منذ اندلاع معركة طوفان الأقصى، سعت الولايات المتحدة الأميركية إلى منع تصعيد الصراع وتوسعه لكي لا يصبح إقليميا. وفي إطار دعمها العسكري والدبلوماسي لدولة الاحتلال الإسرائيلي، بعثت واشنطن برسائل دبلوماسية وأخرى عسكرية إلى عناصر محور المقاومة وحلفاء إيران في المنطقة بضرورة عدم الانخراط في المعركة.
وقد أرسلت الولايات المتحدة حاملتي الطائرات فورد وآيزنهاور إلى شرق المتوسط. وتعد فورد، التي تم تشغيلها في عام 2017، أحدث حاملة طائرات أميركية والأكبر في العالم، وعلى متنها أكثر من 5 آلاف بحار.
أما آيزنهاور التي تعمل بالطاقة النووية، فقد تم تشغيلها عام 1977، وعلى متنها 5 آلاف بحار، ويمكنها حمل ما يبلغ 9 من أسراب الطائرات، من مقاتلات ومروحيات وطائرات استطلاع.
وكما هو الحال مع حاملة الطائرات فورد، ترافق آيزنهاور سفن أخرى مثل طراد الصواريخ الموجهة “فلبين سي”، ومدمرتي الصواريخ الموجهة “جريفلي” و”ميسون”.
مسار تصاعدي.. جبهتا لبنان واليمن
ومع ذلك، ومنذ الثامن من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، بدأ حزب الله اللبناني مسارا تصاعديا في عملياته في جنوبي لبنان، حيث استهدف مواقع عسكرية إسرائيلية ونقاط مراقبة على طول الحدود الممتدة لحوالي 140 كلم.
وخلال الأشهر الثلاثة الأولى من المواجهة، يقول حزب الله إنه نفذ قرابة 700 ضربة ضد الأهداف الإسرائيلية، شملت 48 موقعا ونقطة عسكرية إسرائيلية واستهداف 17 مستوطنة على الحدود، من رأس الناقورة غربا وحتى الجولان السوري المحتل شرقا.
من جانبها، أعلنت جماعة أنصار الله اليمنية (الحوثيون) انخراطها في المواجهة بهدف الضغط لوقف العدوان على قطاع غزة. واشتملت هجمات الحوثيين على عمليات قصف لجنوب دولة الاحتلال باستخدام الصواريخ الباليستية والجوالة والطائرات المسيرة.
وأعلنت الحركة منع مرور السفن الإسرائيلية من مضيق باب المندب والبحر الأحمر وبحر العرب، وشنت هجمات على السفن الإسرائيلية باستخدام المسيرات البحرية والصواريخ البحرية، واحتجزت سفينة واحدة على الأقل.
وفي 9 ديسمبر/كانون الأول الماضي، أعلنت منع مرور جميع السفن من جميع الجنسيات المتوجهة من وإلى الموانئ الإسرائيلية إذا لم تدخل احتياجات قطاع غزة من الدواء والغذاء.
لقد أدت هجمات الحوثيين لما يشبه الحصار البحري في باب المندب والبحر الأحمر، حيث أوقفت كبرى شركات الشحن البحري مرور سفنها عبر البحر الأحمر مثل شركات “إيه بي مولر ميرسك” الدانماركية و”إم إس سي” الإيطالية و”سي إم إيه- سي جي إم” الفرنسية.
في حين رفعت بعض الشركات رسوم البضائع التي تنقلها من وإلى الشرق الأوسط كشركة “هاباغ لويد” الألمانية، مما دفع الولايات المتحدة لإنشاء تحالف دولي في محاولة لردع الحوثيين.
واستهدفت جماعة أنصار الله السفن الحربية الأميركية بشكل مباشر في البحر الأحمر في 8 مناسبات على الأقل، على الرغم من اعتراض جميع الهجمات.
وتم تنفيذ ما يقرب من نصف الهجمات باستخدام طائرات من دون طيار، في حين استخدامت الصواريخ في هجمات أخرى.
وفي 12 يناير/كانون الثاني الماضي، شنت الولايات المتحدة وبريطانيا هجمات على أهداف في مناطق سيطرة الحوثيين في اليمن كبداية لسلسلة عمليات لاحقة.
نيران من العراق وسوريا
وفي الجبهة العراقية والسورية، شنت “المقاومة الإسلامية في العراق” في 21 أكتوبر/تشرين الأول 2023 هجمات بصواريخ وطائرات مسيرة على مواقع عسكرية أميركية في سوريا والعراق، ردا على العدوان الإسرائيلي المدعوم أميركيا على قطاع غزة.
وتظهر البيانات الصادرة عن الجانبين أن أكثر من 200 هجوم ومحاولات هجوم وقعت ضد القوات الأميركية وقوات التحالف الدولي في جميع أنحاء الشرق الأوسط من قبل محور المقاومة في الأشهر الأربعة الماضية، بزيادة 20 ضعفا مقارنة بفترة الأربعة أشهر السابقة. وفي الشهور الـ12 التي سبقت أحداث 7 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، تم الإبلاغ عن نحو 30 حدثًا مماثلا فقط في المنطقة.
المشهد أعلاه جاء خلاف الرغبة الأميركية بمنع التصعيد في المنطقة، الأمر الذي دفع إدارة بايدن في نهاية المطاف للإعلان عن سلسلة هجمات على كل من جماعة أنصار الله اليمنية والمقاومة الإسلامية في العراق وسوريا.
وعقب مقتل 3 جنود أميركيين وجرح قرابة 40 آخرين في هجوم على قاعدة بالأردن، أعلنت الولايات المتحدة أنها ستوجه ضربات للجماعات الموالية لإيران في العراق وسوريا ومواقع للحرس الثوري الإيراني الذي تتهمه إدارة بايدن بدعم وإدارة هذه الجماعات.
في الثاني من فبراير/شباط الحالي، نفذت الولايات المتحدة 85 ضربة في العراق وسوريا، بينها 7 ضد الحرس الثوري لإيراني والمليشيات التابعة له.
وتجنبت الضربات الأراضي الإيرانية، لكنها ركزت على “الممر الإيراني” في محافظة دير الزور شرقي سوريا. وشملت المناطق المحيطة بعاصمة المحافظة، ومنطقة الميادين الصحراوية.
وأشارت الولايات المتحدة إلى أن ضرباتها في منتصف ليل 3 فبراير/شباط الجاري كانت بداية ردها على العديد من الهجمات.
وصعّدت الولايات المتحدة بشكل كبير نشاطها العسكري في الشرق الأوسط خلال الأشهر الأربعة الماضية، بما في ذلك الغارات الجوية الانتقامية كجزء من أكثر من 60 حادثة ضد أعضاء محور المقاومة منذ 7 أكتوبر/نشرين الأول الماضي.
وقالت القيادة العسكرية الأميركية في الشرق الأوسط (سنتكوم) إن الضربات ضد كتائب حزب الله استهدفت “مقرات رئيسية ومواقع تخزين وتدريب على الصواريخ والمقذوفات الصاروخية والطائرات المسيرة المفخخة”.
ففي العراق، استهدفت الضربات الأميركية كلاً من حركة النجباء وكتائب حزب الله، التي تتهمهما الولايات المتحدة بالوقوف وراء معظم الهجمات الأخيرة على القوات الأميركية في العراق وسوريا.
وفي سوريا، شملت الضربات الجماعات المسلحة الموالية لإيران وقوات الجيش السوري ومواقع الحرس الثوري ولواء “فاطميون”.
وتظهر الإحصائيات الرسمية أن إجمالي عدد القتلى نتيجة لهذه الغارات الجوية بلغ 18 شخصًا.
أهداف أميركا من الهجمات
تسعى الولايات المتحدة بهذه الضربات لردع هذه الجماعات في ظل حالة أمنية هشة تجتاح المنطقة منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي.
كما تضع إدارة بايدن هذه الهجمات في سياق الضغوط التي تتعرض لها قواتها وقوات التحالف الدولي للخروج من العراق، بناءً على قرارات مجلس النواب العراقي.
وتأخذ إدارة بايدن في حساباتها قرب الانتخابات الأميركية ورغبتها في عودة الهدوء للمنطقة قبل ذلك.
كما تخشى واشنطن أن تطور جماعات “محور المقاومة” من أدائها والانخراط أكثر في استهداف مباشر لإسرائيل في ظل استمرار العدوان على غزة، واحتمال التصعيد في جنوب لبنان.
نطاق حذر يتجنب إيران
واتهم الرئيس جو بايدن المليشيات المدعومة من طهران بالوقوف وراء الهجمات، كما أكد وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن أن الطائرة المسيّرة التي نفذت الغارة إيرانية الصُنع.
وحرصت الولايات المتحدة في إطار هجماتها الانتقامية على تجنب توجيه ضربات داخل الأراضي الإيرانية، بجانب عدم توجيه اتهام مباشر لطهران في تحمل مسؤولية الهجمات على قاعدة التنف والبرج 22 في الأردن.
ويأتي ذلك انسجاما مع سياسة تجنب تصعيد إقليمي كبير، وفي بيان له، قال وزير الدفاع الأميركي “نحن لا نسعى إلى تصعيد الصراع في المنطقة، لكننا على استعداد تام لاتخاذ مزيد من الإجراءات لحماية قواتنا ومنشآتنا”.
ومن جهة أخرى، أعلنت إيران حالة تأهب قصوى، ونشرت منظوماتها الدفاعية على طول الحدود مع العراق تحسبا لأي هجمات أميركية مُحتملة.
كما طالبت المجموعات المسلحة المرتبطة بها بالاختفاء وإخلاء مواقعها، ووجهت بمغادرة القادة العسكريين والمستشارين الإيرانيين مواقعهم في العراق وسوريا، تجنبا لاستهدافهم بالغارات الأميركية أو الإسرائيلية.
كما يشير تأخر الرد الأميركي لقرابة أسبوع إلى رغبة واشنطن في تجنب خسائر بشرية كبيرة في صفوف الجماعات المسلحة والمواقع التابعة لها، والتي منحها التأخر في الرد الوقت الكافي لإخلاء المواقع وأخذ الاحتياطات اللازمة.
ردود الفعل
من جانبها، أدانت وزارة الخارجية الإيرانية السبت الماضي “بشدة” الهجمات الأميركية على العراق وسوريا، واعتبرتها “خطأ إستراتيجي” يسهم في تفاقم التوتر وعدم الاستقرار بالمنطقة.
وقال متحدث الخارجية الإيرانية ناصر كنعاني، في بيان، إننا “ندين بشدة الهجمات العسكرية الأميركية على مناطق في العراق وسوريا”، حسب وكالة مهر الإيرانية.
واعتبر كنعاني أن “الهجمات انتهاك لسيادة العراق وسوريا ووحدة أراضيهما، وانتهاك للقانون الدولي ولميثاق الأمم المتحدة”.
وتابع “إضافة إلى دعم الولايات المتحدة الكامل لأربعة أشهر من القمع الإسرائيلي الوحشي والمتواصل ضد سكان غزة والضفة الغربية، والهجمات العسكرية على اليمن وانتهاك سيادة ووحدة أراضي هذا البلد، فإن هجوم الليلة الماضية على سوريا والعراق مغامرة وخطأ إستراتيجي جديد من قبل الحكومة الأميركية، يساهم في تفاقم التوتر وعدم الاستقرار في المنطقة”.
وقالت وزارة الخارجية السورية في بيان لها السبت الماضي إن “سوريا تدين هذا الانتهاك الأميركي السافر، وترفض بشكل قاطع كافة الذرائع والأكاذيب التي تروّجها الإدارة الأميركية لتبرير هذا الهجوم”.
ورد المتحدث باسم القوات المسلحة العراقية يحيى رسول في بيان السبت الماضي قائلا إن “الضربات تعتبر انتهاكا للسيادة العراقية وتقوّض جهود الحكومة العراقية، وتشكل تهديدا قد يجر العراق والمنطقة إلى عواقب غير مرغوب فيها، وستكون نتائجها وخيمة على الأمن والاستقرار في العراق والمنطقة”.
حماس تدين
من جانبها، أدانت حركة المقاومة الإسلامية (حماس) السبت الماضي الهجمات الأميركية على العراق وسوريا، معتبرة أنها “تصعيد خطير وتعد على سيادة بلدين عربيين”.
وقالت الحركة في بيان “ندين بأشد العبارات العدوان الأميركي على كل من العراق وسوريا، ونعتبره تصعيدا خطيرا، وتعديا على سيادة البلدين العربيين، وتهديدا لأمنهما واستقرار المنطقة”.
وأضافت أن الهجوم جاء “خدمة لأجندة الاحتلال الإسرائيلي التوسّعية، والتغطية على جرائمه المروّعة ضد شعبنا الفلسطيني في قطاع غزة”.
على صعيد الجماعات المسلحة، أعلنت كتائب حزب الله العراقية أنها ستعلق عملياتها العسكرية والأمنية “مؤقتا” ضد القوات الأميركية بهدف منع إحراج الحكومة العراقية بعد الهجوم الذي أسفر عن مقتل أميركيين على الحدود الأردنية.
وجاء إعلان الجماعة قبيل الهجمات الأميركية، في إشارة إلى رغبتها في خفض التصعيد وتجنب رد أميركي واسع.
ما بعد الهجمات الأميركية
جاءت الضربات الأميركية ضد مواقع الجماعات المسلحة في سوريا والعراق منضبطة ومحسوبة بحيث لا تفضي لتصعيد أكبر، الأمر الذي قد يدفع تلك الجماعات لمواصلة استهداف المواقع الأميركية وربما تطوير هجماتها لتشمل أهدافا إسرائيلية.
وبعد الهجمات الأميركية، أعلنت المقاومة الإسلامية في العراق وسوريا استهداف قاعدة عين الأسد الجوية في محافظة الأنبار، وقاعدة الحرير الجوية في إقليم كردستان العراق.
كما استهدف قصف صاروخي القاعدة الأميركية في حقل كونيكو للغاز شرقي محافظة دير الزور شمالي شرقي سوريا.
وتعهد الحشد الشعبي في العراق بالرد على الهجمات الأميركية التي استهدفت مواقعه ومواقع مدنية في العراق.
في حين أعلنت حركة “النجباء”، أحد أكثر الفصائل العراقية نشاطا ضد الأهداف الأميركية، أنها “لن تعلق الهجمات على الأميركيين، وسترد على أي هجوم منهم”.