في كتابه “سجناء الجغرافيا”، يذكر الكاتب والصحفي البريطاني تيم مارشال، ما دوّنه قيصر روسيا الخامس بطرس الأكبر في وصيته، من أن عليهم “الاقتراب كلما استطاعوا من القسطنطينية والهند، وأن عليهم إثارة الحروب باستمرار في تركيا وبلاد فارس، وأن عليهم أن يتغلغلوا حتى الخليج العربي، وأن من يحكم هناك سيكون صاحب السيادة الحقيقية على العالم”. ويبدو أن العراق هو البلد الذي ينسجم مع الشروط الجغرافية في وصية بطرس الأكبر.
العراق: بيئة السلام الرمادية
لم يكن الشرق الأوسط يومًا بيئة مستقلة عن القوى الكبرى الحاكمة للنظام الدولي، فكل صراع عالمي ينعكس على هذه المنطقة ويعيد تشكيلها مرحليًّا. بهذا، تكون دول الإقليم الضعيفة المسلوبة الإرادة، ساحة اشتباك وصراع لتحقيق مصالح القوى الفاعلة في البيئة الإستراتيجية العالمية، وهو ما ينطبق على العراق، الذي كسر عام 2003 توازن القوى في منطقة الشرق الأوسط.
ومع أن سكان الشرق الأوسط لا يمثلون سوى 8% من إجمالي سكان العالم، فإن 67% من قتلى الصراعات يسقطون فيه، ونحو 43% من إجمالي النازحين في العالم يخرجون منه، كما تقع في هذا الإقليم المنكوب 50% من إجمالي الهجمات الإرهابية في العالم، ويسقط فيها نحو 60% مـن إجمالي ضحايا الإرهاب في العالم.
ولا تكاد تهدئة تنضج في الشرق الأوسط، حتى يختل توازنه مجددًا على وقع تحول حرج يثير الاضطرابات، فيعيد تشكيل سياسات المنطقة، ويمهّد الطريق أمام نشوب تحوّل حرج آخر، في دورة من إنتاج الأزمات لا تتوقف. إذ أصبحت أوقات الهدوء في المنطقة كفترات كمون تتجمع فيها العاصفة تحت السطح، انتظارًا لشرارة تُخرجها للعلن؛ لتصنع مفاجآت غير متوقعة في مسارات الأحداث، ولا سيما مع الفجوة المعرفية لدى صناع السياسات أو دوائر البحث، فما نعرفه عما يجري في باطن المنطقة من تفاعلات غير مرئية أقل بكثير مما نراه ونعرفه عن ظاهرها.
هذه المؤشرات الفوضوية لبيئة السلام الرمادي الشرق أوسطية، تنعكس بمجملها على العراق، لموقعه المتميز في المعادلة الإقليمية والدولية.
القوى الإقليمية والتنافس على الهيمنة
ترتبط العلاقة بين التجاذب والتنافر في الشرق الأوسط بأنماط إدارة الصراع والتفاعل الدولي، والثابت علميًّا أن الصراع يديره من يؤسس له؛ لأنه يدرك مسبباته ومحركات توجيهه نحو الهدف الإستراتيجي. إذ يتأسس الصراع بين الوحدات الإقليمية في الشرق الأوسط، لأغراض التحكم وإعادة توزيع القوى في المنطقة، بما يفضي إلى الاستقرار الرمادي في الإقليم، والهدف في نهاية الأمر هو الحفاظ على الفارق في توزيع القدرات بين دول الإقليم، ثم الانتقال إلى المنافسة مع مركز الصراع. يقول مؤسس النظرية الواقعية البنيوية في حقل العلاقات الدولية، كينيث والتز: “إن الأنظمة الإقليمية المتعددة الأقطاب، التي تتكون من دول متساوية القوة تقريبًا، غير مستقرة؛ لأنها تميل جدًّا إلى العنف”.
يعتبر الجوار الجغرافي في البيئة الإقليمية عاملًا تكامليًّا، أو عاملًا تصارعيًّا بين الأطراف المتجاورة، وذلك بحسب طبيعة العلاقات التي تنتهجها الأطراف، وبحسب طبيعة المحددات التي تنطلق منها السياسات وقوة تأثيرها. وبالنسبة للبيئة الإقليمية التي يقع فيها العراق، فإنها لا تخرج عن تلك القاعدة، إذ تحكمه مجموعة من العوامل والمحددات التاريخية والجغرافية والدولية والاقتصادية والثقافية.
وللعراق أهمية إستراتيجية كبرى، لموقعه الإستراتيجي، ومكانه بين دول متنافسة ومتطلعة إلى الهيمنة الإقليمية، ولتعدد الأعراق والمذاهب فيه، وتباين علاقات القوة التي سادت وحكمته منذ التأسيس وحتى اليوم، إضافة إلى امتلاكه ثروات طبيعية وتمثيله عقدة جغرافية تربط الدول العربية بالقوى غير العربية الفاعلة مثلَ إيران وتركيا، وهي الأشد تأثيرًا في إقليم الشرق الأوسط الفوّار.
1- إيران:
من المتفق عليه في أوساط القيادات الإيرانية، أنه على إيران أن تمتلك دورًا في المنطقة، فهم يرون أن تاريخها وموقعها الجغرافي ومواردها ورأسمالها البشري، يجعل منها قوة إقليمية مهمة تجب عليها ممارسة دور في تشكيل البيئة الإقليمية الشرق أوسطية؛ لكون هذه البيئة غير مستقرة نتيجة استقطاب القوى الخارجية، ومن شأن ذلك أن ينعكس على إيران داخليًّا.
لذلك، يتلخّص نموذجها الأمني الإقليمي في أن تقيم نظامًا تكون هي قاعدته المركزية، وتجعل الخليج العربي والدوائر المحيطة به خالية من الوجود العسكري المعادي لها، وتخفّف معدلات التسلح الإقليمية، وذلك مقابل: زيادة قدرتها التسليحية، والإقرار بنفوذها السياسي، والاعتراف بامتلاكها السلاح والتكنولوجيا النووية، وبدورها الحامي لمكوّناتها العقائدية في البيئة الإقليمية أينما حلّت.
وبالتالي، فإن إيران ترى أهمية العراق وتعدّه تحديًا لأمنها القومي، لتداخله معها في السكّان والحدود القابلة للاختراق. ولذا فالعراق، وفق الإستراتيجية الإيرانية، يُعدّ أولًا؛ بوابة هامة لتحقيق حلمها الفارسي بإقامة إمبراطورية شيعية في العالم الإسلامي، وثانيًا؛ هو مخزون نفطي هائل يضاف إلى مخزونها النفطي، إذ يبلغ الخزين العراقي -حتى الآن- 112.5 مليار برميل مُكتشف، وهناك أيضًا حوالي 250 مليار برميل غير مكتشف، وثالثًا؛ تعتبر العراق عمقًا طبيعيًّا لها وخط الدفاع ضد القوى العدوانية التي تحاول تغيير نظامها أو احتواءها، أما أخيرًا؛ فهو ورقة سياسية في المساومات على الساحة الدولية، ولا سيما فيما يخص برنامجها النووي.
لذا، خضع العراق بعد عام 2003 لهيمنة الفاعل الإقليمي الإيراني عبر “التحالف البديل” (الفصائل المسلحة)، الذي تشكل بعد وقتٍ قصيرٍ من وصول القوات الأميركية، لبناء دولة دينية وفق العقيدة الغالبة في العراق. والتحالف البديل هو مجموعة من القوى السياسية المناوئة للقوى الأميركية، ومنذ إنشائها حصلت على الدعم الإيراني، إذ تلاقت مصالح الطرفين، كما تشارك البعض منها علانيةً في السياسة العراقية، فضلًا عن العلاقات الرسمية مع الدولة العراقية في المجالات الإستراتيجية المختلفة.
وقد تأسست علاقة إيران بالفصائل وفق مراتب مختلفة في حساب التفاضل والتكامل الإيراني، فهي إحدى قضايا الأمن القومي التي تعتبر مركزية في إستراتيجية الدولة الإيرانية، إذ تمنحها هذه الفواعل الردع الإضافي ضد خصومها، وتعمل على تطوير وجود نفوذها في بلدان رئيسة على امتداد المنطقة دون إزهاق أرواح مواطنيها إلا نادرًا. لذلك، فمن غير الممكن أن تتخلى عن دعم هذه الفصائل، وهو ما يظهر طوال فترة الصراع الإقليمي مع خصومها.
لا تخضع الفصائل العراقية المسلحة لسيطرة إيرانية مباشرة كما يعتقد البعض، فهذه الفصائل -وإن كانت ضمن نطاق المشروع الإيراني- تتمتع بقدر من الاستقلال النسبي إداريًّا وعملياتيًّا. تستفيد إيران من هذا الأسلوب، الذي يمكن تسميته “القيادة عن بُعد”؛ لأنه باختصار يزيل عنها عبء الانغماس اليومي في شؤون هذه الفصائل، التي تتجاوز 60 فصيلًا في العراق وحده. إضافة إلى أنه يمنحها القدرة على التنصل من أفعال هذه الفصائل حين تضر بمصالحها.
2- تركيا:
يحضر العراق في التفكير الإستراتيجي لتركيا، وفق عدد من العوامل الاقتصادية والأمنية والسياسية، ولكن حضوره لا يقتصر على تأثيره وارتداده على تركيا، بل يرتبط كذلك بالأساس التاريخي الذي تطالب به تركيا في العراق، كقضية الموصل وحقوق التركمان أينما وجدوا. ففي يوم من الأيام، قد يتفجّر التصعيد العسكري الإيراني ضد أكراد العراق؛ مما يدفع بتركيا إلى إعادة ما تعده على لسانها حقوقا تاريخية في الأراضي العراقية.
لذلك يعد تأمين العراق عنصرًا مهمًّا لتركيا؛ لكونها تأثرت بالأزمات التي عاشها العراق محليًّا ودوليًّا منذ ثمانينيات القرن العشرين. بداية من الحرب العراقية الإيرانية، ثم استخدام النظام العراقي للأسلحة الكيماوية ضد الأكراد، ومقتل عشرات الآلاف في الحرب مع إيران في شمال العراق، وقمع النظام دوليًّا، وما أعقبه من أزمة للسلطة داخل البلاد، ثم الاحتلال بقيادة الولايات المتحدة، وما أعقبه من فجوة في السلطة العراقية، جعلت العراق مرتعًا للتنظيمات القتالية؛ لذا فالحديث عن تشكيل ممر للجماعات القتالية في جنوب تركيا يمتد من إيران إلى سوريا، أصبح ممكنًا في ظل الأزمات والصراعات الناجمة عن التطورات الإقليمية والدولية والمحلية التي تشكل ظروف البيئة الإقليمية الشرق أوسطية.
كما تسعى تركيا إلى تنظيم علاقتها مع العراق في ظل القضايا التقليدية والتطورات المعاصرة الرئيسة، بسبب تحول بنية حزب العمال الكردستاني في العراق من الجبال إلى المدن وزيادة هجماته عليها، وبسبب مشروع طريق التنمية الذي يضم تركيا والإمارات والعراق، والذي توليه تركيا أهمية قصوى إذ سيغير مسار التجارة البحرية العالمية.
تقدّر تكلفة المشروع بنحو 17 مليار دولار، ومن المتوقع أن يكتمل مع حلول عام 2028. ويمر الطريق داخل الأراضي العراقية بطول 1200 كيلومتر، ويشمل طريقًا بريًّا وسكة حديدية، ويربط بين طرق التجارة من آسيا ودول الخليج جنوبًا حتى ميناء الفاو في محافظة البصرة بجنوب العراق، ثم ينطلق شمالًا حتى يصل إلى مدينة أوفاكوي التركية الحدودية، ومنها إلى الأسواق الأوروبية. لذلك، تتحرّك تركيا حاليا باتجاه عملية عسكرية برية طويلة الأجل للقضاء على حزب العمال الكردستاني، ولتؤمن أيضًا أعمال الإنشاءات الخاصة بالمشروع العراقي، علمًا بأن عدد القوات التركية الموجودة في العراق يفوق القوات الأميركية، وهو في حدود 7 آلاف جندي.
يأتي هذا الاتفاق على العمليات العسكرية والقضاء على “التنظيم الإرهابي” في مقابل قضية المياه، إذ إن الاحتياطات المتوفرة من المياه في الخزانات العراقية تتراوح بين 7 و7.5 مليارات متر مكعب وفقًا لإحصائيات عراقية رسمية، وذلك من أصل 150 مليار متر مكعب من الطاقة الاستيعابية. وهذه الاحتياطات تقترب من النضوب؛ مما قد يؤدي إلى كارثة غير مسبوقة تجعل مياه الشرب شيئًا نادرًا من ناحية، ومن ناحية أخرى تجعل العراق سوقًا رئيسًا لتركيا في المياه والمشروبات.
بالطبع، لا ترحب الولايات المتحدة بهذا المشروع، بسبب الممر الهندي البديل لمشروع الحزام والطريق الصيني، كما لا تدعم إيران المشروع الذي من شأنه تعزيز الاستقلال الاقتصادي للعراق، وجعل تركيا لاعبًا مهمًّا جدًّا في طريق التجارة البحرية العالمي. أما الأداة التي تستخدمها الولايات المتحدة وإيران لتخريب المشروع، فهي حزب العمال الكردستاني.
ويمكن للنقلة النوعية في العلاقة بين تركيا والولايات المتحدة بعد ضم السويد إلى الناتو، أن تظهر المنفعة التي يمكن للولايات المتحدة أن تجنيها من الأدوار التي يمكن لتركيا أداءها، لمراعاة المصالح الأميركية في العراق وسوريا إذا رغبت في تقليل التزاماتها تجاه هذين البلدين، كي تصنع في ظل استمرار الحرب الروسية توازنًا للقوى مع إيران في سوريا والعراق ومنقطة القوقاز.
مفترق طرق اللاعبين الدوليين
طرح مفهوم الشرق الأوسط في عصر الأقطاب المتعددة، وفي ظل تعامل دوله بصورة أكثر براغماتية لتحقيق مصالحها، الأمر الذي فسح المجال أمام الصين وروسيا، لتزاحم الوجود التقليدي للولايات المتحدة في المنطقة، تحديدًا في العراق، الذي يمثل بعدًا إستراتيجيًّا لدى مختلف اللاعبين الدوليين.
1-الولايات المتحدة:
تعد البيئات الإقليمية المكونة للبيئة الإستراتيجية العالمية، جزءًا من الأمن القومي الأميركي. وكل بيئة إقليمية تحظى بأهمية معينة لدى أميركا، تجري عليها سنويًّا تقييمًا ومراجعات بما تحتويه من تهديدات وتحديات على النظام العالمي، وبناءً على ذلك تعيد ترتيب أولوياتها، ولا تترك بيئة إقليمية بشكل نهائي، فمن شأن ذلك أن يؤثر في سيطرتها وتحكمها في النظام الدولي، ولكنها ربما تخفض مستوى الالتزام الإستراتيجي تجاه بيئة من البيئات الإقليمية، ثم تعود إليها لاحقًا.
يرهق هذا التصدي للمشهد العالمي الولايات المتحدة، وهو ما يفسر من قبل القوى الدولية المزاحمة لها بأنها في وقت أفولها وانكفائها إلى الداخل، تمهيدًا لأن تعيش عزلتها.
بالنسبة للولايات المتحدة، فإنها تؤدي دورًا يضمن لها الاستقرار في المنطقة. يتمثل ذلك في الاتفاقيات الأمنية بين الولايات المتحدة والدول الصديقة لها، وما يترتب على ذلك من التزامات وظيفية في التدريب والتحكم والعمليات المتعددة الأطراف، وخطوات البحث والتطوير التعاونية، ووضع القوات والوجود العسكري الدائم والمؤقت وغيره من مجالات التعاون وتمظهرات الهيمنة.
وتتنوع دوافع الاهتمام الأميركي بالعراق، بين موقعه الإستراتيجي الجيوبوليتيكي والجيوإستراتيجي الذي يجعله أحد نقاط الارتكاز الأميركي لضبط منطقة الشرق الأوسط، والأطماع الاقتصادية نتيجة تنوع الموارد التي يملكها العراق وما يترتب على ذلك من إمكانات استثمارية، ودوره الهام بالنسبة لأميركا لمكافحة “التنظيمات الإرهابية العالمية” لكونه أصبح مسرحًا بارزًا لها.
يتضح ذلك في ما أشارت إليه مساعدة وزير الخارجية لشؤون الشرق الأدنى في الولايات المتحدة باربرا ليف، إذ قالت: “العراق هو حجر الزاوية في قوس المنطقة… ما هو جيد في العراق سيكون جيدا للمنطقة الأوسع”، كما وصفت العلاقة بين أميركا والعراق بأنها “شراكة بزاوية 360 درجة” تقوم على “الأمن والاستقرار والسيادة”.
ويرتبط مستقبل العلاقة الأميركية العراقية بمجموعة محددات، مثل تأثير الدور الإقليمي والدولي المنافس للولايات المتحدة، وطبيعة المتغيرات الإستراتيجية في البيئة الإقليمية الشرق أوسطية وتوازناتها، ونتائج الانتخابات الرئاسية الأميركية.
وقد يبدو في بعض الأحيان أن نهج الولايات المتحدة تجاه العراق غير واضح المعالم، على الرغم من أهميته لها، بسبب تركيزها على إيران ومحاربة تنظيم الدولة الإسلامية الذي كان على رأس أولوياتها، حيث يستمر العراق في كونه ميدان معركة عنيفة بين إيران والولايات المتحدة، وتميل السياسات الأميركية تجاه إيران إلى الامتداد إلى العراق، وحينما فرضت الولايات المتحدة عقوبات على إيران استهدفت العديد من شخصيات الفصائل المسلحة في العراق. على هذه السياسة، علّق مسؤول أميركي في وقت سابق للجزيرة، بأنه يأمل أن تكون لإدارة بايدن سياسة تخص العراق “بدلا من اعتبار العراق ملحقًا لسياستها تجاه إيران”.
إن جوهر الإستراتيجية الأميركية تجاه العراق، هو في جعله صندوق بريد للرسائل السياسية والعسكرية لها مع خصومها. وقد جعل ذلك العراق ساحة اشتباك صامتة أحيانًا، ومشتعلة أحيانًا أُخرى، وتحول الوجود الأميركي فيه إلى معادلة توتر وعدم استقرار دائم، حتى أصبح هذا الوجود مشكوكًا في فعاليته في نظر بعض القوى السياسية.
ومع وصول محمد شياع السوداني إلى الحكم في العراق عام 2022، أخذت بعض الدعوات في الداخل تتعالى إلى ضرورة بقاء أميركا في العراق، بحجة الحاجة الاقتصادية والتنموية لها، وكذلك الحاجة الأمنية في ظل مناخ متوتر يسود المنطقة. لذلك، أعلنت أميركا تمديد وجودها العسكري في اليمن وسوريا والعراق مدة عام كامل.
قد يشكل سيناريو انسحاب القوات الأميركية من العراق بشكل مفاجئ في ظل عدم استقرار البلد أمنيًّا، تحديًا للأعضاء الآخرين في التحالف المناهض لتنظيم الدولة الذين ما زالوا موجودين في العراق، وقد يفرض عقوبات على الجهات الحكومية والشركات العراقية، ويلغي الإعفاءات التي تسمح لبغداد بشراء الكهرباء والغاز الطبيعي من إيران، وإيقاف تدفق الأموال الأميركية -وهي خطوة ستؤدي إلى انهيار العملة العراقية، وستبرز الانشقاقات الداخلية بين مكونات العراق، أو ضد كردستان العراق، وستغري الفصائل المسلحة العراقية بالسعي للسيطرة الكاملة على العراق، كما قد يشجّع الانسحاب عودة التنظيمات القتالية.
2-روسيا:
بلغ انخراط الولايات المتحدة في الشرق الأوسط حد الاستواء، لهذا يُرى في بعض الأحيان برود للانخراط الأميركي ودعوة إلى مغادرة هذه البيئة. تمنح هذه المقاربة روسيا منفذًا لأن تكون البديل المفيد للولايات المتحدة، ولا سيما عندما يفشل القادة الإقليميون في الحصول على النتائج الإستراتيجية المرجوة من الولايات المتحدة، وذلك برغم حذرهم من النيات الروسية، فهم وإن كانوا لا يريدون المجازفة بالعلاقة مع الولايات المتحدة، فإنهم يُظهرون لها أن لديهم خيارات إستراتيجية في أي قضية، وروسيا مدركة لهذا التوازن وهذه العلاقة، لكنها تسعى بكل السبل لتقويض القوة والنفوذ الأميركي
بدأ انخراط روسيا في الشرق الأوسط عام 2005 عبر البوابة السياسية والدبلوماسية، ثم تلاه انخراط عسكري مباشر لها في سوريا عام 2015، وما تبعه من تنسيق استخباري مع العراق. وعدّ العديد من المحللين ذلك جزءًا من إستراتيجية روسيا الجديدة لاستعادة النفوذ الإقليمي، الذي كانت تحظى به في عهد الاتحاد السوفيتي، عبر مقاربة جديدة ترتكز على المكاسب الاقتصادية المعاملاتية والارتباطات الجيوسياسية غير الأيديولوجية، فهي تتعامل مع المنطقة وفق رغبتها في المكانة الدولية، وحجز مقعد في طاولة المفاوضات للقضايا المهمة، وإيجاد فرصة لتقوية اقتصادها عبر التجارة والاستثمار، والحفاظ على الاستقرار الإقليمي عبر الحفاظ على الأنظمة الحاكمة ومنعها من الانهيار، ومنع تمدد الإرهاب إليها.
صحيح أن روسيا انفصلت أيديولوجيًّا عن الاتحاد السوفيتي، لكنها اليوم تعمل على إعادة إحياء شراكاتها الإستراتيجية السابقة التي بناها الاتحاد السوفيتي في حقبة الحرب الباردة، ومنها الشراكة مع العراق. لذا، وبعد أن جربت الاشتباك المباشر مع الغرب في الدوائر الجيوبولتيكية القريبة، تقوم روسيا اليوم بالاشتباك غير المباشر في مناطق التنافس الجيوبوليتيكية العالمية عبر تعزيز نفوذها في الشرق الأوسط.
إن نوافذ التغلغل الروسي في العراق تتم عبر الاقتصاد و”مكافحة الإرهاب” والأمن الإقليمي وتراجع النفوذ الأميركي، وقد بلغت الاستثمارات الروسية في القطاع النفطي (حقلي بدرة النفطي وغرب القرنة، ومشاريع أنابيب النفط في إقليم كردستان العراق) نحو 13 مليار دولار، كما أنشأت روسيا مركزًا للتنسيق المشترك مع بغداد لمكافحة التنظيمات الإرهابية في العراق وسوريا، إضافة إلى إمكانية أن تطرح نفسها وسيطًا تجاه التهديدات الإيرانية في بعض المناطق العراقية، ولا سيما إقليم كردستان العراق الذي يُؤوي عناصر مناوئة لإيران، وبالتالي فإن الوجود الروسي في العراق يبدأ بقوات مراقبة ويصل إلى الوجود العسكري الفعلي.
3-الصين:
استغلّت الصين المرحلة التي دخلت فيها أميركا من عدم الاكتراث بمنطقة الشرق الأوسط وتحولها إلى آسيا، تحديدًا خلال مدة الرئيس الأسبق باراك أوباما، لتعزّز موقفها وتملأ فراغ القوى وتتوسع في نفوذها، من خلال اتباعها سياسة براغماتية تقوم على الشراكات الإستراتيجية مع دول البيئة الإقليمية الشرق أوسطية، وفقًا للمصالح المشتركة والمنافع المتبادلة.
والاتجاه صوب آسيا والمحيط الهادئ، متأتٍّ من الاعتقاد الذي كان في ذهن متخذ القرار الأميركي بأن أوروبا ستنعم بالاستقرار والسلام، وأن الأوضاع في العراق وأفغانستان والشرق الأوسط عامة هادئة بما يكفي لتقليص الالتزامات الأمنية الواسعة النطاق للقوات في مسارح العمليات الجوية والبرية والبحرية، والتحول إلى دعم الجهود بصورة ضيقة النطاق لمكافحة الإرهاب، إلا أن الحرب الروسية على أوكرانيا عام 2014، وما تلاها من سيطرت تنظيم الدولة الإسلامية على بعض الأراضي العراقية، وضعا حدًّا لهذا الاعتقاد الخاطئ.
أما مصالح الصين في الشرق الأوسط، فهي في توفيره موارد الطاقة لها، وبقائه سوقًا للمنتجات الصينية، وتلبيته رغبتها في توسيع نفوذها الجيوسياسي كنوع من المشاغلة الإستراتيجية للولايات المتحدة، وتخفيف الضغط على مجالها الحيوي المباشر في إقيلم الإندوباسيفيكا؛ مما جعلها تبحث بفاعلية عن دول قوية تشاركها مخاوفها من التفوق الأميركي العالمي.
إضافة إلى ذلك، فإن العراق في المدرك الإستراتيجي الصيني، يشكّل مخزونًا احتياطيًّا للطاقة، وموقعًا إستراتيجيًّا على الخليج العربي ومضيق هرمز، وأهمية جيوإستراتيجية لخط المواصلات الصيني إلى أوروبا عبر إيران والعراق وتركيا عبر الطريق البري لإستراتيجية الحزام والطريق الصيني.
بدأت الصين تعزيز وجودها في العراق منذ عام 2007، عبر استثمارات في قطاع الطاقة، إذ تعد الصين من الجهات الرئيسة الفاعلة في الاقتصاد العراقي، فالعراق أصبح ثالث مورد نفطي للصين عام 2020، ولها فيه حصة في توليد الطاقة الكهربائية. ثم إن الصين عملت على توطيد وجودها بصورة أكثر فاعلية في ظل استراتيجية الحزام والطريق لعام 2013، التي سعت فيها لجذب العراق إليها، وما مشروع طريق التنمية إلا فرصة استراتيجية استغلها العراق لتفعيل دوره في هذه الإستراتيجية، عبر إنشاء خط سككي وخط بري سريع ومحطات اقتصادية متكاملة، بمبلغ حوالي 17 مليار دولار.
وأقامت الصين علاقات جيدة مع حكومة إقليم كردستان العراق، الذي تدعمه الولايات المتحدة الأميركية، مما يتيح لها الوصول إلى إنتاج النفط في منطقة أربيل. ومن الممكن استغلال هذه العلاقة من قبل كردستان العراق، في أن تطلب مثلًا من الصين أن تضغط على إيران لمنعها من شنّ هجمات صاروخية على قواعد يعتقد أنها توفر ملاذا للمعارضين المناهضين لطهران والناشطين الكرد.
وفي أكتوبر/تشرين الأول 2019، وقّع عادل عبد المهدي رئيس وزراء العراق اتفاقية مع الصين، فعّلت برنامج “النفط مقابل إعادة الإعمار”، تعهّدت بموجبها عشرات الشركات الصينية بالعمل في البنى التحتية العراقية مقابل تلقي الصين 100 ألف برميل نفط يوميًّا. وفي عام 2021، قدمت الصين للعراق أكثر من 10 مليارات دولار لتمويل محطات النفط والطاقة. وجاء ذلك، في إطار تعزيز القوة الناعمة الصينية في العراق، في سياق التنافس مع الولايات المتحدة. وقد ضمنت حماية مصالحها واستثماراتها عبر اتصالها الوثيق بالفصائل المسلحة، التي لها علاقة بإيران.
الدولة الهشّة
كان الشرق الأوسط ولا يزال مفترق طرق للقوى الإقليمية والدولية، إذ يشكّل لها فرصًا لتحقيق الهيمنة والسيطرة نتيجة الموارد والممرات الإستراتيجية، وهو بالقدر نفسه يعاني من فوضوية وتبدل في التوازنات والأدوار الإستراتيجية التي تحتاج إلى الضبط والاستقرار.
إن هذه الاضطرابات التي تعصف بالشرق الأوسط، يمكن أن نجد مثالًا واضحًا لملامحها في العراق، بوصفه قلب المنطقة ومحور ارتكازها، وعامل توازن لقوى دولية وإقليمية بعد خروجه من بيئة التوازن الإقليمي عام 2003، إذ أضحى مسلوب الإرادة السياسية، وهو ما سمح للأدوات الخارجية بالمنافسة فيه على حساب مصالح العراق الوطنية العليا، وأدى ذلك في المحصلة إلى دولة هشّة، تندرج ضمن أجندات ومشاريع القوى الدولية والإقليمية الفاعلة ذات العقائد المختلفة والمصالح المتنافسة.
ولكون أمن المنطقة مرتبط بالعراق، تسعى كل من القوى الإقليمية والدولية إلى جعل العراق ضمن محورها لمواجهة المحور الآخر، وكل طرف من هذه الأطراف لديه ملفات ضرورية لربط العراق بمحوره، وليس في مقدرة العراق أن يتحرّر من هذا التعدد في القوى، لأنه بحاجة إليها في هذه البيئة الإقليمية المضطربة ومخاطرها المتزايدة لموازنة تأثيرات الأضداد، وليحقق قدر الإمكان المصلحة الوطنية العليا النسبية.