خاركيف- عن آثار وتداعيات الحرب المستمرة تحدثك كل أحياء مدينة خاركيف شرق أوكرانيا، وكأنها مسرح أحداث لم تنته على مساحة تبلغ نحو 350 كيلومترا مربعا.
حرب أتت على معالم كثيرة في المدينة القريبة من الحدود الروسية، التي لطالما فخرت بأنها كانت أول عاصمة لأوكرانيا في الفترة ما بين ديسمبر/كانون الأول 1919 ويناير/كانون الثاني 1934، قبل أن تصبح كييف هي العاصمة.
شارع “سومسكا” الرئيسي في وسط المدينة شاهد كاف على ذلك، إذ لحق الدمار والضرر بجميع مبانيه التي تُعتبر تحفا معمارية ويعود بعضها إلى القرن الـ18.
وفي ساحة الحرية التي تتوسط الشارع (ساحة لينين سابقا)، يشهد على الدمار مبنى إدارة مقاطعة خاركيف، وفنادقها و”خاركيف بالاتس”، التي تعتبر من معالم المدينة، والتي استُهدفت بالقصف المباشر مطلع العام الجاري.
“غنية ومشهورة”
غير بعيد عن هذا الشارع، دمر القصف أجزاء من مكتبة “كورولينكو”، ومتحف الفن، وعددا من الكنائس التاريخية ومبنى “ديرجبروم” (قصر الصناعة) الذي بني في 1928 وكان يعتبر أول ناطحة سحاب في عهد الاتحاد السوفياتي.
ومدينة خاركيف غنية ومشهورة ببناها التحتية في مجال الطب، إذ تضم 64 مؤسسة صحية بين مستشفى ومستوصف ومراكز بحوث ومخابر، منها 5 تجمعات طبية ضخمة متخصصة في جميع المجالات.
و استُهدفت تلك المؤسسات مرارا منذ بداية الحرب، وآخر ذلك كان في 30 ديسمبر/كانون الأول الماضي قرب أحد مباني المستشفى رقم 28.
تقول نتاليا يرمولايفا، مديرة المستشفى للجزيرة نت: “عمره أكثر من 70 عاما، وقد قُصف مباشرة مع بداية الحرب، ثم أُعيد ترميمه خلال العام الماضي”.
وتابعت، المتحدثة ذاتها، “عاد التصعيد إلى خاركيف عموما، والقصف تجدد على المستشفى. ربما لأنه أقرب مستشفى إلى مقاطعة بيلغورود الروسية (نحو 40 كيلومترا شمال خاركيف). تم ذلك بواسطة صاروخين من طراز “إس 300″ سقطا قرب مبنى رعاية المرضى الذين يأتون للرقود فيه خلال الفترات الصباحية”.
وأكدت يرمولايفا للجزيرة نت: “لم يكن في المستشفى أي عسكري أو آلية عسكرية، والحظ حالفنا لأن المبنى يخلو من المرضى والعاملين في أيام العطل. القصف أحدث أضرارا كبيرة، المستشفى مدني، يستفيد من خدماته نحو 40 ألف نسمة في الأحياء المجاورة”.
ولعل من أشهر صفات خاركيف -خلال الحقبة السوفياتية وبعدها- أنها “مدينة الثقافة” و”مدينة العلوم” و”المدينة الطلابية”، لكثرة الجامعات والمعاهد فيها، إذ تضم 60 مركزا ومعهدا بحثيا في شتى المجالات، و45 جامعة إضافة إلى 8 متاحف ومعارض كبيرة، و7 مسارح حكومية، و80 مكتبة.
خسارة وشلل
خسرت خاركيف جميع طلابها في مراحل التعليم العالي الذين كنت تراهم في كل مكان، وهم نحو 300 ألف وفق إدارة المدينة، فالحرب أتت على مؤسسات تعليمية كثيرة، والشلل أصاب حتى تلك التي سلمت من عمليات القصف.
وتُعد جامعة “كارازينا” في وسط المدينة من أشهر المعالم التي تفخر بها خاركيف، فهي أول جامعة علمية في أوكرانيا وثاني أشهر جامعة بعد “شيفتشينكو” في كييف، وقيامها قبل 219 عاما كان سببا في تطور المدينة ونموها، التي كانت أصغر حتى من تجمعات سكنية كثيرة تحيط بها، وباتت اليوم تابعة لها.
كما أن “كارازينا” دخلت قبل الحرب قائمة أفضل 500 جامعة حول العالم أحيانا، أو قائمة أفضل 1000 جامعة في أحيان أخرى.
يقف المبنى الرئيسي لجامعة “كارازينا” قرب ساحة الحرية، وهو أيضا لم يسلم من عمليات القصف المباشر أو تداعياته، فأُغلق أمام 23 ألف طالب كانوا يدرسون فيه قبل الحرب، منهم 5 آلاف طالب أجنبي، تعتبر أقساطهم “الممول الرئيس” للجامعة.
يقول أناتولي بابيتشيف، نائب عميد الجامعة للجزيرة نت: “عند كل اجتماع في بداية الحرب، كانت تأتينا المعلومات تباعا، خسرنا ذلك المبنى وذلك السكن وهكذا. وفي النهاية خسرت الجامعة نحو 25% من مباني كلياتها وسكنها ومجمعاتها الرياضية التي كان يبلغ إجمالي عددها 40، ويقدر حجم الخسائر بقرابة 150 مليون يورو”.
وأضاف: “كنا نواجه اكتئابا شديدا، لكننا تجاوزناه بعد أسبوعين من بداية الحرب، وبعد إجلاء الطلاب، قررنا أن خسارة المباني لا يجب أن توقفنا، وأن الكوادر الباقية والصامدة هي رأس المال الأهم”.
وتابع: “أُغلقت الأبواب، وتحولنا سريعا إلى نظام الدراسة عن بعد، فعادت العملية التعليمية إلى كليات أدبية كثيرة، بينما اضطررنا لتحويل طلاب التخصصات العلمية إلى منصة خاصة استُحدثت في جامعة إيفانوفرانكيفسك غرب البلاد”.
“مؤشر إيجابي”
ويختم بابيتشيف: “تجاوزنا حربين عالميتين، وستتجاوز الجامعة الحرب الروسية الراهنة. وضعها أفضل بكثير من جامعات أخرى أُغلقت تماما أو اضطرت للاندماج مع غيرها في خاركيف. ثمة إقبال على التسجيل بنظام التعليم عن بعد، وبعد خسارة نصف الطلاب بداية الحرب، لدينا اليوم نحو 20 ألف طالب، منهم ألفُ أجنبي، وهذا مؤشر إيجابي كبير”.
بالأرقام وحكم الواقع، يُعتبر الطلاب جزءا من المكون الديمغرافي الذي تغير بفعل الحرب في خاركيف، وهذا يشمل أيضا طلاب المدارس التي أُغلق كثير منها، إلا تلك التي تضم “ملاجئ آمنة”، على قلتها.