القاهرة- في مثل هذا الشهر من عام 2019، ألقي القبض على الشاب عز منير بعد أن رفع علم فلسطين خلال مباراة كرة القدم بين مصر وجنوب أفريقيا في ملعب القاهرة الدولي.
وفي ضوء ذلك، قررت نيابة أمن الدولة حبسه للتحقيق معه بتهم مثل الانضمام إلى جماعة محظورة ونشر الشائعات، ولبث عز في السجن بضعة شهور، قبل أن يفرج عنه في أغسطس/آب 2020.
وأوعزت تلك الواقعة لكثير بأن حمل العلم الفلسطيني جريمة، في ظل خطاب إعلامي مشحون ضد المقاومة الفلسطينية، وخطاب سياسي يدعم التطبيع ويحث عليه.
وانقلبت الأمور تماما قبل شهر، حينما تمكنت حركة المقاومة الإسلامية (حماس) من القيام بعملية عسكرية نوعية، بتحطيم فرقة غزة الإسرائيلية وأسر جنود من المستوطنات القريبة.
ويتزايد وجود العلم الفلسطيني في الشوارع والميادين بالقاهرة والمحافظات، حيث يعرض للبيع بأسعار متزايدة. وقد شهد هذا الأمر إقبالا كبيرا من المصريين من مختلف الطبقات الاجتماعية والأعمار.
ويصف عمار محمود، بائع جائل في إشارات المرور، هذا الإقبال بأنه “غير مسبوق” ويطوف على السيارات حاملا أعلاما فلسطينية بأحجام وأنواع مختلفة، ليعرض بضاعته على سائقي المركبات الذين يرحبون باقتناء واحد على الأقل.
لا تفاوض على السعر
يقول عمار في حديثه للجزيرة نت “لا يفاوضني أحد في السعر، يشترون دون نقاش، عكس الأعلام التي اعتدت بيعها والخاصة بناديي الأهلي والزمالك خلال المباريات التي يخوضها أحد الفريقين”.
ولفت إلى أن تلك الظاهرة ـ تجنب التفاوض حول السعرـ شائعة نوعا ما حينما يتعلق الأمر بالعلم المصري خلال مباريات المنتخب، وخصوصا عقب الفوز، فلا يجادل المشترون كثيرا بشأن سعر العلم الوطني، لكن الظاهرة اليوم أوضح فيما يتعلق بالعلم الفلسطيني.
ويعود عمار سعيدا آخر النهار بعد بيع حصيلة اليوم من الأعلام، البالغة أحيانا 50 علما، رغم ارتفاع سعر العلم الواحد، البالغ نحو 100 جنيه (3 دولارات تقريبا) للعلم الصغير ونحو 150 جنيها (5 دولارات تقريبا) للعلم الكبير، وهو بدوره لا يبالغ في وضع مكاسب كبيرة له فوق سعره الأصلي.
ويحصل البائع على الأعلام بالجملة من مصنعيها في منطقتي العتبة والفجالة وسط القاهرة، ليكسب الفارق بين سعر الجملة والقطاعي، ويبلغ الطلب حدا أنه “لو تمكن من تجهيز نصف مليون علم فسوف تباع فورا” بتعبير مدير شركة النور للأعلام محمد الزرقاني، موضحا أنه “لا يصح القول إن نسب المبيعات تضاعفت” لأنها “لم تكن تباع أصلا من قبل الأزمة”.
ويضيف الزرقاني في حديث للجزيرة نت “الطلب الآن أعلى من قدرتنا الإنتاجية، لدرجة أننا نرفض طلبات كثيرة، كي نتمكن من الوفاء بالالتزامات المدفوع منها كعربون (مقدم جدية شراء)” رغم أنه يضع هامش ربح بسيط جدا، لكي يسهم في دعم القضية بأبسط شيء ممكن.
ولفت المتحدث إلى أن الطلب ارتفع جدا الأسبوع الأول من الأزمة، وتصاعد مع قصف مستشفى المعمداني واشتعال حدة المظاهرات بالجامعات والميادين، ثم انخفضت نسبة المبيعات إلى ما يعادل نحو 80-90% من حجم الطلب أول الأزمة.
إنتاج كثيف
وكل علم يختلف سعره حسب خامته ومستلزماته، فيبدأ بسعر 30 جنيها للعلم الصغير بحجم كف اليد للأطفال، ويصل حتى 250 جنيها (8 دولارات) للأعلام الكبيرة ذات الخامة الأجود، بحسب صاحب ورشة لتجهيز الأعلام بمنطقة الفجالة، رفض ذكر اسمه.
وأشار صاحب الورشة -في حديث للجزيرة نت- أنه ينتج العشرات يوميا، وأغلبها يذهب جملة إلى مدارس خاصة وجمعيات تطلب كميات كبيرة، وهؤلاء لهم سعر ـ أقل مما يخرج للباعة الجائلين- لكنه يرفض تحديده.
وباع المتحدث أقل بقليل من 3 آلاف علم منذ اندلاع العدوان على غزة، وهو أعلى رقم لأعلام باعه في مثل تلك الفترة القصيرة، لافتا إلى أن الذروة التي صاحبت المظاهرات لم تتكرر، وعادت معدلات المبيعات إلى نسبة أقل من فترة بداية العدوان.
ويفصل البائع أنواع الأعلام بتوضيح أن منها ما هو حسب الحاجة، فهناك علم مكتبي، يوضع على مكاتب الشخصيات الرسمية، وهناك علم ساري، ويوضع في الاحتفالات المختلفة، وأخيرا علم الدعاية، وهو الأكثر انتشارا ومبيعا.
أما من حيث الخامات، فيختلف السعر حسب الخامة، من حيث القماش، وهو أغلاها، ويكون مطلوبا للمناسبات والفعاليات الرسمية، ويفصل خصيصا بسعر محدد، وهناك الساتان، وهو الأكثر شعبية وانتشارا لرخص سعره.
والعلم الفلسطيني الأكثر مبيعا من النوع الأخير، وسعره يتراوح ما بين 75 و100 جنيه، حسب الكمية المطلوبة.
ويرى مراقبون أن الإقبال على شراء الأعلام الفلسطينية يعكس مدى التعاطف الشعبي، وأن القضية الفلسطينية مصرية وعربية أولا وأخيرا، كما أن السماح بحمل العلم الفلسطيني يعكس تحولا في موقف السلطات من القضية الفلسطينية.
وفضل طارق أيمن، وهو تاجر أدوات كهربائية، شراء عدة أعلام بأحجام مختلفة، منها علمان كبيران، وضع أحدهما في شرفة شقته بالقاهرة “لكي يرفرف في السماء، فيراه الراجل والراكب والمسافر في طائرة، حين تقترب من الأرض، أو تقلع منها” حسب تعبيره، فهو من سكان منطقة النزهة شرق القاهرة حيث المطار.
أما العلم الثاني، فوضعه في سيارته التي يجول بها في القاهرة ليعلن بذلك عن تضامنه مع القضية، بينما يوزع الأعلام المتوسطة والصغيرة على أفراد أسرته وأصدقائه، مؤكدا في حديثه للجزيرة نت أن “العلم الفلسطيني يشرّف من يحمله، ولا ينتقص من قيمة وقدر العلم الوطني، وحمله له دلالة ورمزية، وإن كانت غير كافية من أجل قضية العرب الأولى”. ويضيف “أريد أن أقول: هنا فلسطين من القاهرة”.
واشترى محمد فتحي، وهو صاحب مدرسة خاصة بالجيزة، جملة من الأعلام لتلاميذ مدرسته، تحمل تكلفة شرائها كاملة إلى جانب كلفة “يوم من أجل فلسطين” أقامه للتلاميذ لتعريفهم بالقضية، موضحا في حديثه للجزيرة نت أن الأعلام باتت ملتصقة بالتلاميذ في رواحهم ومجيئهم للمدرسة، يزرعونها في حقائبهم المدرسية، ويحرصون على إبرازها، ويخافون عليه “كأنه علمهم الوطني”.