إسطنبول- لا يهدأ العالم الافتراضي في تركيا ولا يعرف الصمت الانتخابي، ولا يكتمل أي مشهد سياسي حقيقي دون حضوره. وفي الساعات الأخيرة قبل أن يتوجه 61.5 مليون مواطن تركي إلى صناديق الاقتراع؛ لاختيار من يدير شؤونهم ويمثلهم في 1393 بلدية يتنافس عليها 34 حزبا سياسيا، ما زالت منصات التواصل نابضة كما كانت على مدار الفترة الماضية.
فما مدى وشكل حضورها في المجتمع التركي؟ وما دورها في الصراع الانتخابي؟
وفق الخبراء، تحتل وسائل التواصل الاجتماعي مكانا كبيرا ومتصاعدا يوما بعد آخر في المجتمع التركي؛ حيث تبلغ نسبة مستخدميها 74% من عدد السكان الكلي (أي أكثر من 63 مليونا).
مطبخ السياسة
تتوزع تلك الملايين على منصات مختلفة ومتعددة، غالبا ما يحددها هدف الاستخدام وشكله، فبينما توصف منصة “إكس” بمطبخ السياسة وأرضها الخصبة، يتمتع إنستغرام وتيك توك بطابع مختلط يغلب عليه عدم الجدية والقرب أكثر من الجيل الجديد والنساء.
في السياق، يؤكد الصحفي والأكاديمي فرقان بولوكباشي -ويمتلك واحدا من أهم الحسابات الفاعلة على منصات مختلفة- أن جميع الفاعلين السياسيين مهتمون ويسعون لأن يكونوا أقوياء ومرئيين على منصة إكس، ويفترض أن آراء المجتمع تتشكل في تلك المنصة.
وأضاف للجزيرة نت “منصة إكس تعد مطبخ السياسة وهي واسعة التأثير والدور خاصة في المدن الكبرى”.
معظم استطلاعات الرأي المعلنة وغير المعلنة حول نتائج انتخابات بلدية اسطنبول تقول إن النسب متقاربة جدا بين مرشح حزب العدالة والتنمية مراد كوروم ومرشح حزب الشعب الجمهوري أكرم إمام أوغلو رئيس البلدية الحالي. والفارق لا يتجاوز 0.5% ولن يتخطى الفائز منهما نسبة 42.5 بأحسن الأحوال.
وبما…— عبدالعظيم محمد (@AbduladheemM) March 30, 2024
وتابع “يمكننا القول إن أنصار الرئيس رجب طيب أردوغان هم الأقلية فيها؛ بسبب شدة ومستوى الأداء السياسي والدعائي هناك، فمعظم أنصار حزب العدالة والتنمية الحاكم لا يستطيعون مواكبة حجم الخروج عن الحقيقة والأدب هناك؛ فيختارون الصمت أو مغادرة المنصة”.
بدوره، يقول المختص في التكنولوجيا ووسائل التواصل الاجتماعي الصحفي محمد بينيجي “يزداد حضور وسائل التواصل في عمق المجتمع التركي، يوما بعد آخر، ولكن هناك خطورة ووقائع تؤكد خطر التلاعب بالمجتمع وصناعة الرأي العام بسبب إدارة تلك المنصات التي لا توجد فيها أي إدارة محلية”.
ويتابع “خوارزميات وسائل التواصل تسهّل عملية الوصول اللامحدود، وتؤثر في تشكيل الأفكار والسلوكيات نتيجة للمحتوى والتفاعلات الخيالية، وهذا يمكن أن يكون له تأثير كبير، وخاصة على الأجيال الشابة”.
ويضيف بينيجي للجزيرة أن وسائل التواصل والحضور القوي فيها يعتبران جزءا لا يتجزأ من العمل السياسي الحديث. وأكد أن التوسع وتعزيز الحضور على المنصات يعتبر هدفا دائما عند جميع المكونات السياسية، مستشهدا بإطلاق مرشح الحزب الحاكم مراد قوروم حملته عبر منصة “إكس” بنشر صوره أو رسائله للناخب.
الساعات الاخيرة للانتخابات البلدية في تركيا..
الاستقطاب السياسي على أشده وكل الشعارات المعقولة وغير المعقولة يتم تقديمها لكسب الصندوق..
هناك استباحة للكذب واستباحة لكل المعايير من اجل عيون الناخب..
البعض يخلع ثيابا طالما لبسها ليلبس اخرى من اجل الصندوق وان كانت ليست مفصلة على…— Ahmad Hasan (@binaasorya) March 30, 2024
إستراتيجية
أما الأكاديمي والصحفي بولوكباشي فيؤكد أن كل حزب سياسي يبني حملته الانتخابية على إستراتيجية مختلفة بحسب المنطقة الانتخابية، ووضع الخصم فيها، وطبيعة المجتمع، والأهم المنصات الأكثر استخداما فيها، ولغة الخطاب الأنسب.
ويضيف أن أحد أهم الأشياء التي يجب أن يقوم بها المرشح للوصول وجمع الأصوات، هو الحصول على دعم قادة الرأي الرقميين، وتجنب مواجهتهم”.
وحول شكل استخدام الأحزاب لمنصات التواصل، يقول بولوكباشي “نلاحظ خلال هذه الفترة أن الأحزاب تحدد جمهورها، ثم تختار الآلية المناسبة لهم وتختار الحسابات والقنوات الملائمة للوصول لتلك الفئة”.
ولفت إلى أنه لاحظ ذكاء في الحملات خاصة تلك التي تهدف للوصول إلى الفئات المعارضة، حيث استخدمت قنوات وقادة رأي مقربين من تلك الفئة، مثل حزب يساري يعطي رسائل من المسجد، أو حزب إسلامي يخاطب فئات أخرى من المجتمع عبر قناعاتهم وثقافتهم وأشخاصهم المعروفين.
من جهته، أوضح المختص محمد بينيجي أن المنافسة السياسية في تركيا شديدة ومحتدمة خاصة في السنوات الأخيرة، وكل هذا ينعكس في رسالة وأسلوب ومواد كل حزب، وتعمل الأحزاب على تنويع رسائلها ومحتواها والصورة التي تريد إيصالها للجمهور.
وأكد بينيجي أن هناك مهمة أخرى يمكن ملاحظتها في ظل الاستقطاب العالي، حيث يتوجب على كل حزب حماية نفسه وأنصاره من دعاية الأحزاب الأخرى، ويتولى أيضا مهمة التصدي والرد على حملات ودعاية الحزب المنافس.
وتابع “المحتوى النقدي جزء مهم من المحتوى المعَد، بل جزء غالب، ونلاحظ حضوره بشكل حاد وساخن، فكثير من رسائل وحملات الأحزاب تُبنى، بل تتلقف خطأ ما أو ثغرة معينة في الحزب المنافس وتركز عليها؛ وتسوّق لذاتها من خلال ذلك”.
#تركيا تدخل الصمت #الانتخابي في تمام السادسة 🕕 بالتوقيت المحلي. pic.twitter.com/LheS8NUvK9
— M. Sıddık Yıldırım (محمد صديق يلدرم) 🇹🇷 (@SIDDIKYILDIRIMM) March 30, 2024
مرحلة غياب
وفق متابعته لأداء الأحزاب السياسية خلال الفترة الماضية، يعتقد الأكاديمي والصحفي فرقان بولوكباشي أن منصة “إكس” تتصدر المنصات السياسية في الحملات الانتخابية، وتشهد معارك انتخابية وأيديولوجية حساسة ومؤثرة في هندسة الجمهور والوصول للناخب وإقناعه، أو مهاجمة ونقد المخالف.
وفي السياق، يقول الصحفي بينيجي ناقلا تعليق أحد متابعيه “أصبحنا نهرب من منصة إلى أخرى؛ وكأن تلك الحملات الدعائية تشاهدنا وتلاحقنا”، مشيرا إلى أن “هذا جزء من ملاحظة المواطن العادي، وأعتقد أنه يعبر عن حجم التركيز والمنافسة، فمنصات التواصل قد تغير وتعيد بناء قناعات كثيرة”. ويرى أن منصة إكس وإنستغرام وفيسبوك هي أهم المنصات التي تركز عليها الأحزاب في ضخ محتواها وفق خصائص كل منصة.
وأضاف بينيجي “تكتسب المنصات التي تركز على الفيديو مثل تيك توك ويوتيوب أهمية باعتبارها منصات يوجد فيها الشباب بشكل أكبر، ونقطة تفوق أي حزب على الآخر تتعلق بإستراتيجيات الحملة الانتخابية الخاصة بالحزب وشكل إدارة وسائل التواصل الاجتماعي، وهي مسألة نسبية”.
في ولاية #إسكي_شهير التركية، قام مرشح يبلغ من العمر (35) عاما بتقبيل يد منافسه البالغ من العمر (83) عاما، وفق العادات والتقاليد التركية..#انتخابات_البلدية_في_تركيا#الانتخابات_المحلية_في_تركيا pic.twitter.com/OcPfC5lre3
— كوزال (@guzel_olalim) March 31, 2024
وحول مدى تأثير الحملات التي نُفذت وعوامل ذلك التأثير، يؤكد الأكاديمي فرقان بولوكباشي أن الجمهور ما دون سن 40 عاما أصبح لا يتابع ولا يعرف الساسة غير الفاعلين في العالم الرقمي.
وأوضح “أعتقد أننا أمام مرحلة غياب قادة الرأي التقليديين، ومن لم يطوّر رؤيته وحضوره وفق ذلك ويصنع قادة رأي ومؤثرين رقميين سيخسر، وأعتقد أن الحزب الحاكم اهتم بذلك متأخرا وخاصة في منصة السياسة الأولى إكس؛ لكن رغم ذلك تمكن من تسجيل الحضور ويعمل على تطوير ذلك”.
وختم الصحفي بينيجي “شهدنا في هذه المرحلة تراجعا؛ والسنوات المقبلة ستزيد من تراجع تأثير الإعلام التقليدي بأنواعه، والعامل المهم سيبقى هو الواقع الذي تعمل منصات التواصل على عكسه بلا مواد تجميل ومباشرة عبر صحافة المواطن، وهذا يصعب المعادلة على الساسة وصانع الرسالة الذي يقع عليه الربط بين الواقع (الحقيقي) والافتراضي”.