باريس- استحوذت الحرب المستمرة على قطاع غزة ودعم أوكرانيا على المناقشات التي أجراها وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن في باريس، أمس الثلاثاء، خلال لقائه وزيري الخارجية والدفاع الفرنسيين قبل لقائه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون.
وفيما أكد بلينكن ضرورة زيادة الإنتاج العسكري لدعم كييف بما في ذلك شحنات الذخائر والدفاع السيبراني والإنتاج الصناعي للأسلحة داخل أوكرانيا نفسها، ترى واشنطن في باريس “التلميذة المخلصة” التي تطبق قواعد تحالف الأطلسيين بحذافيرها.
وتُعتبر هذه الخطوة مبررة حيث من المتوقع أن يزور الرئيس الأميركي جو بايدن، في يونيو/حزيران القادم، ساحل نورماندي الفرنسي بمناسبة الذكرى الـ80 لعمليات الإنزال، فيما سيحتفل حلف شمال الأطلسي (ناتو) بالذكرى الـ75 لتأسيسه في يوليو/تموز المقبل في واشنطن.
وقت حرج
وبدأت زيارة وزير الخارجية الأميركي من موقع شركة “نكستر” في فيرساي، التابعة للمجموعة الفرنسية الألمانية “كي إن دي إس” الرائدة في مجال الدفاع الأرضي على المستوى الأوروبي.
وبينما كان يحاول الحفاظ على تفاؤله والإشارة إلى ضعف روسيا عسكريا واقتصاديا ودبلوماسيا، وصف بلينكن الحرب الأوكرانية بـ”اللحظة الحرجة” و”التحدي قريب المدى الذي يجب مواجهته بأقصى سرعة”.
وأعرب عن أسفه بشأن توقف برنامج المساعدات المخصصة لأوكرانيا بقيمة 50 مليار دولار عقب حظره منذ أشهر من قبل المعارضة في الكونغرس.
ويرى الجنرال السابق في الجيش الفرنسي فرانسوا شوفانسي أن المسؤول الأميركي يعلم أن تنفيذ اقتصاد الحرب ودعم أوكرانيا سيتطلب أشهرا طويلة، “لذا تحاول الولايات المتحدة وحلفاؤها كسب الوقت في هذه الفترة الحرجة، حتى لا يتركوا المجال أمام روسيا لفعل ما تشاء”.
وأكد شوفانسي للجزيرة نت أن أوكرانيا في وضع صعب للغاية منذ سقوط أفدييكا “الأمر الذي لم يتوقع أحد حدوثه، وكان نقطة تحول بالغة الأهمية في المنظومة الدفاعية الأوكرانية، وسمح للروس بالتقدم”. ويرى أن الجيش الأوكراني في مراحله الأخيرة ومنهك بسبب تعرضه لنيران مدفعية ثقيلة وضربات جوية مدمرة، فضلا عن نقص الجنود.
وبعد الجدل الذي أحدثته تصريحات ماكرون بشأن إرسال قوات إلى أوكرانيا، يرى المحلل السياسي جيرالد أوليفيه أن بلينكن يرغب في التعرف على هذا الموقف الفرنسي عن قرب لتوضيح سوء الفهم، إلى جانب مناقشة ملف غزة الشائك في الدبلوماسية الخارجية للبلدين في ظل استمرار التهديد بقصف مدينة رفح.
وأوضح في حديثه للجزيرة نت أن “بلينكن يهدف إلى طمأنة ماكرون بشأن الالتزام الأميركي، لأن المساعدات الأميركية تشكل الجزء الأكبر من الدعم المقدم لأوكرانيا. وبما أننا على بعد 6 أشهر من الانتخابات الرئاسية، فمن المرجح أن يظل هذا الملف معطلا”.
أهداف بعيدة المنال
وضمن اقتصاد الحرب الذي أعلن عنه ماكرون ووزيره في القوات المسلحة سيباستيان لوكورنو قبل أسبوع، كشف الوزير الفرنسي للمرة الأولى أن معدل إنتاج مدافع قيصر سيرتفع من 6 إلى 12 شهريا في الفترة المقبلة، وهي مدافع من طراز هاوتزر ذاتية الدفع عيار 155 مليمترا، واستخدمتها القوات الأوكرانية على نطاق واسع لأكثر من عام.
ووصف لوكورنو مدفع القيصر بـ”رمز التحالف المدفعي”، مشيدا بعمل أعضاء الناتو من أجل المساهمة في الدفاع الجماعي وتحمل المسؤولية المشتركة.
وانتقد المحلل أوليفيه ذلك قائلا إن “فرنسا وباقي الدول الأوروبية تحاول تقديم القليل من المساعدة العسكرية بعدد معين من المركبات المدرعة والدبابات، وخاصة مدافع قيصر الشهيرة، دون أن تحل محل الولايات المتحدة لأنها غير قادرة على فعل ذلك”.
لكن الجنرال السابق في الجيش يعتقد أن هذه الأهداف بعيدة المنال لاستحالة الحصول على استجابة سريعة في الصناعة “لأن تصنيع المزيد من الذخائر ووجود مصانع قادرة على الإنتاج بسرعة يعني من ناحية وجود خطوط إنتاج موجودة، وإذا لم تكن موجودة، فيجب تركيبها وشراء الآلات المناسبة، فضلا عن تدريب الموظفين بكفاءة معينة”.
وأضاف شوفانسي “إننا أمام أشهر من الاستعدادات إن لم تكن سنوات لتقديم المساعدات المتوقعة لأوكرانيا، وأعتقد أن خطوط فرنسا الإنتاجية ستبدأ فعليا في إنتاج المزيد من الذخيرة والأسلحة اعتبارا من العام المقبل”.
ولفت الجنرال الفرنسي إلى أن إعلان الوزير الفرنسي قبل أيام عن تسليم مئات المدرعات القديمة “هو دليل قاطع على أننا لا نزال نعتمد على مخزوناتنا، ولن نتمكن من توفير معدات جديدة في الأشهر المقبلة”.
رسائل سياسية
في المقابل، يعتقد المتخصص في العلاقات الدولية أوليفيه أن زيارة بلينكن أتت لتأكيد قوة الحلفاء في مواجهة روسيا ووحدة مواقف أعضاء الناتو بشأن القضية الأوكرانية رغم تباين آرائهم، ولإرسال رسالة مباشرة إلى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مفادها أن هذا الصراع “حمّال أوجه وله بُعد إقليمي، وسيؤدي إلى مواجهة موسكو مع الناتو”.
بدوره، يعتبر الجنرال السابق فرانسوا شوفانسي أن الحلفاء في الناتو يسعون إلى إظهار تماسكهم أمام موسكو “ولكن بما أن نتائج هذا التحالف لن تتحقق بين ليلة وضحاها، تستعين اليوم الولايات المتحدة وحلفاؤها بالاتصالات السياسية من خلال تقديم رسالة قوية إلى بوتين مفادها أن الحلفاء ما زالوا إلى جانب كييف”.
وبشأن الحرب على قطاع غزة، أكد المحلل السياسي أن إدارة بايدن والإليزيه “على الموجة نفسها” إذ يصر الطرفان على الاستمرار في دعم إسرائيل رسميا والاعتراف بحقها في الدفاع عن النفس، ولكن في الوقت ذاته يدفعان إلى حثها على الحد من الأضرار والسماح بإدخال المساعدات الإنسانية وحماية المدنيين.
ومن الواضح أن بلينكن ناقش مع نظيره الفرنسي ستيفان سيجورنيه الوضع في الشرق الأوسط على أساس مشترك راسخ يتمحور حول إطلاق سراح المحتجزين. ففي الوقت الذي أدان فيه المسؤول الفرنسي الضربة الإسرائيلية التي أدت إلى مقتل 7 من عمال الإغاثة في منظمة “المطبخ المركزي العالمي” في غزة، اكتفى بلينكن بالمطالبة بـ”تحقيق سريع ومحايد”.
كما كرر الوزيران قلقهما بشأن قصف قنصلية إيران في دمشق ومخاطر التصعيد الإقليمي، خاصة في لبنان. وحمّل وزير الخارجية الفرنسي دول المنطقة المسؤولية، باستثناء الدولة التي تقود الحرب على غزة، وهي إسرائيل.