يفتتح الممثل والمخرج الفلسطيني حسام المدهون المقيم في غزة، مدونته على موقع ميديابارت، بخبر حصوله على كيس من الطحين بـ5 أضعاف السعر العادي، ويصف فيها بالتفصيل حياة سكان غزة اليومية وحال أهلها تحت الحصار والقصف المستمر ليل نهار.
5 ديسمبر: تأثير الفراشة
يصف الكاتب كيف حصل على كيس يكفي لمدة أسبوعين لتغذية 18 شخصا في المنزل، على أمل الحصول على نصف قنينة غاز للطبخ قد تكفي لمدة 10 أيام بـ3 أضعاف السعر الأصلي، وكيف بدأ الناس في قطع الأشجار الحية للحصول على الحطب، مستنتجا أن غزة المسكينة لن تبقى فيها شجرة، حيث أشجار الزيتون مقطوعة وأشجار الشوارع كلها جرفت، لأن المواقف اليائسة تدفع الناس دائما إلى اتخاذ إجراءات يائسة.
المواقف اليائسة تدفع الناس دائما إلى اتخاذ إجراءات يائسة.
وفي طريق العودة من السوق، وفي العربة الخشبية التي يجرها حمار هزيل وضعيف، يصف الكاتب فراشة بيضاء صغيرة تطير جنبا إلى جنب مع الحمار، يسره منظرها قبل أن يتذكر أن الفراشة البيضاء في بعض الثقافات هي علامة على الموت الوشيك، و”مع أنني لا أؤمن بهذه الخرافات فإن الفكرة لم تفارقني” كما يقول.
“في الليلة الماضية، استشهد أكثر من 500 إنسان في غزة، من شمالها إلى جنوبها، وكان أغلبهم من الأطفال والنساء، وفي الوقت الذي أكتب فيه هذه السطور، لم يتوقف القصف ونيران المدفعية من حولي، ومئات الأشخاص يُقتلون، وربما أنا وعائلتي سنكون جزءًا منهم من يدري؟ كل الذين قتلوا، أكثر من 22 ألف إنسان، خلال ما مضى من أيام الحرب، لم يكونوا يعلمون أنهم سيقتلون بهذه الطريقة الوحشية”.
9 ديسمبر.. المأوى أم السوق؟
تعريف الملجأ في قاموس أكسفورد الإنجليزي هو “مأوى هيكل يوفر الحماية ضد المطر أو الرياح أو الشمس، وبالمعنى الواسع، هو أي شيء يكون بمثابة شاشة أو ملجأ يقي من سوء الأحوال الجوية”.
لكن تعريف الملجأ في غزة مختلف، فالملجأ في غزة عبارة عن مدرسة، وهي عبارة عن مبنى من طابقين، مع 3 صفوف من الفصول الدراسية وساحة أمامية للعب الطلاب.
وبسبب الهجمات العسكرية العديدة على غزة، قامت الأونروا بتخصيص عدة مدارس كملاجئ في زمن الحرب. وقاموا بتركيب ألواح شمسية وبئر مياه و14 مرحاضا في كل مدرسة، وأعدوا كل مدرسة لإيواء ما بين 900 و1000 نازح.
ومن بين 400 مدرسة في غزة، هناك حوالي 65 مدرسة جاهزة للعمل كملاجئ، لكن اليوم، أصبحت المدارس الـ400 بمثابة ملاجئ، تؤوي كل منها أكثر من 5000 شخص، من رجال ونساء وأطفال وذوي إعاقة وحوامل وكبار سن وطريحي فراش وجرحى ومرضعات، وبنوا في داخل الساحات خياما مصنوعة من قطع القماش أو الأغطية البلاستيكية أو البطانيات أو المواد المختلطة.
وفي وسط هذه الحشود، يشعل الناس النيران لطهي طعامهم، مما يخلق سحابة من الدخان، ويصطف مئات الأشخاص خارج المراحيض للحصول على فرصة للراحة، وأطفالهم يتبولون بين الخيام أو بجانب جدار المدرسة، أما الاستحمام فهو حلم قد لا يتحقق لأسابيع. وتنتشر الأمراض المنقولة بالمياه والأمراض الجلدية بين الناس، خاصة الأطفال والمرضى وكبار السن.
وفي الليل، تُخصص الفصول الدراسية للنساء والأطفال، ويجب على الرجال قضاء الليل في الخارج، هناك الأوساخ والقمامة والطين والطمي في كل مكان، تذكرني الروائح برواية العطر لباتريك سوسكيند، التي تصف الأوساخ والروائح الكريهة في باريس منذ قرون، وأمام الملجأ خصص سائقو الحمير مكانا يشبه محطة النقل، بعد أن أصبح الحمير وسيلة النقل الوحيدة في ظل عدم توفر الوقود للمركبات؟.
قبل شهرين كان هذا السوق نظيفا وحديثا للغاية، أما اليوم فتبدو مدارس وسوق النصيرات شبيهة تماما بالسوق الباريسي قبل 200 عام، باريس كما وصفها سوسكيند في عطره، مثل الحياة في باريس قبل الثورة. هذا ما فعلته إسرائيل، وهذا ما تريده.
10 ديسمبر: المجاعة
لم يعد هناك سوق بعد أن تم تدمير المتاجر أو إغلاقها أو نفد ما فيها، ولم يدخل سوى عدد قليل من المنتجات الغذائية بفضل الأونروا، ليتم توزيعها على النازحين في بعض المدارس، حيث الناس يملؤون جميع مدارس الأونروا، وجميع المدارس الحكومية، وجميع الأندية الرياضية، وجميع الكليات والجامعات التي لم يتم تدميرها بعد، وكل الشوارع، في حين تقوم الأونروا بتوزيع مساعداتها على مدارسها المخصصة كملاجئ.
ولكن ماذا عن البسكويت والآيس كريم والشوكولاتة والحلوى ومنتجات الألبان والمعجنات والكعك والعلكة والفاكهة بجميع أنواعها والقهوة وغاز الطبخ ووقود السيارات ومولدات الكهرباء أو الآلات والملابس الشتوية والمراتب والبطانيات والسجاد والأغطية البلاستيكية والبيض وعصائر الفاكهة؟.
12 ديسمبر 2023: الابن السيئ
يصف المدون كيف كانت والدته (83 عاما) وهي طريحة الفراش غاضبة منه، لأنه لم يعدها إلى المنزل، دون أن تتقبل أن هذا أصبح مستحيلا منذ أن غادرنا منزلنا في غزة يوم 12 أكتوبر/تشرين الأول وأتينا إلى مخيم النصيرات.
وأخبرتها عدة مرات أن الجيش الإسرائيلي عزل غزة والشمال من خلال قطع الطريق عند مفترق نتساريم بين شمال غزة ووسط القطاع.
الأم لا تصدقه وكل ما يقوله يزيد غضبها، لأنها لا تعلم -كما يقول- أن الوصول إلى القمر قد يكون أسهل اليوم من الوصول إلى غزة دون أن تصاب برصاصة قناص أو تقتل بقذيفة أو قصف.
تقول الأم “أنت لم تعد كما كنت من قبل. منذ أن وصلنا هنا، منعتني من رؤية بناتي وأبنائي وأحفادي، في منزلي، كانوا يأتون كل يوم، وكنت أراهم كل يوم، والآن لا أرى أحدا، ولا أتصل بأي شخص. لقد حرمتني من كل شيء، ولم تحضر لي القهوة ولا الحلوى ولا حتى أي فاكهة. وتزعم أن الإسرائيليين هم الذين يمنعون وصول الأشياء إلى غزة، كيف تريدني أن أصدقك؟”.
أم عمرها 83 عاما تخاطب ابنها: أنت لم تعد كما كنت من قبل. منذ أن وصلنا هنا، منعتني من رؤية بناتي وأبنائي وأحفادي، في منزلي، كانوا يأتون كل يوم، وكنت أراهم كل يوم، والآن لا أرى منهم أحدا، ولا أتصل بأي شخص. لقد حرمتني من كل شيء، ولم تحضر لي القهوة ولا الحلوى ولا حتى أي فاكهة. وتزعم أن الإسرائيليين هم الذين يمنعون وصول الأشياء إلى غزة، كيف تريدني أن أصدقك؟
ليقول الابن “أنا لا ألوم أمي، بل ألوم نفسي لأنني لم أتمكن من الطيران وعبور كل الحدود للوصول إلى مكان يمكنني العثور على الفواكه والشوكولاتة والحلوى والقهوة، وكل ما تتمناه أمي. ألوم نفسي لأنني لم أتمكن من الوصول إلى خان يونس أو دير البلح أو رفح وإحضار إخوتي وأخواتي إلى هناك حتى تتمكن والدتي من رؤيتهم. ألوم نفسي لأنني لا أملك عصا سحرية لإصلاح شبكة الاتصالات بموجة العصا السحرية. آسف يا أمي، سامحني فانا ابن سيئ”.
12 ديسمبر أيضا: الطفل وسائق الحمار والخبير العسكري
تقوم زوجتي عبير بعمل رائع في إدارة وتسهيل ودعم فريق كبير من المستشارين والاختصاصيين الاجتماعيين والممرضات والمعالجين الفيزيائيين والميسرين والمعالجين المهنيين وموظفي إعادة التأهيل في ملاجئ المنطقة بوسط غزة، وذلك بفضل عملها ضمن منظمة إنسانية، كما أقوم أنا بتقديم المراقبة والدعم لفريق من المرشدين والاختصاصيين الاجتماعيين في المنطقة الوسطى والجنوب من خلال عملي في مركز “معا” التنموي.
كان في استقبالنا الدكتور رأفت العايدي مدير مستشفى الوفاء في مخيم النصيرات، الذي يدير فريقا ضخما من الأطباء والممرضات والموظفين ويضمن قدر المستطاع كل ما يحتاجه المستشفى، وهو على اتصال يومي بالمنظمات غير الحكومية والجهات المانحة لضمان الحصول على الغذاء والاحتياجات الأساسية لموظفيه. وبما أنني وزوجتي ليس لدينا فروع لمنظماتنا في النصيرات، فلم يتردد في أن يقدم لنا مقرا مجهزا بالكهرباء والإنترنت لتسهيل عملنا.
بعد العمل يذهب المدون وزوجته إلى السوق لعلهم يشترون ما يحتاجونه، ثم يذهبون مشيا إلى البيت إن لم يجدوا عربة يجرها حمار، وفي هذا اليوم وجدوا حمارا متجها إلى منطقة السوارحة حيث يعيشون.
كان الحمار يقوده طفلان، أحدهما يبلغ من العمر حوالي 13 عاما والآخر يبلغ من العمر حوالي 9 سنوات، حددوا مبلغ الأجرة، وبعد دقائق قليلة سمعوا انفجارا ضخما أخافهم، فقالت عبير لا إراديا “لقد اقتربت”، فأجاب سائق الحمار الذي كان مرتاحا للغاية “لا، إنه على بعد كيلومتر على الأقل جنوبا، إنه بعيد”.
سألته عبير كيف عرفت؟ فقال الصبي أعرف. يجب أن تكوني قادرة على المعرفة أيضا، أهذه المرة الأولى التي تشهدين فيها حربا في غزة، ألست من هنا؟”، “هذا غريب، يجب أن تكوني قادرة على التعرف على صوت الانفجارات وقياس مكانها، ويجب أن تكوني قادرة على التمييز بين صوت الصواريخ والقذائف”.
عبير تسأله “ما اسمك؟” ليرد أحمد، وكم عمرك “9 سنوات”. هل تذهب إلى المدرسة؟ “ليس الآن لأنها جميعا أصبحت ملاجئ، لكن بالطبع أنا في السنة الرابعة ابتدائي في المدرسة”. ” ماذا تفعل الآن؟” “كما ترين أساعد عائلتي في الحصول على دخل بعد وفاة والدي”.
وتسأل عبير الولد “ماذا تعتقد أنه سيحدث يا أحمد؟” ليرد “حسنا، حلم الإسرائيليين هو رؤية غزة فارغة بأي وسيلة، وسيستمرون في الضرب والقصف والتدمير والقتل حتى يخرجونا أو يقتلونا جميعا”. لتسأل عبير أيضا “وماذا تعتقد أننا يجب أن نفعل؟” ليرد “افعلي ما نفعله نحن الآن ابقي وعيشي”.