موسكو- تتواصل الاضطرابات والاحتجاجات في مختلف أنحاء جورجيا، وقد اتخذت منعطفا أكثر حدة بعد قرار الحكومة تجميد انضمام البلاد إلى الاتحاد الأوروبي، ردا في ما يبدو على اعتماد البرلمان الأوروبي قرارا رفض بموجبه الاعتراف بنتائج الانتخابات البرلمانية في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، التي فاز فيها حزب “الحلم الجورجي” وحلفاؤه بأغلبية مقاعد البرلمان.
وتكرس الانقسام السياسي في البلاد بوضوح قبل الانتخابات البرلمانية بنحو عام، في ضوء اتهامات للحزب الحاكم باتباع سياسات استبدادية ومؤيدة لروسيا، والابتعاد في المقابل عن الغرب، مما أدى إلى إضعاف الآمال في المسار الذي وعدت به جورجيا منذ مدة طويلة نحو عضوية الاتحاد الأوروبي، وفق ما تقوله المعارضة.
وعلى مدى العقود الثلاثة الماضية، حافظت جورجيا على تطلعات قوية مؤيدة للغرب، وأظهرت استطلاعات محلية للرأي أن أغلبية سكانها يفضلون الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي.
ومع ذلك، ابتعدت الحكومة التي يقودها حزب “الحلم الجورجي” بشكل متزايد في السنوات الأخيرة عن الغرب لمصلحة روسيا، ورفضت إدانة موسكو بسبب الصراع في أوكرانيا والانضمام إلى العقوبات المالية والاقتصادية الغربية المفروضة عليها.
ومما عزز هذا التوجه، اعتماد البرلمان الجورجي في مايو/أيار الماضي قانون “العملاء الأجانب” الذي أثار جدلا كبيرا، إذ قالت المعارضة إنه يقيد الحريات في البلاد ووصفته “بالقانون الروسي”، إضافة إلى اعتماد قانون يحظر الدعاية للمثليين في البلاد، قامت بروكسل على إثره بتعليق انضمام تبليسي إلى الاتحاد الأوروبي.
وإن أوصدت التطورات الأخيرة النافذة المؤدية إلى أوروبا بشكل نهائي، واتخذ التوتر بين السلطة والمعارضة شكل “حرب إلغاء” سياسي، تكون تبليسي قد ثبتت نفسها كنقطة تقاطع جديدة على رقعة شطرنج الصراع الروسي الغربي على ساحات النفوذ في جنوب القوقاز.
معركة مصيرية
وبحسب وصف المتخصص في الشؤون الجورجية غيفي أباشيدزه، فإن الاضطرابات التي تشهدها البلاد هي تعبير عن رفض مسار البقاء في “فلك” روسيا، والدعوة بدلا من ذلك إلى مزيد من التقارب مع الاتحاد الأوروبي.
ويضيف -للجزيرة نت- أن جورجيا باتت تقترب أكثر من أي وقت مضى من حرب مصيرية، بحيث انخرط الحزب الحاكم وعشرات آلاف المحتجين في صراع عميق على مستقبل البلاد الذي ترى السلطة أن ممارسات المعارضة الموالية للغرب تشكل تهديدا مباشرا له.
وشكك المحاور في أن يؤدي تولّي الرئيس الأميركي الجديد دونالد ترامب لمقاليد السلطة إلى انفراج في العلاقات مع موسكو، مؤكدا أنه على العكس من ذلك؛ سيمارس مزيدا من الضغوط على روسيا، ومنها إشعال الساحة الجورجية.
ويوضح أنه في حين “تتأرجح” جورجيا بين روسيا والغرب، فإن مصداقية سياسة التوسع التي ينتهجها الاتحاد الأوروبي ستصبح على المحك، لأن انزلاق تبليسي إلى أحضان موسكو يهدد بخلق بيلاروسيا أخرى على عتبة الاتحاد الأوروبي، وهو أمر لا تستطيع لا الولايات المتحدة ولا أوروبا أن تتحمله.
وعليه، يتوقع أباشيدزه أن يدعم ترامب المطالب بالتحقيق في المخالفات الانتخابية التي استشهدت بها بعثات المراقبة الدولية والمراقبون المحليون، وأن يمتنع عن منحها ختم الشرعية، ويعزز من قوة رئيسة جورجيا سالومي زورابيشفيلي التي تقف إلى جانب المحتجين وترفض الاعتراف بنتائج الانتخابات البرلمانية الأخيرة.
سيناريوهات التسوية
على عكس المتحدث السابق، يقول مدير مركز التنبؤات السياسية دينيس كركودينوف إن إدارة ترامب لن تكون مهتمة بتحدي روسيا في هذا الجزء من العالم.
وبموازاة ذلك، يرجح كركودينوف -في تعليق للجزيرة نت- أن تتجنب جورجيا التقارب الواضح مع موسكو، لا سيما إن لم تحقق روسيا أهدافها العسكرية في النزاع مع أوكرانيا.
ووفقا له، فإن الاتجاه الذي ستسلكه جورجيا سوف يتوقف على عدد من العوامل، منها إذا كانت نتائج الانتخابات سوف تحظى بالاعتراف من جانب الغرب في نهاية المطاف، ودرجة وحجم المواجهة السياسية التي قد تترتب على ذلك.
ويميل الباحث السياسي إلى الاعتقاد بأن الموقف داخل جورجيا سوف يستقر إلى حد ما على غرار صربيا التي فضلت البقاء على الحياد، وحافظت على التوازن المعقد بين مختلف مراكز القوة، ورفضت قبول كل المعايير الغربية، لكنها ظلت في الوقت نفسه ضمن الإطار المعياري الغربي الواسع.
ويشير في هذا السياق إلى أن الضغوط الغربية على جورجيا لتبنّي موقف أكثر معاداة لروسيا قلّت، وبقي التعاون المؤسسي القائم مع الاتحاد الأوروبي على المستوى نفسه، حتى على الرغم من تجميد محادثات الانضمام.
من هنا، يتابع كركودينوف “ستكون النخبة الحاكمة مستعدة للمساومة، على سبيل المثال من خلال إلغاء قانون الوكلاء الأجانب أو تعديله، أو الامتناع عن حظر أحزاب المعارضة الرئيسية، أو الحد من المشاركة في آليات التهرب من العقوبات الروسية في مقابل الاعتراف الواضح والقبول من جانب الغرب”.
وحسب رأيه، فإن هذا السيناريو يضمن في الوقت ذاته الوضع الراهن للمصالح الجيوسياسية الرئيسية للاعبين الإقليميين في منطقة جنوب القوقاز، بحيث يتم الحفاظ على دور جورجيا بصفتها دولة عبور بين أذربيجان وتركيا، وبوابة آسيا الوسطى إلى أوروبا، فضلا عن حيادها في الحرب الروسية الأوكرانية.