غزة– أطلّت لينا شعبان من منزلها في منطقة جباليا البلد، تلوح براية بيضاء وتصرخ طلبا للماء والطعام وقد أعياها الجوع والعطش، بعد أيام من حصار قوات الاحتلال الإسرائيلي لمناطق شمال قطاع غزة، لكن مسيّرة إسرائيلية يطلق عليها “كوادكابتر” أردتها شهيدة.
سقطت لينا أرضًا على بعد أمتار من منزلها في “شارع عبد ربه” الشهير باسم “مزايا” في منطقة جباليا البلد الملاصقة لمخيم جباليا للاجئين، وظل والدها يراقب المشهد من نافذة وقد تقدمت آليات الاحتلال نحوها وأهالت جرافة عسكرية التراب عليها.
مكث الوالد المكلوم ساكنًا في مكانه يراقب جثة ابنته طوال ساعات ولم يتمكن من فعل شيء، حتى قرر المغامرة، ليندفع نحوها ويسحبها إلى داخل المنزل، وفقًا لرواية المواطنة آمنة عبد ربه التي تربطها بأسرة الفتاة علاقة مصاهرة.
وتعرف أسرة لينا بالبساطة في أوساط الأقارب والجيران، وتعاني هذه الفتاة وأفراد من أسرتها من إعاقات ومشكلات صحية وراثية. وبحسب شهادة آمنة في اتصال هاتفي أجرته معها الجزيرة نت، فإن شقيق الفتاة الأكبر أسامة أصيب أيضا برصاص قوات الاحتلال لدى محاولته الخروج من المنزل.
ويحاصر جيش الاحتلال الإسرائيلي منذ 21 يوما مخيم جباليا ومناطق مجاورة له في شمال القطاع، في سياق عملية عسكرية برية هي الثالثة والأشد عنفًا ضد المخيم منذ اندلاع الحرب على القطاع عقب هجوم 7 أكتوبر/تشرين الأول من العام الماضي.
ويمارس الاحتلال صنوفًا من جرائم الإبادة بحق الغزيين في شمال القطاع، ويمنع عنهم كل سبل الحياة من مياه وطعام. وبحسب توثيق هيئات محلية ودولية، استشهد أكثر من 800 فلسطيني وأصيب نحو 1500 آخرين، فضلا عن عشرات المفقودين، في جباليا (المخيم والبلد) ومحيطهما منذ بدء الهجوم الحالي.
إعدام الراية البيضاء
ببساطتها، اعتقدت لينا أن الراية البيضاء التي تحملها في يدها تحصنها وتحميها من رصاص الاحتلال الذي لم يأبه لهذه الراية ولم يرأف بحالتها الصحية. وحسب ما تقول آمنة، ظلت جثة لينا ملقاة على الأرض يغطيها التراب بضع ساعات حتى تمكن والدها من الانطلاق نحوها وسحبها إلى داخل المنزل.
وقعت هذه الجريمة في الأسبوع الثاني للهجوم على جباليا، وتقول آمنة إن أسرة لينا خشيت على جثتها من الكلاب والحيوانات الضالة التي تلتهم جثامين الشهداء الملقاة في الشوارع ويمنع الاحتلال طواقم الإسعاف والدفاع المدني من الوصول إليها وانتشالها.
وضع الوالد جثمان ابنته الشهيدة في غرفة وأحكم إغلاقها، وفي صبيحة اليوم التالي لهذه الجريمة انضم بأسرته إلى بضع أسر من الجيران رافعين رايات بيضاء ونزحوا عن المنطقة نحو مدينة غزة.
تقول آمنة التي نزحت أسرتها أيضا من المنطقة نحو حي الشيخ رضوان بمدينة غزة إن “الطرقات كانت مفروشة بجثث ممزقة لشهداء أكلتها الكلاب وبدت كهياكل عظمية ولم يتمكن أحد من انتشالها”. وتصف هذه السيدة الأوضاع في جباليا وشمال القطاع بالكارثية، وتضيف “الناس تموت من القصف والجوع، ولا تجد اللقمة أو شربة ماء، ومن يموت لا يجد حتى من يدفنه”.
وأمس الأربعاء، أعلن جهاز الدفاع المدني عن توقف عمله كليا في شمال القطاع، إثر اعتقال قوات الاحتلال 5 من عناصره في منطقة الشيخ زايد، واستهداف مركبة الإطفاء الوحيدة هناك وإضرام النيران فيها، بينما أصيب 3 من عناصره استهدفتهم طائرة مسيرة في مشروع بيت لاهيا حيث انقطع الاتصال بهم ولا يُعلم شيء عن مصيرهم.
وفي تصريحات صحفية، يؤكد المتحدث باسم الدفاع المدني الرائد محمود بصل أن الاحتلال يستهدف كل مفاصل الحياة في شمال القطاع، ويستخدم قوة نارية مفرطة بالغارات الجوية والقصف المدفعي ومسيرات كوادكابتر لتفريغ الشمال من سكانه وإجبارهم على النزوح.
وتحدث بصل عن المسارات التي يحددها جيش الاحتلال ويزعم أنها آمنة، ودحض ذلك بحوادث كثيرة استهدف فيها النازحين بالمدفعية ونيران المسيرات، ومنها ما وقع لنازحين من مدارس الفوقة في مسار حدده نحو الإدارة المدنية في جباليا، لكنه أطلق عليهم النار وأصاب عددا منهم.
وليس هناك عدد محدد لجثث الشهداء الملقاة بالشوارع، ويشير بصل إلى أنها بالعشرات في الشوارع والطرقات ومناطق توغل الاحتلال، حيث لم تتمكن طواقم الإسعاف والدفاع المدني من الوصول إليهم.
تشريد عبر كوادكابتر
ومن بين جملة الجرائم التي يرتكبها جيش الاحتلال منذ هجومه الحالي على مخيم جباليا والمناطق المحيطة به في شمال القطاع، برز تركيزه على مراكز الإيواء التي تعرض أغلبها للقصف والحرق، بهدف إجبار النازحين فيها على النزوح مجددا.
وقال محمد أبو ركبة، الذي أوى بأسرته من مخيم جباليا إلى مركز إيواء في مشروع بيت لاهيا، إن مسيرة كوادكابتر حلقت في أجواء المركز وأطلقت عبر مكبر صوت مزودة به إنذارا للنازحين بضرورة الإخلاء “بدعوى أننا في منطقة قتال خطرة”.
وبحسب رواية أبو ركبة للجزيرة نت، فإن المسيرة طالبتهم بالتوجه نحو شارع بيت لاهيا العام ومنه نحو المستشفى الإندونيسي، وهناك تم فصل النساء في مدرسة حلب والرجال في مدرسة الكويت، حيث يجري جيش الاحتلال تحقيقًا ميدانيا، واعتقل عددًا من النازحين.
وبعد هذه المحطة المرعبة بحسب وصف أبو ركبة، يواصل النازحون طريقهم باتجاه شارع صلاح الدين، ويقول “الطريق مخيف جدا، ورائحة الموت في كل مكان، وجثث وأشلاء الشهداء ملقاة في الشوارع، وأينما نظرت فالدمار هائل”.
إعدامات ميدانية
ومنذ بدء الهجوم الحالي على جباليا المخيم والبلد ومشروع بيت لاهيا وبلدة بيت حانون في شمال القطاع، وثقت الهيئة الدولية لدعم حقوق الشعب الفلسطيني (حشد) عشرات المجازر الجماعية بحق العائلات الفلسطينية، وجرائم الإعدام الميداني، والتدمير الهائل للمنازل السكنية ومراكز الإيواء والمستشفيات وكل مقومات الحياة.
وقال رئيس الهيئة المحامي صلاح عبد العاطي -للجزيرة نت- إن دولة الاحتلال تهدف إلى تفريغ تلك المناطق من 200 ألف فلسطيني، ودفعهم إلى النزوح القسري، تحت ضغط المجازر، والحصار الخانق، وممارسة سياسة التجويع والتعطيش ضدهم.
وفي هذا السياق، يجبر جيش الاحتلال السكان المدنيين على إخلاء منازلهم ومراكز الإيواء قسرًا تحت تهديد السلاح، كما يجبرهم على التوجه عبر شارع بيت لاهيا العام. وأثناء مرورهم القسري من المسارات التي حددها يفتش النساء والرجال ويحقق معهم، فيعتقل مئات من الرجال وينكّل بهم ويحتجزهم في أماكن مجهولة، وفقا لعبد العاطي.
ويؤكد رئيس الهيئة الدولية ارتكاب جيش الاحتلال جرائم إعدام ميداني بحق أعداد غير معلومة من النازحين، لافتًا إلى أن جيش الاحتلال يركز حاليا على بلدة بيت لاهيا ومشروع بيت لاهيا وفيهما العدد الأكبر من السكان والنازحين الذين لجؤوا إليها إثر الهجوم على مخيم جباليا، ويلاحقهم بالقتل والمجازر بغية تهجيرهم قسرًا وإفراغ شمال القطاع كليا تطبيقا لخطة الجنرالات البالغة الوحشية.