثر في سير العمليات البرية؛ إذ جعلته قادرًا على التنبؤ بالمكان والزمان الصحيح الذي ستهاجم فيه المقاتلات والقاذفات الإسرائيلية.
يعضد ذلك النتائج التي خلصت إليها ورقة بحثية تفصيلية كتبها جيفري فريدمان وستيفن بيدل بعنوان “حملة لبنان 2006 ومستقبل الحروب”.
حيث أشار الكاتبان إلى أن حزب الله كثف اعتماده على اثنين من الأسلحة المهمة في حرب 2006، الأول هو مدافع الهاون، التي استخدم منها ما لا يقل عن 120 قذيفة في قرية مركبا للهجوم على إحدى وحدات الجيش الإسرائيلي، والثاني حقول الألغام التي قام مجندو الحزب بزراعتها عبر مساحات واسعة في الجنوب اللبناني.
وتعد معركة بلدة مارون الراس في 20 يوليو/تموز، خير مثال على ذلك، إذ استغل مقاتلو الحزب الألغام المزروعة بدقة في الطرق الرئيسية للإيقاع بقوات الجيش الإسرائيلي أثناء تقدمها، وكان ذلك جزءًا من الخطة التي أعدوها للدفاع عن البلدة.
في النهاية، تفوق التنظيم الدقيق لحزب الله رغم ضعف العتاد، على القوة الباطشة للجيش الإسرائيلي الذي راهن رهانا خطيرا على انهيار حزب الله مبكرا.
ووفقا للعقيد المتقاعد في سلاح الجو الإسرائيلي غور لايش، كانت إستراتيجية إسرائيل متمحورة حول شن غارات جوية على البنى التحتية العسكرية لحزب الله في الجنوب اللبناني لتقويض قدراته الرئيسية، ومن ثم تتبعها العمليات البرية، التي كان من المفترض أن تستكمل أهداف هذه الحرب بتدمير قدرات حزب الله.
إلا أن الحزب -باعترافِ غور لايش- لم ينهر، بل حافظ على طابعه المنظم طوال فترة العمليات، وهذا على العكس من الجيش الإسرائيلي الذي لم يلتزم بإستراتيجية متماسكة موحدة.
المواجهة القادمة
أحدثت هزيمة إسرائيل في حرب لبنان الثانية زلزالا داخليا عنيفا، وحفزت إجراء 50 تحقيقًا داخليا لمراجعة أوجه القصور والإخفاقات والاستفادة منها في التجهيز للمواجهة القادمة مع “حزب الله”.
وفي عام 2017، نشر العقيد احتياط في الجيش الإسرائيلي غابي سيبوني، ورقة بحثية في معهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي، تناول فيها التقييمات والمراجعات الإسرائيلية المتعلقة بحرب تموز وكيف أثرت في بناء وتشغيل وحوكمة الجيش الإسرائيلي، الذي عانى من مشكلات عديدة متعلقة بالسيطرة وغياب التنسيق بين القيادة العامة والقيادة الميدانية، والفشل في العمليات العميقة داخل الحدود اللبنانية.
أشار سيبوني إلى أن إصدار وثيقة “إستراتيجية الجيش الإسرائيلي” عام 2015، جاء في إطار وضع أسس جديدة لقيادة العمليات بعد الانقسام الذي شهدته القيادة العسكرية الإسرائيلية في حرب تموز، مضيفا أن تأسيس لواء عوز عام 2015، وهو اللواء المكرس كليًّا للعمليات الخاصة، قد جاء ثمرة لهذه المراجعات بهدف تحسين أداء الجيش في المعارك البرية وتعزيز فعالية العمليات الخاصة.
ومع اندلاع العدوان الإسرائيلي الحالي على لبنان، كانت إحدى الوحدات الخاصة التابعة للواء عوز، وهي وحدة الكوماندوز الإسرائيلية (إيغوز)، في طليعة المواجهات البرية مع مقاتلي حزب الله.
وكما هو واضح، أعدت لهذه المواجهة طويلا منذ عام 2006، إلى درجة أن الجيش أدرج في 2019 مفهوما عملياتيا جديدا باسم “خطة الزخم” يصنف حزب الله على أنه العدو الرئيسي للدولة العبرية، وتضمن وضع قوائم أهداف واسعة، تسمح بتدمير قدرات حزب الله العسكرية في حالة اندلاع صراع مستقبلي.
قوائم الأهداف الواسعة تلك اتضحت تفاصيلها أكثر إثر سلسلة الهجمات التي نفذتها إسرائيل واستبقت بها الاجتياح البري، مثل تفجيرات أجهزة النداء (البيجر) واللاسلكي، واغتيال قيادات الحزب وعلى رأسهم الأمين العام حسن نصر الله، وهو ما منح إسرائيل زخما ونشوة مبكرة في افتتاح المعارك، لكن من غير المضمون أن يستمر هذا الزخم إذا ما قررت إسرائيل إطالة أمد عملياتها البرية.
لقد أثبتت حرب عام 2006 أن المعارك البرية في لبنان ليست نزهة، وأن حزب الله لديه من المرونة ما يكفي لتجاوز آثار الضربة الإسرائيلية المبكرة واستعادة التوازن تدريجيا إذا طال أمد القتال، خاصة في ساحة يعرفها أكثر من خصومه.
وقد ظهرت مؤشرات على ذلك في اشتباكات اليومين الماضيين، بعدما استهدف حزب الله قوات جيش الاحتلال المتوغلة في الأراضي اللبنانية، بما في ذلك وحدة الكوماندوز التابعة للواء عوز، مسقطا 8 من ضباطها وجنودها في كمائن متقنة، وهو سيناريو مرشح للتكرار كلما طال أمد الحرب.
هناك تشابه أخير لا يمكن تجاهله بين الحرب الحالية وحرب عام 2006، تظهره نتائج لجنة فينوغراد لبحث وتقصي الحقائق في إخفاقات الجيش الإسرائيلي في حرب تموز، التي أشارت إلى ثغرة خطيرة في العدوان الذي شنته إسرائيل على لبنان، وهي عدم امتلاكها لإستراتيجية خروج واضحة إذا لم تسر الأمور على ما يرام.
وتعد هذه نقطة ضعف تاريخية لدى العسكرية الإسرائيلية التي تبرع في شن الحروب أكثر مما تبرع في إنهائها ولا أدل على ذلك من حرب غزة التي شارفت على عامها الأول. وإذا قررت إسرائيل التمادي في لبنان أبعد من “عمليتها المحدودة” حتى يستعيد حزب الله توازنه، فليس من المستبعد أن يكون ما لقيته في غزة أقرب إلى نزهة بالمقارنة مع ما ستواجهه في مستنقع الشمال.