دخلت الحرب على غزة أسبوعها الثالث، وأحرق لهيبها آلاف الأرواح، ومحى أحياء عدة من خريطة الحياة، ودمر مستشفيات بمن فيها من طفل جريح ومسعف وطبيب يغالب موجة الموت الهادر.
وفي حين تتعمق أنياب الأزمة في الجسد الفلسطيني، يحشد جيش الاحتلال الإسرائيلي عشرات الآلاف من جنوده على مشارف غزة، ويستعد للحرب البرية التي تستعد لها فصائل المقاومة أيضا.
وبين هذا وذاك، يعيش العالم على أعصابه في انتظار الجولة القادمة من حرب مدمرة، تتباين فيها موازين القوى، وتخرق فيها الأيام كل حين عادات المتوقع من الصراع بين جيش دولة، وتنظيمات شعب محاصر، وضمن هذا التباين الكبير، تبدو لكل طرف نقاط قوة متعددة، وسياق محلي ودولي، وتحديات عائقة، قد تزيد من تعقيد خيار الحرب البرية.
في التقرير التالي، نورد بعض نقاط القوة والضعف في الجبهة الإسرائيلية، كما سنتوقف عند عدد من نقاط القوة على مستوى فصائل المقاومة في غزة وفي مقدمتها كتائب القسام -الجناح العسكري لحركة المقاومة الإسلامية (حماس)- وسيناريوهات الحرب البرية.
إسرائيل.. دعم غربي ورغبة في الانتقام
تستعد إسرائيل للدفع بالآلاف وربما عشرات الآلاف من جنودها نحو حرب برية في قطاع غزة، لا تخفي أنها ستكون صعبة وشاقة وطويلة الأمد، وأن خسائرها ستكون كبيرة وباهظة، لكنها تريد التقاط صورة “نصر” من على أديم غزة، مهما كانت التكاليف.
في المقابل، تعترف فصائل المقاومة أنها لا تستطيع منع أرتال الجنود والدبابات الإسرائيلية إلى القطاع، ولكنها تتوعدهم بمفاجآت لم تكن في حسبانهم، وترى أن دخول الجيش الإسرائيلي برا إلى غزة سيمثل فرصة مثالية لمقاتليها للانتقام منهم قتلا وأسرا، ونصب الفخاخ لهم في كل مكان.
وبالنظر إلى موازين القوى، فإن إسرائيل وهي تستعد لتلك المرحلة من حربها على القطاع المحاصر تتمتع بنقاط قوة عديدة، من أبرزها:
- تشكيل حكومة حرب: بعد أشهر من الصراع الداخلي، إثر انهيار الثقة بين الأطراف السياسية الإسرائيلية، وتكاثر الانشطارات مع عرض التعديلات القضائية التي اقترحها رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو وحلفاؤه في اليمين المتطرف، إذ “وحّد” الرد على عملية طوفان الأقصى بين تلك الأطراف المتصارعة، وحدة خوف من الموت القادم من غزة.
ورغم هذه الوحدة، فإن شقوقا متعددة لا تزال بارزة في جدار التماسك المفترض في إسرائيل، سواء على مستوى الهزيمة النفسية داخل قطاعات واسعة من الجيش والنخب السياسية، أو بسبب مخاوف الأسَر التي فقدت أبناءها في أسر حماس من أن تكون أرواحهم أول أثمان الحرب البرية المرتقبة. - إسناد غربي غير مسبوق: إذ يعيش العالم الغربي حالة تجييش وحماس غير مسبوق للدفاع عن إسرائيل وحماية أمنها، وتباهي الرئيس الأميركي جو بايدن بشكل خاص بأنه أول رئيس أميركي يزور تل أبيب أوان الحرب، في وقت تقاطر فيه عدد من وزرائه ومستشاريه إلى تل أبيب وبعضهم زارها أكثر من مرة خلال الأيام الماضية، كما استقبلت أيضا عددا من القادة الغربيين الذين جاؤوا لإظهار مزيد من التضامن مع إسرائيل.
وكان لافتا أن بعض المسؤولين الأميركيين، وتحديدا بايدن ووزير خارجيته أنتوني بلينكن، ووزيره للدفاع الجنرال لويد أوستن، حضروا -كل بمفرده- اجتماعات مجلس الحرب الإسرائيلي، بالتوازي مع انتقال الدعم من السياسة إلى اللوجستيك الحربي المباشر، حيث تواصل واشنطن نقل المعدات العسكرية من مصفحات ودبابات دعما لإسرائيل في حربها على قطاع غزة، وربما تمهيدا للحرب البرية.
وإلى جانب واشنطن، تتنافس دول غربية عديدة أخرى مثل بريطانيا، ثم فرنسا وألمانيا، المتنافستين على قيادة أوروبا، في إظهار الدعم المطلق لإسرائيل واتخاذ كل ما يمكن من تضييق وتجييش دولي ضد حماس. - تجييش متصاعد للرأي العام الغربي: إثر الحملة الإعلامية والسياسية التي قدمت إسرائيل في صورة الحمل المذبوح بأيد وحشية، مع التأكيد أن ما حدث في السابع من أكتوبر/تشرين الأول الجاري مثّل أعظم عنف وإرهاب تعرض له اليهود في العقود الأخيرة، كما طفقت عديد من وسائل الإعلام الغربية، منذ الأيام الأولى، تقدم للعالم الرواية الإسرائيلية بشأن “الأطفال المذبوحين”، وسط استعداء للأبعاد الدينية للصراع من طرف عدد من المسؤولين والمتحدثين الغربيين.
- وإلى جانب هذه العوامل الأساسية التي تعزز حماسة الإسرائيليين للانتقام من حركة حماس، فإن السياق العربي يبدو هو الآخر ضعيفا وربما يشكل نقطة قوة إضافية لإسرائيل، إذ انشغلت الشعوب العربية طيلة العقد المنصرم بأزماتها الذاتية، وخصوصياتها المحلية بعد إخفاق موجة الربيع العربي، وتغول الثورات المضادة التي نالت دعما إسرائيليا كان على مشارف “التطبيع الموسع” مع عديد من الأنظمة والدوائر العربية.
- ويضاف إلى ذلك بعد آخر، وهو أن “تحقيق نصر” ولو على ركام من جثث الجنود الإسرائيليين سيكون المنقذ الوحيد لنتنياهو وكبار قادة جيشه من المساءلات والملاحقات التي تنتظرهم بعد نهاية الحرب، جراء الإخفاق الأمني والاستخباراتي الذي جرف نحو 1500 إسرائيلي دفعة واحدة إلى موت زؤام صبحتهم به حماس فجر السابع من أكتوبر/تشرين الأول الجاري.
المقاومة.. القوة الذاتية والفرص الخارجية
لا تريد إسرائيل في ما تعلن من أهدافها تجاه حماس غير الإبادة والإزاحة، بينما يشير اتساع دائرة الموت وضحايا القصف المتواصل في القطاع إلى أن إسرائيل تفترض أن كل غزّي عضو “مفترض” في حماس، وبالإمكان أن يكون هدفا تلقائيا للصواريخ وقاذفات الحمم الإسرائيلية.
بيد أن تحقيق الأهداف التي تعلنها إسرائيل حاليا، وما تخطط له من حرب برية طويلة الأمد قد تستمر لسنوات، تقف أمامه عقبات متعددة تشكل في مجملها نقاط قوة للمقاومة الفلسطينية وفرصا لتعزيز أدائها، كما أنها تمثل عوائق أمام قدرة إسرائيل على خوض حرب طويلة الأمد ذات خسائر كبيرة، ومن بينها:
- “النصر بالرعب”: فقد تحولت حركة حماس في الوجدان الإسرائيلي العام إلى هاجس رعب يكب القادة والجنود على الأذقان، وتضخمت في الضمير الإسرائيلي العام القدرات “الخارقة” التي تملكها كتائب القسام، وفصائل المقاومة في غزة، بعد عملية السابع من أكتوبر/تشرين الأول الجاري.
- انهيار فرقة غزة: وهي قوات النخبة الإسرائيلية المتخصصة في شؤون غزة، والأكثر قدرة وإمكانات على مواجهة الفصائل الغزاوية، والكتائب القسامية، إذ أسرع “طوفان” الموت والأسر إلى عدد كبير من هؤلاء، وارتحل بمئات منهم إلى قائمة القتلى والجرحى والأسرى والمفقودين.
- تعدد الجنسيات في صفوف المستوطنين والجنود الإسرائيليين: مما يجعل الفرار من الحرب -من دون تحيز إلى فئة أو تحرفا لقتال- خيارا محتملا بشكل كبير إذا حمي الوطيس أمام عدد من حملة السلاح في إسرائيل.
- استعداد حركات المقاومة الفلسطينية وتعدد وسائلها للدفاع: وتعزز قوتها العسكرية خلال السنوات الأخيرة، مقابل تصاعد الإخفاقات والهزات العسكرية والسياسية في إسرائيل.
- حالة التراجع الاقتصادي في إسرائيل: التي ستجعل أي حرب طويلة المدى تضفي متاعب جديدة على الاقتصاد الهش والمرتبط بشكل خاص بحركة التجارة، وعمل الموانئ والمطارات.
- الانشطارات المجتمعية: التي غرق فيها الإسرائيليون الفترات الأخيرة، وما يتحدث عنه بعض الكتاب من تضاؤل للروح الوطنية، وما تشير إليه بعض استطلاعات الرأي من تراجع ثقة الإسرائيليين في دولة إسرائيل ومؤسساتها، وهو ما يشير إلى أن الجيل الحالي من سكان إسرائيل أقل قدرة على المقاومة وأقل “مناعة اجتماعية” من الأجيال السابقة.
- مخاوف الحلفاء -سواء من الغرب أو العرب- من أن يؤدي إطالة أمد الحرب إلى اشتعال لهب الربيع العربي من جديد، وانطلاق شرارة الثورة الشعبية بعد أكثر من عقد على انطفائها وسحقها، وتحت الرماد وميض جمر، يوشك أن يوقد ضرامه استمرار القتل في غزة.
- كما قد يؤدي استمرار الحرب أيضا إلى انهيار مشروع التطبيع العربي، وذلك بعد أن خنقته بحبال الموت صبيحة السابع من أكتوبر/تشرين الأول الجاري، مما دفع البعض إلى تجميد أي خطوات جديدة في مسار التطبيع، في حين تخلصت أنظمة أخرى من الإحراج والضغوط التي كان عرابو التطبيع يمارسونها عليها.
- وتخشى دوائر متعددة من تكرار تجربة الولايات المتحدة في العراق والصومال وأفغانستان، وما جلبته من استنزاف غير مسبوق لخزائن واشنطن وأرواح جنودها قبل ما وصفه بعض خصوم واشنطن بالخروج “المخزي” الذي تسلمت بموجبه القوى الأكثر عداوة لواشنطن زمام الحكم وإدارة البلدان المنكوبة.
- انعدام البديل عن حماس: فحتى مع افتراض نجاح إسرائيل في إسقاط حكم حماس في غزة، وهو أمر دونه مصاعب وعوائق كثيرة، فإن البديل عنها يبقى الاختبار الأصعب أمام إسرائيل، ومختلف القوى الدولية، خصوصا أن قادتها وجماهيرها لن تعجزهم أي وسيلة لإعادة تجميع الشتات وترتيب الأوراق والسير في نمط مقاومة جديدة، إذ ليست حماس إلا تعبيرا عن وجه من المقاومة، وللفلسطينيين قدرة هائلة في التكيف المقاوم للاحتلال.
- ورغم كل ذلك، فإن إسرائيل لا تعدم وسيلة للجواب، وترى أن غزة بعد الإبادة ستكون ملفا دوليا يناقشه العالم، ويحسم رأيه فيه، ولا يعني تدويل ملف غزة أكثر من تعدد الرؤوس والإستراتجيات وهو ما تخشاه الولايات المتحدة بشكل خاص، وهي تواجه تسارعا عدائيا للحضور الروسي والصيني في المناطق التي تعتبرها واشنطن جزءا تقليديا من “مائدتها الإستراتيجية”، وسيزيد الدم الغزاوي طين الإخفاق الأميركي بلّة، إذا فتحت الحرب نافذة حرب أخرى غير مباشرة بين واشنطن وموسكو، تنضاف إلى حربها بالوكالة في أوكرانيا.
- ورغم محدودية الدور المتوقع لدى روسيا والصين في خوض حرب مباشرة أو تحرك دبلوماسي مؤثر في منطقة الشرق الأوسط، فإنهما تبقيان لاعبين “خشنين” ولا يمكن أن يسد دونهما أي مرمى، خصوصا إذا كان هشا وزلقا بالدماء.
اجتياح أم توغل فقط؟
والواقع أن إسرائيل لا تملك حاليا -وباعتراف قادتها وقادة داعميها- رؤية لما بعد حماس، هذا إذا تمكنت بالفعل من تحقيق هدفها بإبادة قادة الحركة وإزاحتها عن الحكم في غزة، وهو خيار بعيد في الحال، ويتباعد أكثر كلما طال الانتظار.
ومع أن تل أبيب قد حسمت -في ما يظهر من تصريحات ومؤشرات- قرار الحرب البرية، فإنه لا أحد حتى الآن يعرف أي الخيارات ستتجه إليها إسرائيل، وهي تعبر بقواتها الجدران والسواتر الحدودية الفاصلة مع قطع غزة، هل تريد اجتياحا كاملا، أم توغلا محدودا؟
ومع أن خيار التوغل المحدود في عمق غزة، واحتلال أجزاء من المدينة المحاصرة، يمثل أسهل خيارات الحرب البرية بالنسبة لإسرائيل، لكنه يبقى أيضا مكلفا، خصوصا عند إرادة الانسحاب والخروج، كما أنه لا يمثّل بالنسبة للمتطرفين في إسرائيل -المتعطشين للقضاء على فصائل المقاومة في غزة- الوسيلة المثلى للانتقام منها.
أما خيار اجتياح القطاع بشكل كامل، بعد تدمير أجزاء واسعة منه عبر القصف الجوي، فيقتضي سيرا بطيئا على الركام وفوق حقول من الألغام، وهو أسوأ الخيارات بالنسبة إلى إسرائيل، وتتصاعد التحذيرات داخلها وخارجها بشأنه، إذ ينتظر أن تواجه مخاطر وصعوبات كثيرة بشأنه من بينها عقبات المقاومة المستعدة، إضافة إلى جهلها بمسارب غزة، وما تحت أرضها من أنفاق وألغام، وما فوقها من رجال أشداء، يعلنون باستمرار أنهم يحملون الموت على أكتافهم وبأكفهم، ومستعدون لكل الاحتمالات.
وبين هذه الخيارات المتعددة، ما زالت إسرائيل -في ما يبدو- “تقف على رجل واحدة”، وتضرب أخماسا لأسداس، ولا تدري لأي جانبي الحرب البرية تميل، ففي كل جانب -حسب تهديد المقاومة- لهب متصاعد، وصعوبات متفاقمة، وموجة من أمواج الطوفان.