غزة- “ولسه يا عالم شو في مخبى لنا” (ولا ندري بعد ما الذي يخبئه القدر لنا)، بهذه الكلمات التي تتداول شعبيا على لسان من يخشى ما ينتظره، يعبّر الفلسطيني الخمسيني مثقال بكر عن مخاوفه من قادم الأيام، بعدما حط رحاله في مدينة رفح أقصى جنوب قطاع غزة، نازحا للمرة الرابعة، منذ اضطراره إلى إخلاء منزله في مدينة غزة.
في خيمة صغيرة متهالكة يقيم بكر مع أسرته في منطقة المواصي، أقرب نقطة حدودية للقطاع مع مصر، في الجنوب الغربي لمدينة رفح، التي باتت تؤوي نحو نصف سكان القطاع البالغ عددهم زهاء 2.3 مليون نسمة.
وتشير تقديرات السلطات المحلية في غزة ومنظمات دولية إلى أن 85% من الغزيين أصبحوا نازحين بعيدا عن منازلهم ومناطق سكنهم، منهم نحو مليون فلسطيني لجؤوا إلى مدينة رفح، أحدهم بكر، الذي اضطر إلى النزوح مرارا، بحثا عن أمان مفقود في مساحة جغرافية صغيرة لم يترك الاحتلال موضعا فيها لم يستهدفه بصاروخ أو قذيفة منذ اندلاع الحرب في السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي.
نازحو المواصي
يقول بكر (50 عاما) -للجزيرة نت- إنه اضطر للنزوح أول مرة من منزله في مخيم الشاطئ للاجئين غرب مدينة غزة، واحتمى هو وأسرته في مستشفى الشفاء بالمدينة، ومع اشتداد القتال وتوغل جيش الاحتلال برًا، نزح بكر نحو مخيم البريج للاجئين وسط القطاع، ومنه إلى مدينة خان يونس، المجاورة لمدينة رفح، حيث يقيم حاليا في خيمة مع أسرته على مقربة من الحدود مع مصر.
ولا يأمن هذا الرجل على نفسه وأسرته من نزوح جديد، لكنه ليس واثقا أين ستكون الوجهة المقبلة، وبينما كان يتحدث بحرقة عن واقعه المعيشي المتردي بفعل النزوح والتشرد، احتضنه أحد أطفاله، وتساءل “شو ذنب الأطفال فيما يحدث لنا؟”.
ويرفض بكر فكرة مغادرة القطاع، ويتمنى العودة إلى منزله في مخيم الشاطئ، لكنه في الوقت نفسه يعبر عن خشيته من أهداف إسرائيل لدفع النازحين شيئا فشيئا نحو آخر نقطة في القطاع، قاصدا بذلك منطقة المواصي، وملاحقتهم بالقتل والتدمير.
وبينما كان يقلب كمية طعام قليلة، يعدها على نار الحطب لأسرته المكونة من 8 أفراد، قال بكر “والله جد جدي الميت من 200 سنة ما عاش هيك عيشة”، ويقصد أن الحرب الإسرائيلية فرضت على الغزيين حياة قاسية.
وأضاف النازح الغزي “يكفي ذل، تشردنا وبعنا هواتفنا وأغراضنا من أجل لقمة العيش (..)، ولا نأكل في اليوم سوى وجبة واحدة، والطفل الذي يحصل على ربع رغيف في اليوم يحمد ربنا”.
وقال بكر “احنا بنموت بالبطيء (..) نزوح وتشرد، وأمراض، وقلة طعام، وغلاء أسعار، والعالم يتفرج ولا يتحرك لوقف المجزرة التي نتعرض لها”.
وتشير أرقام رسمية صادرة عن المكتب الإعلامي الحكومي -الذي تديره حركة المقاومة الإسلامية (حماس)- إلى أن أكثر من 45% من ضحايا الغارات الجوية الإسرائيلية في جنوب القطاع هم من النازحين، الذين أجبروا على إخلاء منازلهم في مدينة غزة وشمال القطاع.
لا مكان آمن
تمتد منطقة المواصي على 14 كيلومترا وبعمق كيلومتر واحد بمحاذاة شاطئ البحر من مدينة دير البلح وسط القطاع، مرورا بمدينة خان يونس وحتى مدينة رفح، التي تقع المواصي فيها على مساحة 3 كيلومترات مربعة وهي الأقرب للحدود مع مصر.
وفي السياق، يقول شريف النيرب -عضو لجنة تشرف على خيام تمولها دولة عربية- للجزيرة نت إن “الأوضاع كارثية في هذه المنطقة، والمساعدات لا تكفي الاحتياجات المتزايدة لأفواج النازحين المتلاحقة على مدينة رفح، وخاصة المنطقة الغربية من المدينة، وتشمل المواصي”.
ومن جهته، قال رئيس بلدية رفح أحمد الصوفي للجزيرة نت إن “هذه المنطقة تفتقر للبنية التحتية، باستثناء الشارع الرئيسي، فإن الشوارع الداخلية غير معبدة، ولا يوجد بها صرف صحي أو أي مرافق حيوية، بسبب الحصار الإسرائيلي الذي فرض عليها حتى عام 2005”.
ويضيف الصوفي أنه حين الانسحاب الإسرائيلي من القطاع خريف 2005 كانت المستوطنات الإسرائيلية تحتل المساحة الكبرى من منطقة المواصي، وتُمنع أي عمليات تطوير فلسطينية في المنطقة، وكان مجرد الوصول إليها ولشاطئ البحر يتطلب المرور عبر حواجز عسكرية إسرائيلية.
ويؤكد رئيس البلدية أن “لا مكان آمن في كل قطاع غزة، بما في ذلك رفح التي يزعم الاحتلال أنها آمنة، ولا يتوقف عن قصفها بالطيران والمدفعية”.
ويقدر عدد النازحين في مواصي رفح بنحو 300 ألف، من بين مليون نازح لجؤوا إلى المدينة، التي يبلغ عدد سكانها قبل اندلاع الحرب أقل من 300 ألف نسمة.
حياة بائسة
وعلى امتداد البصر، تنتشر في منطقة المواصي ما تشبه “معسكرات خيام” أقام بعضها نازحون بأنفسهم، في حين تتولى حاليا دول عربية تمويل إقامة خيام لاستيعاب الأعداد المتزايدة من النازحين.
بعد الهجوم البري الإسرائيلي مطلع الشهر الحالي، واجهت مدينة خان يونس تدفقا هائلا من النازحين على مدينة رفح من سكان مدينة دير البلح ومخيمات البريج والمغازي والنصيرات وسط القطاع، إثر إنذارات إسرائيلية متزامنة مع كثافة في الغارات الجوية والقصف المدفعي، ومحاولات جيش الاحتلال للتوغل البري.
ولجأ آلاف النازحين إلى منطقة المواصي القاحلة، شبه الخالية من المساكن، والتي تفتقر للخدمات الحيوية، بعدما لم يعد في مدينة رفح متسع لمزيد، وقد فاضت المنازل والمدارس وحتى الشوارع والميادين العامة بخيام النازحين.
وكان الضوء قد سُلط على اسم المواصي خلال الأسبوع الثاني من الحرب، حين زعمت إسرائيل أنها منطقة آمنة، ونصحت سكان غزة وشمالها بالتوجه إليها، تحديدا في “جنوب وادي غزة”، وأعلنت أيضا أن المساعدات الإنسانية ستصل إلى النازحين الذين يتوجهون إليها.
ولا تكفي المساعدات الإنسانية الواردة من معبر رفح مع مصر لتغطية الاحتياجات الأساسية، ويضطر النازحون إلى شراء القليل من الطعام بأسعار يصفها بكر بأنها “جنونية، والحياة نار”.