لسنوات طويلة، استخفت أعلى قيادات الجيش والاستخبارات الإسرائيلية بقدرات حركة المقاومة الإسلامية (حماس)، وبلغ الاحتقار حد المراهنة على حلف معها ضد الجهاد الإسلامي.
ظهر ذلك في وثائق سرية حصلت عليها صحيفة هآرتس الإسرائيلية لاجتماعات مغلقة لأعلى هرم القيادات العسكرية والسياسية.
وتقول الصحيفة إن هذه الغطرسة لم تزل غشاوتها إلا في هجوم طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي.
في ديسمبر/كانون الأول 2021، تجوّل قائد أركان الجيش الإسرائيلي حينها أفيف كوخافي مرفوقا بوزير الدفاع وكبار القادة على طول الحدود مع قطاع غزة في زيارة أحيطت ببعض السرية، ووعد هناك بواقع جديد تماما في القطاع، قائلا “ما كان لن يكون بعد الآن”.
كان كوخافي يستعد لتدشين حاجز ضخم فوق الأرض وتحتها، كلف 3.5 مليارات دولار، ليكون جزءا من منظومة الدفاع الإسرائيلية (بما فيها القبة الحديدية).
لكن المشروع يبدو اليوم أقرب إلى تذكار للسابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، ونُصب لمفهوم الردع الإسرائيلي المنهار، حسب هآرتس.
ومن المفارقات أن أحد الإعلاميين القلائل الذين رافقوا كوخافي في الزيارة، وهو روي إيدان مصور يديعوت أحرونوت من سكان مستوطنة “كفار عزة”، انتهى به الأمر مقتولا هو وزجته في هجوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023.
جدار الغطرسة
وتكتب هآرتس أنه مثلما استغرق بناء الجدار المنهار سنوات، استغرق تشييد مفهوم الغطرسة الإسرائيلية سنوات أيضا، كما تظهره وثائق وبروتوكولات اجتماعات مغلقة عقدت خلال السنوات التي سبقت هجوم 7 أكتوبر/تشرين الأول الماضي.
وتبدو فيها واضحة عجرفة القيادة العسكرية ومخاوف الضباط من التعبير عن رأيهم المهني إن خالف رأي أعلى الهرم السياسي والأمني.
وتشير الوثائق بوضوح أيضا إلى مبالغة في حجم الإنجازات العسكرية في غزة، وإلى ثغرات استخبارية في قراءة مساعي حماس لتعزيز قدراتها العسكرية، وتشي قبل كل شيء باحتقار للعدو ما بعده احتقار.
أحد من عبّر عن هذه الغطرسة تامير هيمان، وهو مدير معهد دراسات الأمن القومي حاليا، والذي تقلّد سابقا مناصب رفيعة في الجيش، آخرها قيادة الاستخبارات العسكرية.
ولكن هل تجعله سيرته الذاتية هذه خبيرا في شؤون حماس؟ تتساءل الصحيفة الإسرائيلية ساخرة.
في نقاش مغلق في قاعدة وسط إسرائيل في تلك الأيام وكان حينها قائد الاستخبارات العسكرية، تحدث هيمان عن “التزام متزايد لدى حماس بفرض السيادة (على قطاع غزة) وهو ما يُحدث صراعا داخلها بين رغبتها في القتال ورغبتها في بسط سيطرتها وخشيتها على البنية التحتية”.
ونقلت الصحيفة عن هيمان قوله “أغلب طرق عمل حماس التي عكفت على إعدادها لسنوات تضررت وحُيّدت.. استطعنا فك شفرة شبكة أنفاق غزة. بمجرد أن تعرف مكان أحد قادتهم تحت الأرض تستطيع مهاجمته. صُممت حماس لتحارب لستين يوما (فقط)”.
هذا التقييم أدلى به هيمان بعد ما سُميت إسرائيليا بالخديعة خلال عملية “حارس الأسوار”، حين قصفت إسرائيل شبكات الأنفاق بعدما أوحى الجيش باستعداده لإطلاق عملية برية متوقعا أن يدفع ذلك مقاتلي حماس لدخول الأنفاق.
ولم تقتصر العجرفة على الاستخفاف بقدرات حماس، بل حفلت بعبارات التتفيه لموضوعات بالغة التعقيد.
ففي تقييم استخباري للوضع في غزة في يناير/كانون الثاني 2021 أمام كبار العسكريين في قيادة الجنوب، وصف تامير هيمان علاقة الفصائل في قطاع غزة بهذه الكلمات: “يتشارك أعزبان مُتهتّكان ولا يتحليان بروح المسؤولية السكن في شقة واحدة ويمقتان صاحبة البيت”، في إشارة إلى علاقة حماس والجهاد بحركة التحرير الوطني الفلسطينية (فتح).
ويضيف التقييم “أكبر الأخوين (حماس) استلم مسؤولية إدارة البيت، غير أن الأخ الأصغر استمر في سلوكه المتهتك يفعل ما يحلو له.. (لكنه) عندما بالغ انبرت له دولة إسرائيل وأوسعته ضربا (عملية “الحزام الأسود”)، واختارت حماس ألا تتدخل ليكون عبرة للشاب المتهور. هكذا نستطيع فهم غزة”.
الشمال والجنوب
وتقول هآرتس إن الوثائق تظهر فرقا كبيرا بين النقاشات التي دارت في قيادة الشمال وتلك التي جرت في الجنوب.
ففي الشمال، جرى التعبير عن آراء مختلفة بين كبار قادة الجيش والقادة الميدانيين في مواضيع تشمل مدى رغبة حزب الله في خوض الحرب وما إذا كان ولاؤه للبنان أم لإيران مثلا.
أما في قيادة الجنوب فلم يكن أحد لينبري لمجادلة كبار قادة الجيش وجهاز الاستخبارات الداخلية والمستوى السياسي، بل تظهر الوثائق أن أفراد قيادة الجنوب لم يقدموا تقديرهم الاستخباري.
ولم يكن قائد الاستخبارات العسكرية وحده من اعتقد أن حماس قد ارعوتْ، فقائد أركان الجيش السابق أفيف كوخافي آمن بذلك وبأن “لإسرائيل وحماس عدوا واحدا في غزة هو الجهاد، فحماس تريد كسر شوكة الجهاد لكنها لا تستطيع”.
كما ذكر في 19 أكتوبر/تشرين الثاني 2019، وهو تصريح تبعته بعد شهر عملية “الحزام الأسود” التي استهدفت لأول مرة فصيلا واحدا في غزة هو الجهاد الإسلامي من دون بقية الفصائل.
وبعد نحو أربعة أشهر من تلك العملية، عاد كوخافي ليتبجح بـ”إنجازات” الجيش في قطاع غزة، قائلا “نستهدف حماس مرتين في الأسبوع. ضرباتنا موجعة جدا وحماس لا تردها”.
وكان من الثقة أن توقع أن يَرتدِع حزب الله أيضا قائلا “لا سبب يجعل حزب الله أو حماس يبادران بشن حرب علينا”، ليضيف في ديسمبر/كانون الأول 2020 “يمكن الجزم بأن كل أعدائنا يخشون خوض الحرب علينا”.
حماس والجهاد
واعتُقد إسرائيليًّا حينها أن شن عملية “الحزام الأسود” وامتناع حماس عن المشاركة في التصدي لها سرّع مسارا لدى الحركة يقوم على اختيار التسوية والتركيز على قطاع غزة، مما جعل إسرائيل تسهّل وصول التمويل الخارجي إليها.
كل ذلك عدته قيادة الجيش نجاحا باهرا حتى إن قائد قيادة الجنوب حينها الفريق هيرتسي هاليفي قال في نوفمبر/تشرين الثاني 2019 إن إسرائيل نجحت في إحداث توتر بين حماس والجهاد، قبل أن يضيف بنصف ابتسامة “نحن لا نطلق النار على حماس وهي لا تطلق النار علينا.. قد تطلق رشقة لكنها أقرب إلى غمزة ونحن نعرف كيف نرد بغمزة مؤلمة”.
وتكتب هآرتس أنه بالنسبة لقائد فرقة غزة الجنرال إليعازر توليدانو، كانت الضربة التي وجهت إلى الجهاد هائلة وحرمتها من قدراتها العسكرية كما ذكر في نوفمبر/تشرين الثاني 2019 حتى إنه ادّعى في يوليو/تموز من العام ذاته أن الجيش الإسرائيلي جاهز أتم الجاهزية على الحدود مع القطاع، لكن بصورة غير مرئية.
ولكن في السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، لم تكن قوات الجيش لتُرى في أي مكان “لا بالعين ولا حتى بالمناظير”، كما علقت هآرتس ساخرة.
أما قائد سلاح الجو اللواء عميكام نوركين فتفاخر بعد عملية “سيف القدس”، أو كما سمتها إسرائيل “حارس الأسوار”، في مايو/أيار 2021 قائلا “استطعنا تأديب حماس”.
لكن قبل 24 ساعة فقط من العملية، كان كثيرون في قيادة الأركان يسخّفون تهديدات حماس بإطلاق صواريخ على القدس خلال الاحتفال بـ”يوم ييروشلايم”، وهنا تبين خطأهم مرة أخرى.
ورغم أن قائد العمليات في الجيش حينها اللواء أهارون هاليفا قال إنه تفاجأ بإطلاق الصواريخ، فإنه في تقدير للوضع في قاعدة كيريا في تل أبيب أكد أن “الردع أقوى كثيرا مما تعتقدون.. يدرك (يحيي) السنوار أن خسارته ستكون أثقل إن اختار الحرب والتصعيد”.
وكان ذلك خطأ آخر -تقول هآرتس- يضاف إلى أخطاء رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو الذي توعد مثلا مع بداية العملية بمزيد من الضربات، فـ”إن هي إلا البداية وسنوجه إليهم ضربات لم يحلموا بها قط”.
الجيش الإسرائيلي وجهاز الأمن الداخلي لم يخفيا تفاخرهما بنتائج عملية حارس الأسوار، حتى إنهما بعثا برسالة مشتركة إلى “منتدى قوات الدفاع”، أشادا فيها بوتيرة اغتيال كبار حماس إلى درجة أنه “سيكون من الصعب عليهم التكاثر”.
السنوار منتصرا
لكن وما هو إلا أسبوع حتى ظهر يحيى السنوار في صورة نشرتها حماس يبتسم وهو يجلس على أريكة أمام مكتبه المدمر في خان يونس، في لقطة أرادت لها حماس لها أن تكون صورةَ نصرٍ، أصرت إسرائيل هي الأخرى على أن تنسبه لنفسها.
قال السنوار “نملك 500 كلم من الأنفاق في قطاع غزة، والضرر الذي لحق بنا لا يتجاوز 5%. الهجمات الإسرائيلية لم تؤثر على بنى الفصائل في غزة”.
لم يعد قائد الأركان الإسرائيلي كوخافي إلى بعض تواضعه إلا بعد يومين من وقف إطلاق النار يوم 21 مايو/أيار 2021، حين زار وحدة العمليات في فرع الاستخبارات العسكرية لقيادة الجنوب، وقال “علينا نقد أنفسنا دائما، وعلينا التواضع”.
لكن في ذلك الاجتماع لم يُسمَع أيضا رأي ناقد، ولم يرتفع منسوب التواضع الإسرائيلي إلى أعلى مستوياته في قاعدة كيريا في تل أبيب إلا في 6:29 من صباح السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، تختم الصحيفة.