لم يمنع العدوان الإسرائيلي المتواصل على غزة منذ نحو 8 أشهر الأجهزة الأمنية التابعة للسلطة الفلسطينية في الضفة الغربية من الاستمرار بملاحقة المقاومين والتضييق على المقاومة، ومتابعة القيام بمهام التنسيق الأمني مع قوات الاحتلال.
ويثير سلوك أجهزة السلطة تساؤلات عن حقيقة انخراطها في مشروع الخطة الأمنية التي طرحتها الولايات المتحدة في فبراير/ شباط 2023 التي سميت “خطة فنزل” على اسم المنسق الأمني الأميركي الجنرال مايكل فنزل الذي صاغها.
وكان فنزل أعلن الخطة الأمنية بعد اجتماع العقبة بالأردن تحت إشراف أميركي من طرف بيرت ماكرغك مستشار الرئيس الأميركي لشؤون الشرق الأوسط، وشارك فيه -وفق صحيفة يديعوت أحرونوت- مساعدة وزير الخارجية الأميركي لشؤون الشرق الأوسط باربارا ليف.
وحضر من الجانب الإسرائيلي تساحي هنبغي مستشار الأمن القومي، ورئيس الشاباك رونين بار، ومنسق عمليات الحكومة الإسرائيلية بالمناطق الفلسطينية اللواء غسان عليان، في حين شارك من الجانب الفلسطيني أمين سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير حسين الشيخ ورئيس جهاز المخابرات ماجد فرج، ومجدي الخالدي المستشار الدبلوماسي لرئيس السلطة.
في مواجهة الفشل
وجاءت القمة بعد فشل الاحتلال في فرض سيطرته الأمنية على المقاومة، منذ الحرب الإسرائيلية على غزة التي أطلقت عليها المقاومة “سيف القدس” صيف العام 2021، وما تلاها من تصعيد للعمل المقاوم في الضفة الغربية.
وهدفت تلك الخطة بحسب البنود التي نشرها الإعلام الإسرائيلي حينها لإعادة سيطرة القوات الأمنية التابعة للسلطة الفلسطينية على شمال الضفة الغربية من أجل تهدئة التوتر بالمنطقة.
وقد أشارت القناة الإسرائيلية الـ14 إلى أن رئاسة السلطة وافقت على الخطة وخضعت لضغوط إدارة الرئيس جو بايدن، على أن يكون تنفيذ الخطة جزءا من إعادة إنتاج دور السلطة أمنيا، وتفعيل التنسيق الأمني إلى سابق عهده.
ضرب بنية المقاومة
تبني الخطة أهدافها -بحسب ما نشرته صحيفة يديعوت أحرونوت- بإنهاء المقاومة المسلحة في الضفة الغربية، وتغيير توجهات السلطة الفلسطينية بحيث تصبح أكثر صلابة في التعاطي مع المقاومين الفلسطينيين.
كما تركز أهداف الخطة بحسب ما نشر عنها على ضرورة إنهاء السلطة الفلسطينية أي محاولات لفتح قنوات للتواصل مع عناصر المقاومة، بل العمل على ضرب بناهم التحتية والقضاء عليهم.
وتضمنت إعادة تدريب قوة خاصة من عناصر الأجهزة الأمنية التابعة للسلطة الفلسطينية قوامها 5 آلاف عنصر، تكون مهمتها مواجهة تشكيلات المقاومة في الضفة وكبداية في نابلس وجنين، بهدف إخضاعها وضرب بنيتها التحتية.
وكان من المقرر أن تخضع هذه العناصر لبرنامج خاص بإشراف أميركي، وطرحت قواعد عسكرية في الأردن كمكان لإجراء هذه التدريبات، وبحسب ما نقل الإعلام الإسرائيلي، فقد وافق الأردن ومصر بالفعل على برنامج التدريب.
وسينقل هؤلاء العناصر بعد انتهاء تدريبهم مناطق في الضفة الغربية وفي مقدمتها مدينتا نابلس وجنين، وسيعملون تحت إمرة غرفة عمليات مشتركة، ومع دخولها سيعمد إلى تقليص وجود قوات الاحتلال في إطار التنسيق الأمني تحت إشراف أميركي، خصوصا في نقاط الاحتكاك.
الخطة بعد الطوفان
ويرى مراقبون أن الخطة لا تزال سارية المفعول رغم تواصل العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة بعد عملية طوفان الأقصى التي نفذتها المقاومة الفلسطينية في 7 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي.
ونشر موقع “إنترسبت” تقريرا قال فيه إن المسؤولين الأميركيين لا يزالون يتحدثون مرار وتكرارا عن ماهية السيطرة الإدارية والأمنية في الضفة والقطاع رغم الهجوم الذي تشنه إسرائيل على القطاع.
وأضاف الموقع في تقريره أنه في مناسبات متعددة، قال مسؤولو إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن إن غزة التي كانت تحكمها السلطة الفلسطينية قبل سيطرة حركة حماس “يجب إعادة ربطها بالضفة الغربية في ظل سلطة فلسطينية متجددة ومنشطة”.
ويرى الكاتب الفلسطيني ساري عرابي أن أهداف الخطة تجددت بعد طوفان الأقصى، لأن الولايات المتحدة تحدثت عن ضرورة تنشيط السلطة الفلسطينية، “وكانت تقصد بذلك أن تكون السلطة قادرة على القيام بالمهام الأمنية المطلوبة منها والمنوطة بها وفق اتفاقية أوسلو، وهي مهام يفترض أنها تضاعفت بعد حالة المقاومة في الضفة الغربية”.
وأضاف في حديثه للجزيرة نت أنه في سياق مساعي واشنطن لتبريد الموقف في الضفة الغربية فإنها تسعى لتوفير ضمانات للاحتلال الإسرائيلي حتى يخفف دخوله واقتحاماته لمناطق “أ” في الضفة الغربية، وهذا هو الهدف الأساسي في خطة فنزل.
وقال عرابي ليس المقصود من الخطة المذكورة أن تحل قوات السلطة في الضفة الغربية مكان الاحتلال الإسرائيلي، لأن ذلك يتطلب تسوية شاملة ينسحب فيها الاحتلال الإسرائيلي من الضفة الغربية وهذا أصلا غير مطروح أميركيا ولا إسرائيليا.
ويتابع أن المقصود من هذه الخطة التي كانت من مخرجات الاجتماعات التي تمت في العقبة خلال فبراير/ شباط 2023 هو أن تقوم قوات السلطة بالدور الأمني الذي يقوم به الاحتلال الإسرائيلي داخل مناطق “أ” التي يفترض وفق اتفاقية أوسلو أن تكون مناطق لا يدخلها الاحتلال الإسرائيلي.
ملاحقات وتصعيد
وفي السياق ذاته، اعتبر الكاتب والباحث السياسي معين مناع أن الخطة لا تزال سارية رغم العدوان الإسرائيلي على غزة، مشيرا إلى أن “جميع الأطراف المنخرطين فيها متفاعلون معها، فهي مهمة مستمرة تصاعدت وتيرتها وإن كان التداول الإعلامي لها يختلف باعتبار أن الخطة تعمل وفق آلية باتت معتمدة”.
ومن أمثلة ذلك، اتهام كتيبة جنين التابعة لسرايا القدس -الجناح العسكري لحركة الجهاد الإسلامي– الأجهزة الأمنية التابعة للسلطة باغتيال المقاوميْن أحمد هاشم عبيدي وبهاء الكعكبان في يناير/ كانون الثاني الماضي.
وكثفت أجهزة أمن السلطة عمليات ملاحقة المقاومة الفلسطينية في الضفة، وكانت محاولة اعتقال الأسير الفلسطيني المحرر وأحد قادة كتائب القسام -الجناح العسكري لحركة المقاومة الإسلامية حماس في الضفة الغربية– قيس السعدي الأكثر وضوحا.
ويعتقد الباحث في العلاقات الدولية والدراسات الإستراتيجية عبد الله العقرباوي -في تصريحات سابقة للجزيرة نت- أن الأجهزة الأمنية تنفذ التوجهات السياسية للسلطة الفلسطينية، فرغم كل ما قامت به إسرائيل من إبادة جماعية في قطاع غزة ومن استهداف وقتل في الضفة الغربية، فإن السلطة لم تغادر مربع المراهنة على مسار المفاوضات غير الموجود وغير الفعال والالتزام بالتنسيق الأمني مع الاحتلال.
بين غزة والضفة
ورغم أن الخطة طابعها أمني وتهدف لاحتواء التصعيد في الضفة، فإنها حدث سياسي في جوهرها، إذ سيقرر على ضوئها “قضية سياسية أوسع هي مستقبل السلطة الفلسطينية”، بحسب موقع “والا” الإسرائيلي، الذي يرى أن كثيرا من وزراء الحكومة اليمينية الإسرائيلية الحالية “يؤيدون القضاء على السلطة”.
وإزاء ذلك، فإن الحديث عن تنشيط السلطة الفلسطينية تصاعد بشكل كبير بعد هجوم 7 أكتوبر، والحديث ليس فقط عن تنشيطها للعمل في الضفة فقط، بل إحلالها أيضا مكان حركة حماس في قطاع غزة، وهو المقترح الذي تفضله الولايات المتحدة وتسعى إلى دمجه في مشروع إعادة تنشيط السلطة الفلسطينية بحيث يكون جزءا من محاولة إحياء حل الدولتين من جديد.
وفي فبراير/ شباط الماضي تحدث مسؤولون أميركيون كبار من بينهم الجنرال مايكل فنزل خلال اجتماع بشأن الإجراءات المرتقبة لمعالجة الإجراءات التي تقوض السلام والأمن والاستقرار في الضفة الغربية.
وخلال الاجتماع -الذي نشره موقع البيت الأبيض- تحدث المجتمعون عما وصفوه بـ”النهج الشامل تجاه هذه الأزمة في برمتها، ليس فقط في الضفة، ولكن في السياق الأوسع الذي يشمل إسرائيل وغزة والضفة الغربية والمنطقة الكبرى”.
وعقب ذلك، تحدثت صحيفة يديعوت أحرونوت عن خطة تدرسها إسرائيل للاستعانة بمسؤولين في السلطة الفلسطينية لإدارة غزة، ومن المفارقة أن الخطة تقوم على تأهيل قوة من عناصر أمن السلطة يشرف على تدريبها الجنرال فنزل نفسه.
ودار الحديث عن قوة يتراوح عدد عناصرها بين 4 آلاف و7 آلاف شخص، تُنقل أسماؤهم إلى إسرائيل للتأكد من عدم تورطهم في “الإرهاب”، وكان من المفترض في بداية الأمر فحص إمكانية إجراء التدريبات في الضفة الغربية، قبل أن تعتمد إقامتها في الأردن في الاقتراح النهائي للخطة.
وقالت الصحيفة إن المؤسسة الأمنية الإسرائيلية، وعلى رأسها وزير الدفاع يوآف غالانت، تقف وراء الخطة، لكن رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو رفض الخطة، لأنها برأيه تتحدث عن أشخاص من السلطة الفلسطينية.
وتبدو تصريحات وزير الدفاع يوم الأربعاء خلال مؤتمر صحفي بتل أبيب تأكيدا لموقفه من الخطة، حيث أكد معارضته الشديدة لأي حكم عسكري إسرائيلي لقطاع غزة، مطالبا بإيجاد بديل لحركة حماس، بينما تصلب نتنياهو في رده على تصريحات غالانت، وقال إنه ليس مستعدا لاستبدال “حماستان بحكم فتحستان”.