واشنطن- في ظل الدور الكبير الذي يلعبه الإعلام المقروء والمشاهد في تشكيل توجهات الرأي العام تجاه أزمات السياسة الخارجية، اتجهت الكثير من أنظار الخبراء والمعلقين للإعلام الأميركي، لما له من دور رئيسي يساهم في تشكيل السياسة الخارجية الأميركية من جانب، وتأثره كذلك بموقف الإدارة الأميركية من جانب آخر.
ومع تنوع الاعلام الأميركي، تعصف الانقسامات الحزبية والأيديولوجية والسياسية بالشبكات الإعلامية والصحف الكبرى، كما تعصف الانقسامات الجيلية بالكثير من غرف الأخبار، حيث يشعر الصحفيون الأصغر سنا بالقدرة على التحدث علنا وانتقاد إسرائيل، في حين يتردد الجيل الأكبر في الخروج عن النص التقليدي المؤيد لها.
وتشير أستاذة الإعلام بجامعة ميريلاند البروفيسورة سحر خميس إلى أن تحيز الاعلام الأميركي للجانب الإسرائيلي بدأ منذ اللحظات الأولى، واعتبرت أن “وصف الأزمة على أنها حرب يخلف تكافؤا زائفا بين المحتل والطرف الواقع تحت الاحتلال، وخاصة في ضوء الاختلال الصارخ في القدرات والموارد العسكرية بين حماس وإسرائيل”.
وأشارت البروفيسورة إلى أن “التأطير المتحيز لإسرائيل شكل الرواية العامة حول الأزمة، باعتبارها هجوما إرهابيا أدى إلى انتقام مشروع، وبالتالي منح الشرعية للهجوم الإسرائيلي غير المتناسب على المدنيين في غزة”.
وبصفة عامة، أصبحت غزة أهم قضية خارجية يتناولها الإعلام الأميركي على مدار نصف العام الأخير، وتظهر يوميا العشرات من مقالات الرأي لتنتشر بالصحف والمواقع الإخبارية المتنوعة، وتعكس آراء مختلفة ومتناقضة، من الدعم الكامل لإسرائيل إلى بعض الدعم للجانب الفلسطيني.
المبرر الأميركي
تبنت أغلب وسائل الاعلام -الأيام والأسابيع الأولى من عملية طوفان الأقصى– الرواية الإسرائيلية بصورة كاملة. وأشار البروفيسور جوشوا جيتار، أستاذ الاعلام والاتصالات بجامعة كين في ولاية نيوجيرسي، في حديثه للجزيرة نت، إلى أن “التغطية الإعلامية كانت في بدايتها مائلة تماما لإسرائيل، وذلك من خلال تكرار مقولة حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها”.
غير أن النشاط الشبابي المكثف على وسائل التواصل، خاصة تيك توك وإنستغرام، وفر بديلا ومادة خبرية مغايرة من داخل غزة، أحرج معها التغطية التقليدية للعدوان.
ويرى البروفيسور وليام يوميانز، الأستاذ المساعد للإعلام بمعهد الدبلوماسية العامة والاتصالات العالمية جامعة جورج واشنطن أنه “رغم وجهة نظري بأنه كان هناك تحسن، فإن التغطية الإعلامية الإخبارية الأميركية كانت مخيبة للآمال في معظمها، ولا تزال تحيل الكثير إلى الحكومة الإسرائيلية كمصدر، حتى بعد أن فقدت مصداقيتها عدة مرات”.
وأشار يوميانز في حديثه مع الجزيرة نت إلى أن “التأطير الإسرائيلي لا يزال يحظى بمصداقية كبيرة جدا، ويرجع ذلك جزئيا إلى أن السياسيين الأميركيين يواصلون ترديدها، حتى عندما يقال لنا إن إدارة بايدن تختلف بشكل متزايد مع نتنياهو، بينما تمول وتسلح إسرائيل وتمنحها غطاء دبلوماسيا”.
روايتهم للأزمة الإنسانية
تطور موقف الإعلام الأميركي في مجمله مع ارتفاع أعداد ضحايا العدوان الإسرائيلي، خاصة بين النساء والأطفال، وتدمير البنى التحتية لقطاع غزة، واتجه لإبراز الأزمة الإنسانية التي تعصف بسكانه، ويعتبر البروفيسور جيتار أن “الضغط الشعبي المتزايد أثار موجة من الدعم لفلسطين في الإعلام الأميركي”.
في حين أشار البروفيسور يوميانز إلى “فشل وإخفاق وسائل الإعلام الأميركية بالتعامل مع وفيات الفلسطينيين على أنها قضية تستحق التغطية الإخبارية، على قدم المساواة مع الوفيات الإسرائيلية، وهناك القليل جدا من التقارير من الميدان في غزة، كما لو أن وسائل الإعلام الرئيسية لا تثق في المراسلين الفلسطينيين الموجودين على الأرض داخل القطاع”.
وبينما يمنع الجيش الإسرائيلي دخول الصحفيين الأجانب إلى داخل قطاع غزة، لا تعترض كبريات وسائل الإعلام الأميركية على ذلك، وتكتفي بالتغطية من خلال شبكات مراسليها المنتشرين داخل إسرائيل، وفي كثير من الأحيان يصطحب الجيش الإسرائيلي صحفيين أميركيين يسمح لهم بالاطلاع على ما يراه هاما من وجهة النظر الإسرائيلية.
وفي حديثه للجزيرة نت، اعتبر البروفيسور جيتار أن “من الواضح أن الميول الحزبية والأيديولوجية توجه العديد من المواقف، ولا سيما فيما يتعلق بالدفاع عن تصرفات إسرائيل، وقد أدى ذلك إلى معركة إعلامية، حيث يستخدم النقاد والسياسيون صورا وروايات عن المذابح، خاصة تلك التي تشمل الأطفال، للتأثير على الرأي العام لصالح موقفهم الذي يتبنونه. وفي هذا الصدد، يبدو أن الروايات الإعلامية عن المآسي غالبا ما تدعم موقفا حزبيا، أكثر مما تفعل للاعتراف بأن هذا يمثل أزمة إنسانية خطيرة”.
موقف إدارة بايدن
تملك إدارة بايدن سجلا جيدا في علاقتها مع أغلب وسائل الإعلام الأميركي، ويسمح لها ذلك باتباع تكتيك التسريبات في الكثير من الأحيان، لتمرير رسائل معينة، أو طرح أفكار وسياسات للنقاش العام.
ويشير يوميانز إلى أن هناك نمطا معتادا جدا من التقارير الإخبارية الأميركية حول قضايا السياسة الخارجية “ففي بداية أي أزمة، تميل وسائل الإعلام الإخبارية إلى الالتفاف حول العلم، وتتمسك بشكل وثيق بموقف الحكومة الأميركية، ولكن بعد ذلك لا تسمح بالمزيد من التقارير الانتقادية إلا بعد بدء الدمار، وللأسف، غالبا ما يكون قليلا جدا ومتأخرا جدا”.
ويرى البروفيسور أنه “على مدى الأشهر القليلة الماضية، تحسنت وسائل الإعلام الأميركية إلى حد ما في تغطيتها لسلوك إسرائيل في غزة” وهناك عدة أسباب لذلك:
- أولا، كان جمهور الأخبار يشاهد لقطات مباشرة من الأرض تقوّض الروايات الإعلامية، فانتقدوا تحيز وسائل الإعلام علنا.
- ثانيا، كان هناك المزيد من التقارير في وسائل الإعلام المستقلة حول مدى تحيز وسائل الإعلام الرئيسية، وهذا وضع ضغوطا على غرف الأخبار للتحسين.
- ثالثا، كانت هناك تسريبات حول الانقسامات في غرف الأخبار والمناقشات التي ألقت الضوء على النقد الداخلي، خاصة في شبكة “سي إن إن” وصحيفة “نيويورك تايمز” وتظهر هذه من نواح كثيرة أن المراسلين يختلفون مع المحررين الذين يحاولون في كثير من الأحيان إرضاء الإدارة العليا، وعندما تصبح هذه المناقشات الداخلية علنية، يكون لدى المحررين المزيد من الضغط لتصحيح المسار.
- رابعا، مع تزايد الانقسامات بين صانعي السياسات، يكون لدى وسائل الإعلام الإخبارية مساحة أكبر للتنفس، من حيث التغطية الناقدة لما يجري في غزة.