في فجر الثامن من ديسمبر/ كانون الأول عام 2024، فُتح سجن صيدنايا، المسلخ البشري كما يصفه السوريون، وخرج آلاف المعتقلين. حينها فقط، أدرك الشعب السوري أن ثورته قد نجحت، وأنه قد أسقط نظام بشار الأسد. لكن الأسد كان قد سقط فعلًا قبل أربعة عشر عامًا، عندما خرج الأطفال في درعا يهتفون ضده، وعندما لم يستطع النظام إسكاتهم سلط عليهم جنوده، ولما لم يستطع جنوده قتل الجميع، جاء بجنود توهموا أن الأسد حليف قضاياهم الكبرى وأنه ناصرهم على عدوهم إن نصروه على شعبه.
خرج الأطفال من درعا، ثم خرج ملايين السوريين وأطفالهم من سوريا إلى منافي العالم وأشتاته. بدأ العالم في تقبل النظام، وشرع بعض الأشقاء في إعادة تأهيله، وارتاح النظام وحلفاؤه قبل أن يرى أبشع كوابيسه تتحقق، الأطفال يعودون رجالًا محملين بالأسلحة عازمين على تحقيق العدل، لا الانتقام.
وليتموا في أيام ما بدأه بني جلدتهم قبل سنين، وما حلم به السوريون لعقود، وليحصلوا على مقابل ما دفعوه سلفًا من دمائهم وأعمارهم وحريتهم، وليُخرجوا الأسد بلا عودة.
اثنا عشر يوما كانت كفيلة بأن يسقط نظام بشار الأسد الذي جثم على صدر الشعب السوري لأكثر من خمسة عقود. نظام قام على حكم عائلي اغتصب السياسة في البلاد واحتكر مواردها، واستخدم القوة الغاشمة ضد تطلعات الشعب للحرية في كل وقت، مخلفًا ملايين من الضحايا القتلى والسجناء والمهجّرين والمنفيين على مدار خمسين عاما، الأمر الذي جعل سقوطه السريع مفاجأة لم يتوقعها أكبر الحالمين.
السبب في تلك المفاجأة هو أن الأوضاع في سوريا بدت مجمدة ميدانيا وسياسيا منذ توقيع اتفاق وقف إطلاق النار برعاية روسية تركية في محافظة إدلب في مارس/ أذار 2020، الذي توقفت على إثره العمليات العسكرية الواسعة بين قوات المعارضة والقوات الحكومية في شمال غربي سوريا.
ولكن في غضون ذلك الوقت عملت المعارضة السورية المسلحة على تعزيز قدراتها العسكرية، كما عملت على تحويل هيكلها إلى قوة مسلحة شبه نظامية، وتحسين مستوى التدريب، وهو ما رصده جيروم دريفون، المحلل البارز في مجموعة الأزمات الدولية مؤكدا أن “ما نراه الآن هو نتيجة السنوات القليلة الماضية من تدريب واحتراف قوات هيئة تحرير الشام”.
على الجهة المقابلة، كانت القوات الحكومية تشهدُ تدهورا داخليا متزايدا بفعل انهيار العُملة وضعف الاقتصاد وتفشي الفساد والجريمة، حتى إن الباحث المتخصص في الشأن السوري تشارلز ليستر وصف النظام السوري بأنه “أكبر دولة مخدرات في العالم”، بسبب اعتماده على عائدات تجارة مخدر الكبتاغون لدعم شبكات الفساد، التي تضم قادة عسكريين وميليشيات وأمراء حرب.
ظلت الأمور على ذلك الهدوء المصطنع حتى مع اشتعال المنطقة بفعل الحرب الإسرائيلية على غزة وجنوب لبنان، ولكن في 26 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي قامت مدفعية النظام بقصف مدينة أريحا بريف حلب الواقعة تحت سيطرة المعارضة، ما أسفر عن مقتل وإصابة 16 شخصًا، الأمر الذي زاد من تأجيج الوضع الميداني.
انطلاق عملية ردع العدوان
وفي الساعات الأولى من صباح يوم الأربعاء الموافق 27 نوفمبر/تشرين الثاني، شنت فصائل المعارضة السورية، عملية عسكرية ضد القوات الحكومية السورية وحلفائها باسم “ردع العدوان”، عقب مواجهات عنيفة شهدتها مناطق الاشتباك في ريف حلب الغربي وريف إدلب الشرقي، تعد الأولى من نوعها منذ اتفاق مارس/ أذار 2020.
خلال الساعات الأولى من هجومها المفاجئ، حققت المعارضة المسلحة تقدما كبيرا وظهرت في ثوب أكثر تماسكا وتنظيما من خلال “غرفة عمليات عملية ردع العدوان”، حيث سيطرت على 20 بلدة وقرية في ريفي حلب وإدلب، إلى جانب قاعدة الفوج 46، النقطة الإستراتيجية الأهم في الطريق إلى حلب.
وفي اليوم التالي، 28 نوفمبر/تشرين الثاني، سيطرت المعارضة على قرى إضافية في ريف إدلب الشرقي، ما جعلها على بُعد كيلومترات قليلة من طريق M5 السريع، الرابط بين شمال سوريا وجنوبها والواصل بين مدن إستراتيجية أهمها حلب وحمص وحماة. وفي الصباح التالي، استمر تقدم القوات في ريفي إدلب وحلب، مستحوذة على قرى ومدن جديدة، أهمها مدينة سراقب في ريف إدلب الواقعة على ملتقى طريقين دوليين.
حلب أولى المحطات
في اليوم نفسه، 29 نوفمبر/تشرين الثاني، شنت المعارضة هجوما مكثفا على مدينة حلب، وخلال ساعات نجحت في السيطرة على عدة أحياء رئيسية، منها الحمدانية، والجميلية، وصلاح الدين، وبحلول نهاية اليوم وصلت القوات إلى الساحة الرئيسية وسط المدينة.
وفي الساعات الأولى من يوم 30 نوفمبر/تشرين الثاني تمكنت المعارضة من السيطرة على قلعة حلب ومقر المحافظ، وأمام هذا التقدم انسحبت القوات الحكومية إلى معاقل محدودة في إدلب، بينما تراجعت في حلب أيضا.
في غضون ذلك، تم الإعلان عن استيلاء المعارضة على كميات كبيرة من الأسلحة التي تركها النظام خلفه، شملت دبابات من طراز T-90A، وبطارية نظام الدفاع الجوي S-125 Neva، وأنظمة Pantsir-S1 وBuk-M2، إضافة إلى مروحيات وطائرات مقاتلة كانت رابضة في قواعد حلب ومنغ الجوية.
حماة المحطة التالية
بحلول مساء 30 نوفمبر/تشرين الثاني، حققت المعارضة تقدما سريعا نحو محافظة حماة، وسيطرت على عشرات البلدات والقرى الرئيسية، كما تمكنت المعارضة من الاستيلاء على مطار حلب الدولي الذي وقع في البداية تحت سيطرة قوات سوريا الديمقراطية.
في مقابل ذلك، عُززت القوات النظامية حول حماة، ونُشرت تعزيزات كبيرة في مناطق مثل جبل زين العابدين كما شنت روسيا عدة غارات جوية عنيفة، بما في ذلك غارة على مخيم للاجئين في إدلب أسفرت عن مقتل تسعة مدنيين وإصابة العشرات، وأخرى استهدفت مستشفى جامعة حلب أسفرت عن مقتل 12 شخصًا.
كانت المعارك حول حماة ضمن الأشرس في هذه الموجة من المواجهات، لكن المعارضة نجحت في حسم الأمور مستفيدة من تردي حالة القوات النظامية. وبحلول 5 ديسمبر/ كانون الأول، أعلنت المعارضة سيطرتها على حماة والانطلاق نحو سجنها المركزي وتمكنت من إخراج مئات السجناء، بينما أعلن النظام تموضع قواته خارج المدينة.
كان سقوط حماة بمثابة شهادة وفاة مبكرة للنظام الذي لم يفقد السيطرة على المدينة منذ عام 2011، وهو ما فتح الطريق للمعارضة للاستيلاء على بلدتين لهما أهمية رمزية دون قتال، هما محردة التي يقطنها الكثير من المسيحيين والسلمية التي تعد أحد مواطن الطائفة الإسماعيلية والتي دخلتها المعارضة بفضل اتفاق مع شيوخ المدينة ومجلسها الديني الإسماعيلي.
على مشارف حمص
وضعت هذه التطورات المعارضة على مشارف مدينة الرستن حيث استولت على قاعدة عسكرية استراتيجية في شمالها، ولمواجهة هذا التقدم شنت الطائرات الروسية غارة استهدفت الجسر الرئيسي الرابط بين حمص وحماة، في محاولة لعرقلة زحف المعارضة.
وتعد حمص المركز الرئيس لشبكة السكك الحديدية والطرق السريعة في سوريا، مما يجعلها الممر الرئيسي والأسهل لحركة البضائع والأشخاص والقوات العسكرية في جميع أنحاء البلاد.
ربما جعلت هذه الأسباب دفاع النظام السوري عن حمص مختلفا نسبيا، إذ تدرك قوات الأسد أن خسارتها لحمص بمثابة خسارة ميدانية كبرى لا يمكن تداركها، وأن سيطرة المعارضة عليها تجعلها تتمتع بأفضلية إستراتيجية حاسمة.
سيطرة المعارضة على حمص فتحت الطريق خلال ساعات قليلة للسيطرة على مدينة القصير، واحدة من أهم المدن الحدودية مع لبنان.
ولكن ذلك لم يمنع تقدم المعارضة التي استولت في 6 ديسمبر/ كانون الأول على مدينة الرستن مع وضعها على طريق مفتوح نحو حمص.
التحركات الكردية
بالتزامن مع هذه التطورات، وسعيا لاستغلال تراجع قوات النظام في شمال غرب سوريا، شرعت قوات سوريا الديمقراطية ذات الغالبية الكردية في تعزيز مواقعها منذ نهاية نوفمبر/تشرين الثاني، واستولت على مواقع استراتيجية في حلب كانت قد انسحبت منها القوات الحكومية، أهم هذه المواقع هو مطار حلب الدولي وبلدتي نبل والزهراء، قبل أن تُفقد هذه المناطق لاحقا لصالح المعارضة.
وفي 3 ديسمبر/ كانون الأول، شنت قوات سوريا الديمقراطية هجوما مفاجئا على مواقع الجيش السوري قرب بلدتي خشام والصالحية في دير الزور، مستهدفة تعزيز سيطرتها في المنطقة الشرقية، ورغم ذلك اضطرت هذه القوات للانسحاب بعد ساعات من تقدمها.
ولكن بحلول 5 ديسمبر/ كانون الأول، تقدمت قوات سوريا الديمقراطية ناحية الرقة، حيث سيطرت على حقول نفطية في مناطق الثورة والرصافة، إضافة إلى مواقع استراتيجية أخرى بعد انسحاب قوات النظام والمجموعات الموالية له.
وفي 6 ديسمبر/ كانون الأول، بدأت قوات النظام في انسحاب كبير من دير الزور، والميادين، والقورية، والبوكمال باتجاه دمشق لتعزيز مكانة الحكومة والرئيس الهارب بشار الأسد؛ ونتيجة لذلك تمكنت قوات سوريا الديمقراطية من بسط سيطرتها على مدينة دير الزور وامتدت نحو البوكمال والحدود العراقية، مما عزز نفوذها في المنطقة الشرقية.
تحرر درعا والسويداء والقُنيطرة
مع حلول مساء 6 ديسمبر/ كانون الأول، انسحبت قوات النظام بشكل مفاجئ من السويداء باتجاه العاصمة دمشق لتعزيز دفاعاتها هناك، ما فتح الطريق أمام قوات المعارضة المحلية للسيطرة على المدينة دون مقاومة تُذكر.
وفي صباح 7 ديسمبر/ كانون الأول، استمر الانهيار السريع للقوات الحكومية مع انسحابها من مدينة القنيطرة، الواقعة على الحدود مع هضبة الجولان التي تحتلها إسرائيل، لتسيطر عليها المعارضة خلال ساعات قليلة.
السيطرة على حمص ودمشق وسقوط الأسد
في يوم 7 ديسمبر/ كانون الأول أيضا، وأمام انسحابات قوات النظام المتتالية أمام تقدم المعارضة تمكنت هذه الأخيرة من التغلب على بقايا قوات النظام في مدينة حمص ودخولها في مساء ذلك اليوم، حيث احتفلت بتأكيد سيطرتها على أبرز ميادينها وجامع الصحابي خالد بن الوليد.
وفي نفس اليوم، تقدمت قوات المعارضة إلى ريف دمشق الجنوبي، ومن جديد انسحبت قوات النظام من عدد من البلدات الهامة لتصبح المعارضة على بعد 10 كيلومترات فقط من ضواحي دمشق، في تطور مثير عَكَس حجم الضغط العسكري الذي واجهته القوات السورية في تلك المناطق.
خلال الأيام العشرة الماضية، لم تكن هناك مواجهات حاسمة من طرف النظام، لا لضعف قوات النظام فقط، بل لأنه لم يعد هناك من يريد القتال من أجل الأسد. ومن ناحية أخرى، كانت المعارضة السورية تنتصر دبلوماسيًا واستراتيجيًا، لا عسكريًا فحسب. فكما كتب تشارلز لستر، الباحث في الشأن السوري في معهد الشرق الأوسط بواشنطن، تفاوضت المعارضة مع وجهاء الإسماعيليين، وقيادات عسكرية ومدنية في نظام الأسد، والقبائل السنية، مما أدى إلى سيطرة سلمية من المعارضة في معظم الحالات.
وبعد حصار المعارضة للعاصمة وخاصة القادمين من جبهة درعا والسويداء من الجنوب، ومن ريفي دمشق الشرقي والغربي، وبقدوم فجر يوم 8 ديسمبر/ كانون الأول تمكنت المعارضة من السيطرة على العاصمة دمشق، ودخول كل المؤسسات الإستراتيجية والحيوية مثل مطار المزة العسكري، وقصر الشعب، ومبنى الإذاعة والتلفزيون، ورئاسة الأركان.
أما المشهد الأبرز، فقد كان الخطاب الذي ألقاه في الجامع الأموي في قلب دمشق القائد بإدارة العمليات العسكرية في المعارضة السورية أحمد الشرع -الملقب بالجولاني- وقال فيه إن “النصر الذي تحقق هو نصر لكل السوريين، وشدد على أن “الرئيس المخلوع بشار الأسد نشر الطائفية واليوم بلدنا لنا جميعا”. لقد تمكنت قوات المعارضة المسلحة من إسقاط نظام بشار الأسد في اثني عشر يوما من القتال، بعد أربعة عشر عامًا من الهتاف الأول!