منذ بداية العدوان على قطاع غزة كان تركيز الاحتلال الإسرائيلي على استهداف المدنيين وتدمير البنية التحتية والمنشآت المدنية، وترافق ذلك مع الاستهداف المباشر للفلسطينيين أثناء نزوحهم إلى الأماكن الآمنة التي حددت لهم، فضلا عن تعمد استهداف المدنيين الذين لجؤوا إلى المستشفيات والمدارس.
وأتبع الاحتلال ذلك بجملة تجويع ممنهجة من خلال تعطيل مرور المساعدات من معبر رفح ومنع مرورها إلى شمال غزة، لإحكام الخناق على الفلسطينيين هناك وتسريع نزوحهم إلى الجنوب، مما تسبب في مجاعة حقيقية لمن بقي هناك أدت إلى موت العشرات، وتعرض الآلاف منهم لسوء التغذية، إضافة إلى تفشي الأمراض بينهم.
كما أقدم الاحتلال على اعتقال آلاف المدنيين في الضفة وقطاع غزة الذين تعرضوا لانتهاكات جسيمة خلال عملية الاعتقال، إضافة إلى ما كشفته المفوضية السامية للأمم المتحدة لحقوق الإنسان مؤخرا عن تعرض نساء وفتيات فلسطينيات محتجزات لأشكال متعددة من الانتهاكات.
وفي السياق، كشفت اليونيسيف أن 90% من الأطفال في غزة دون سن الثانية و95% من النساء الحوامل والمرضعات يواجهن فقرا غذائيا حادا، الأمر الذي يعني أن الاحتلال تسبب بأزمة مجاعة حقيقية قد تكون غير مسبوقة في حروب التاريخ الحديث.
وعلى مدار 5 أشهر من الحرب سعى الاحتلال إلى إشباع غريزة الانتقام من المقاومة إثر عملية طوفان الأقصى في 7 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، والتنفيس عن فشله في تحقيق أهدافه العسكرية على الأرض.
وتعمد الاحتلال تهجير نحو 1.4 مليون فلسطيني إلى جنوب غزة على أمل تهجيرهم إلى مصر بدعم أميركي في البداية، وهو أمر لم ينجح بسبب صمود الشعب الفلسطيني، مترافقا مع رفض مصر استقبال اللاجئين واعتبار ذلك تهديدا لأمنها القومي، وإن كانت نسقت مع إسرائيل في سعيها لاحتلال معبر صلاح الدين (فيلادلفيا).
الحاضنة الشعبية
جاء كل ذلك بهدف الضغط على حركة المقاومة الإسلامية (حماس) من خلال إنهاك الحاضنة الشعبية ودفعها إلى الضغط على المقاومة للاستسلام، وذلك بعد أن فشل الاحتلال في تحقيق إنجاز حقيقي على الأرض في القضاء على المقاومة وتحرير أسراه بغزة.
ويفسر هذا السلوك الإجرامي التصريحات التي صدرت عن قادة الاحتلال بوصف الفلسطينيين بالحيوانات البشرية، والدعوة إلى استخدام القنبلة النووية لإبادتهم.
وبررت حكومة الاحتلال تقييدها دخول المساعدات والوقود بأنها تذهب إلى حركة حماس، والحقيقة أن كل أساليب القتل والتهجير والتجويع هي للضغط على المقاومة ومحاولة إفقادها الدعم الشعبي.
وفي المحصلة، فإن إسرائيل تشن حربها، ليس على حماس، وإنما ضد الشعب الفلسطيني بجريرة أنه يوفر الدعم والإسناد للمقاومة، ونلفت هنا إلى ما أوردته صحيفة هآرتس، إذ قالت إن “هذه الحرب أكدت صحة رواية حركة حماس بأن حرب إسرائيل هي ضد الشعب الفلسطيني وجميع المسلمين، وليس ضد حماس وحدها”.
مخططات اليمين
على أن كل ذلك لم يكن بمعزل عن مخططات اليمين المتطرف -الذي يقود حكومة الاحتلال- لتهجير الفلسطينيين من غزة والضفة، وجعل حياتهم مستحيلة في أرضهم.
إن سلوك حكومة الاحتلال يتجه نحو الكاهانية التي تقوم على فكرة الترانسفير، فرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في بحثه عن الاستمرار في الحكم يتماهى مع قادة اليمين المتطرف الذين يسعون إلى تهجر الفلسطينيين ويبحثون عن دول تستقبلهم.
وعندما يعرض نتنياهو خطة اليوم التالي للحرب على حكومته يرفض أي شكل من أشكال الكينونة الفلسطينية أو الدولة الفلسطينية في الضفة الغربية التي يريد السيطرة عليها عسكريا وأمنيا، وهو بذلك يعبر عن فكرة الترانسفير في الضفة الغربية وغزة أيضا التي يرفض الانسحاب منها حتى لو أدى ذلك للاختلاف مع حليفه الأميركي.
ونستحضر هنا وصف رئيس وزراء الأسبق إيهود أولمرت لوزير الأمن الداخلي إيتمار بن غفير ووزير المالية بتسلئيل سموتريتش حينما قال في مقال له في صحيفة هآرتس إن “الهدف الأسمى للثنائي ليس احتلال غزة في المقام الأول، ولا الاستيطان في أرجاء القطاع المدمر، ليس هذا هو المأمول لمجموعة الحالمين المسيحانيين الذين سيطروا على الحكم في دولة إسرائيل، غزة هي فصل المقدمة، المنبر الذي تريد هذه المجموعة إقامته كأساس وتتم إدارة المعركة الحقيقية التي يتطلعون إليها من فوقه هو في الضفة الغربية والحرم (المسجد الأقصى)”.
وأضاف “الهدف النهائي لهذه الزمرة هو تطهير الضفة الغربية من السكان الفلسطينيين وتطهير الحرم من المصلين المسلمين وضم المناطق إلى دولة إسرائيل”.
صحوة عالمية
ويؤكد ما سبق رغبة الاحتلال في استخدام كل هذه الوسائل لتحقيق مكاسب على الأرض، خصوصا بعد أن تأكد أنه غير قادر على استعادة أسراه بالقوة، مما دفعه إلى التفاوض بالنار مع حماس مع انطلاق مفاوضات باريس، مستعينا بذلك بالإعلان عن استعداده لمهاجمة رفح، معتبرا إياها آخر قلاع المقاومة، فيما هو لم ينجز مهمته لا في شمال القطاع ولا في خان يونس بالجنوب.
وأدى ذلك إلى تصاعد خلافه مع إدارة الرئيس جو بايدن وتصاعد الانتقادات في أوساط الغرب الذي دعمه في بداية الحرب، لينقلب في النهاية إلى المطالبة بوقفها.
وتزامن ذلك مع ارتفاع حدة الاحتجاجات الشعبية في هذه البلدان على وقع المآسي التي تسبب فيها الاحتلال، ومعاناة غزة من مجاعة حقيقية استنفرت مؤسسات الأمم المتحدة للتحذير من تداعياتها والمطالبة بوقف الحرب.
ولذلك وجدت واشنطن نفسها وحيدة في معارضة مشروع القرار الجزائري في مجلس الأمن والداعي لوقف إطلاق النار، واضطرت إلى استخدام الفيتو لمنعه بسبب موافقة 13 دولة من أصل 15 عليه، وامتناع بريطانيا الحليفة الوثيقة لها عن التصويت.
وهذا ما دفع مقررة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية فرانشيسكا ألبانيز لتقول إن “الولايات المتحدة تختطف مجلس الأمن باستخدامها حق النقض 3 مرات ودعمها المطلق لإسرائيل”.
وبدأت إسرائيل تواجه عزلة دولية غير مسبوقة في تاريخها بسبب ممارساتها، وبدأت هذه العزلة بالخلافات الشديدة مع بايدن بشأن استهداف المدنيين، وخطة اليوم التالي للحرب، والدولة المستقلة، فضلا عن ممارسات المستوطنين في الضفة الغربية التي دفعت واشنطن إلى فرض عقوبات على 4 منهم، وهو ما حذت حذوه بريطانيا وفرنسا.
كما لوحت إدارة بايدن بالاعتراف بالدولة الفلسطينية من طرف واحد للضغط على حكومة نتنياهو للقبول ولو شكليا بهذا الحل للتمهيد لعملية التطبيع في المنطقة بعد انتهاء الحرب.
كما تستعد لتقديم مشروع قرار إلى مجلس الأمن يدعو لهدنة إنسانية ويحذر من اجتياح رفح بعد إعلان حكومة الاحتلال عزمها اجتياحها، بصرف النظر عن التوصل إلى هدنة مع حماس من عدمه، وبعد ترتيب تهجير الفلسطينيين إلى مناطق محددة في قطاع غزة.
أضف إلى ذلك استمرار محكمة العدل الدولية في بحث قضية الإبادة الجماعية التي اتهمت فيها إسرائيل، وبحثها أيضا مشروعية الاحتلال في جلسات خاصة تعرّض فيها الكيان للإدانة من معظم الدول.
سقوط حر
وفي تداعيات أخرى، صدر قرار من محكمة في هولندا بحظر بيع أسلحة إلى إسرائيل، وتوقفت إيطاليا عن بيع أسلحة إليها، فيما دعا مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل المجموعة الدولية إلى دراسة إمكانية تقليص السلاح المورد لإسرائيل، إضافة إلى خفض تصنيفها الائتماني.
وهكذا، فإن إسرائيل -التي تتمترس بالبكائيات والمظلومية للتغطية على عدوانها- باتت الآن مكشوفة وعارية أمام المجتمع الدولي، وهو ما ستكون له انعكاساته المستقبلية على صورتها ودورها.
وفي هذا السياق، وصف رونين برغمان محلل الشؤون الاستخباراتية في صحيفة “يديعوت أحرونوت” الأجواء التي سادت مؤتمر ميونخ الأمني -الذي عُقد مؤخرا بسبب الحرب على غزة- بأنها تدل على أن “إسرائيل موجودة في ذروة تحوّل يزداد تفاقما وشدة ويجري بوتيرة متسارعة، وفي نهايته ستكون دولة معزولة، منبوذة، مقاطعة وبغيضة”.
ونقل بيرغمان عن مسؤول إسرائيلي وصفه بأنه “رفيع جدا” قوله “أنا قلق لأن التحولات -التي نراها هنا في جميع الأحداث بالمؤتمر، هذا التآكل في النظرة إلينا، التدهور إلى الهاوية، بانهيار مكانة إسرائيل الدولية- ستتحول إلى سقوط حر”.
ويضيف “هكذا هي الأمور عند الهاويات، أنت ترى طرف الجرف، وتبذل جهودا كبيرة كي تتوقف أو تؤخر الوصول إلى هناك على الأقل، وتتمسك بأي حجر أو كومة تراب، حتى ذرة التراب الأخيرة، لكن إذا لم تنجح بالتوقف ووصلت إلى هناك عندها يكون السقوط من هناك حرا إلى الأسفل”.
وأضاف “إذا لم نتوقف هنا فإنه في مؤتمر ميونخ المقبل سننظر إلى الخلف ونقول إننا خطونا هذه السنة خطوة كبيرة إلى الأمام، إلى هاوية الموت”.
العدوان مستمر
لكن كل هذه التداعيات لم تكن كافية للجم الكيان، ولم تدفعه إلى تغيير سياساته على الأرض متسلحا بالدعم الأميركي، وربما رأى نتنياهو أنه قادر على الصمود في وجه ضغوط إدارة بايدن انتظارا لتغيير ممكن لصالح ترامب في الانتخابات الرئاسية هذا العام، حيث يعتقد نتنياهو أن حجم الضغوط عليه ستكون أقل، ليبقى يسوّق نفسه على أن أول رئيس وزراء إسرائيلي يصمد في وجه الضغوط الأميركية.
ومما يعزز استمرار الكيان بسياساته هو أن الضغط الأميركي لم يتجاوز الحدة اللفظية التي كانت موجهة بالأساس إلى الداخل الأميركي، وليس من أجل أن تبنى عليها خطوات عقابية للجم العدوان.
كما لم تبادر إلى ربط المساعدات العسكرية والمالية بتجاوب حكومة نتنياهو مع مطالب التخفيف من استهداف المدنيين، ورفضت الدعوات بهذا الشأن والصادرة من داخل الحزب الديمقراطي وبعض أعضاء الكونغرس، أو الموافقة على التصور الأميركي لما بعد الحرب، إذ رفضت هذه الحكومة بكافة أطيافها فرض الدولة الفلسطينية من طرف واحد وتمسكت بالفيتو على أي دور للسلطة الفلسطينية (حتى بصيغتها المتجددة) في غزة.
ورغم التحول المهم في مواقف الدول المؤيدة للعدوان باتجاه المطالبة بوقف إطلاق النار فإن مواقف هذه الحكومات ظلت محكومة بالسقف الأميركي.
هذا فضلا عن أن إسرائيل تمكنت من تجاوز قرار محكمة العدل الدولية الذي صدر قبل نحو شهر بخصوص الإبادة الجماعية، حيث قتلت نحو 4 آلاف فلسطيني منذ صدور هذا القرار.
تماسك الحكومة
ويستطيع نتنياهو في ظل هذه المعطيات الاستمرار في الحرب، لأن وقفها يعني سقوطه، فيما تمكن حتى الآن من تحييد احتجاجات أهالي الأسرى من خلال التأكيد على أنه يعمل عن الإفراج عنهم، وتحشيد متظاهرين آخرين معارضين لوقف الحرب.
كما أنه لا يزال قادرا على الحفاظ على تماسك ائتلافه الحكومي الذي يتمتع بـ64 صوتا داخل الكنيست المكون من 120 عضوا، وذلك من خلال اللعب على حبال مفاوضات الأسرى، والتحكم في التعليمات التي تعطى للمفاوضين، مما يمدد أمد المفاوضات للحصول على اتفاق يسوّقه على أنه انتصار يسجل باسمه.
ولذلك، فعلى الأرجح أن يمتد أمد هذه الحرب مع إمكانية التوصل إلى هدنة مؤقتة بدلا من إنجاز اتفاق شامل يفضي لوقف النار والانسحاب الإسرائيلي الكامل من قطاع غزة.
على أن هذه الهدنة قد تشكل متنفسا للفلسطينيين باتجاه تدفق المساعدات، فضلا عن إدخال بيوت متنقلة وخيام تساهم في إغاثتهم، إضافة إلى إطلاق مئات الأسرى الفلسطينيين، بينهم أصحاب محكوميات عالية.
وتعزز المؤشرات على الأرض استمرار صمود المقاومة لجولة قادمة في رفح قبل أو بعد رمضان، في جولة جديدة من الصراع لا يعرف مداها قد تركز أكثر على الاستهداف المكثف للمقاومة مع التخفيف من استهداف المدنيين، وهو أمر لم تتمكن إسرائيل من الالتزام به سابقا، ولا يبدو أنها ستنجح فيه مستقبلا، خصوصا في ضوء الكثافة السكانية العالية في رفح وعدم تمكنها من نقل السكان هناك إلى أي منطقة أخرى.
وسيؤدي ذلك -خصوصا مع صمود المقاومة على أرضها وفشل مخطط التهجير- إلى أن يفقد الكيان تدريجيا الغطاء الكامل لعدوانه، مما يمكن أن يؤدي إلى لجمه مستقبلا ووضع قيود على ممارساته ومواقفه باتجاه إنهاء الحرب، دون أن يتمكن من تحقيق كل أهدافه فيها.