لم تخلُ السينما المصرية في كثير من أفلامها من وجود البعد الديني بوجه عام، ولم تخلُ كذلك من أحد أهم تجليات الخطاب الديني، وهو: الفتوى، فرأينا عدة أفلام سينمائية تبدو فيها الفتوى كأحد مكونات العمل الدرامي أو السينمائي، وبخاصة المرحلة التي كانت تعتمد على روايات أدبية، أو أفلام يكتبها أصحاب باع طويل في الأدب العربي والمصري.
وكثيرًا ما تم تناول موقف الفتوى والمفتين من السينما والفن بوجه عام، وهذا هو ما يركّز عليه الكتّاب والباحثون، إلا أن مساحة أخرى لم تنل الاهتمام البحثي والكتابي، وهي مساحة: الفتوى في الأفلام السينمائية، والسياقات التي ترد فيها الفتوى، ومدى صحتها من الناحية الفقهية، وهل آتى توظيفها دراميًا أكلَه، أم لا؟ ولماذا كانت الفتوى توجد في كثير من الأفلام من قبل، بينما اختفت تمامًا منذ مدة؟
لا أعلم كتابًا أو كاتبًا تناول الموضوع بشكل استقصائي بحثي، إلا ما ورد مؤخرًا في فصل من كتاب أصدرته دار الإفتاء المصرية، ضمن موسوعة: المعلمة المصرية للعلوم الإفتائية، في الجزء السادس عشر منها، والذي تناول موضوع: الإفتاء والعلوم الاجتماعية، في الفصل السابع منه، بعنوان: الفتوى والفن.
وقد تناول بعض الأفلام التي تعرضت للفتوى، دون حصر، أو استقراء كامل لها، وهو جهد مهم ويتناسب مع المساحة المطلوبة للبحث، وكان تركيزه أكثر على أثر الفتوى وعلاقتها بالفنون بوجه عام، لكنه جهد يعد بداية يبنى عليها، لكنه غير كافٍ في الموضوع.
المتأمل للسينما المصرية وأفلامها، من حيث علاقتها بالفتوى والإفتاء، سيجد أن هناك بعضَ أفلام مصرية جعلت إحدى الفتاوى هي العمود الفقري للخط الدرامي فيها، لكن بدون تركيز على أن الأمر متعلق بالفتوى، وأنَّ هناك أفلامًا أخرى كانت الفتوى فيها هي خيط درامي في النهاية، لينتهي به الفيلم، أو الحبكة الدرامية بناء على فتوى، سواء صح النقل فيها أم لم يصح، وسواء كانت هذه الفتوى راجحة أم مرجوحة، قوية أم ضعيفة.
هذا إذا استثنينا الشكل الكوميدي الذي تبدو فيه الفتوى في بعض الأفلام، كفيلم (حسن ومرقص) مثلًا، إذ اضطر كاهن مسيحي للتخفي في شكل شيخ مسلم لأسباب أمنية، وذهب لمنطقة مختلفة عن منطقة سكنه السابقة، ولما علموا بوجوده كشيخ، طلبوه للمسجد، في وجود شيخ آخر، وألحوا عليه في الأسئلة والفتوى، فكان كلما سُئل في فتوى، قال: ” هو الدين بيقول إيه؟” فيجيب الشيخ المسلم الحقيقي الذي بجواره، وهكذا حتى صارت جملة لازمة عند النقاش والحوار في أمر تبدو فيه الفكاهة الدينية.
أفلام بطلها فتوى
ومن الأفلام التي كانت الفتوى عمودًا فقريًا للبناء الدرامي فيها، فيلمان؛ الأول: (شيء من الخوف)، وهو يحكي عن قرية (الدهاشنة)، التي يحكمها شخص قاتل، ينهب ويسلب وهو (عتريس)، الذي كان يحب فتاة من صغره (فؤاده)، ولوقوفها ضد مظالمه، بفتحها (الهويس) ليشرب الناس، ويسقوا زرعهم، طلبها للزواج فرفضت، فكذب الأب ليوهم (عتريس) بأنها موافقة.
وعلم بذلك أحد شيوخ القرية؛ الشيخ إبراهيم، ليظل يتحرك بين الناس، بالجملة الشهيرة في الفيلم: “جواز (عتريس) من (فؤاده) باطل”، الزيجة باطلة، حتى قتل (عتريس) ابنه، فخرج الناس حاملين جثمان الابن، هاتفين خلف الشيخ بالفتوى: “جواز عتريس من فؤاده باطل”. وكتبت على الحوائط.
ومعروف أن الفيلم أحدث ضجة وقتها، وكاد يمنع من العرض، وأن المقصود بـ (عتريس) هنا (عبد الناصر)، و(الدهاشنة) هم الشعب المصري الذي سيثور يومًا، ومعلوم تاريخيًا أن قضايا الأسرة أو الأحوال الشخصية، استخدمت في التعريض بالشأن السياسي، كفتوى الإمام مالك في طلاق المكرَه، وقد فهم من ذلك الشعب أنه قصد بيعة الحاكم التي كانت تؤخذ بالإكراه منهم.
أما الفيلم الثاني، فقد اشتهرت فيه فتوى باطلة، على حساب الفتوى الصحيحة التي لم ينتبه إليها الكثيرون، وهو فيلم: (الزوجة الثانية)، حيث عمدة القرية الذي لم ينجب؛ لأن زوجته عاقر، فأجبر فلاحًا على طلاق زوجته ليتزوجها وينجب منها، وينسب الولد له وللزوجة الأولى، فلما أجبره العمدة كان شيخ البلد يقول له: “وأطيعوا الله، وأطيعوا الرسول، وأولي الأمر منكم”، كفتوى في الطاعة للحاكم، واشتهرت كلازمة في التاريخ المصري الحديث، كلما أراد الشعب أن يسخر من مُفْتٍ يقولون: إنه مثل فلان في الفيلم، ويكررون نفس عبارته.
لم ينتبه الناس لفتوى أهم وأخطر في الفيلم، وهي الفتوى الصحيحة، والتي بناء عليها بنت الفلاحة -المطلقة بالإكراه من زوجها- خطتها في الانتقام من العمدة الظالم، فقد ذهبت لمسجد الحسين للزيارة، ورآها أحد الشيوخ تبكي، فلما قصت عليه الموقف، قال لها: هذا طلاق باطل، ولا تزالين زوجة لزوجك. فبناء على هذه الفتوى، حملت المرأة من زوجها المكرَه على الطلاق، وأنجبت، وهو ما أدى لوفاة العمدة بالحسرة والشلل، وانتهاء ظلمه، ومحاولتها إقامة العدل برد الحقوق للناس المظلومة في القرية.
لم يتم التركيز على هذه الفتوى التي اعتمدت عليها السيدة في الفيلم، بينما انتبه الناس لفتوى لم تخرج من أهلها، فشيخ البلد قديمًا كان منصبه منصبًا إداريًا وليس دينيًا، بينما من أفتاها في مسجد الإمام الحسين كان فقيهًا، ودلّها على حكم الدين الصحيح، ففي هذا الفيلم تم البناء الدرامي على هذه الفتوى.
أفلام ختمت بفتوى
ومن الأفلام التي بنيت خاتمتها الدرامية على فتوى، سواء كانت قولًا راجحًا أم مرجوحًا، عدة أفلام نراها بُنيت على قول مشهور، وهو يمثل رأيًا فقهيًا من المذاهب الأربعة، وليس الجمهور، أو الراجح بقوة الدليل، ومن ذلك: فتوى تحريم المرأة التي زنى بها الأب على الابن، أو من زنى بالأم فتحرم عليه بنتها، وهو قول عند المذهب الحنفي.
كان كتّاب السيناريو قبل ذلك لديهم قدرة في الارتباط بقضايا الواقع الاجتماعي والديني، على خلاف ما طفا على سطح الأعمال الفنية منذ عدة سنوات، فأصبحت معظم الأفلام تغرق في الحديث عن الجريمة والمخدِّرات
ولأنَّ قانون الأحوال الشخصية المصري حنفي المذهب، لذا اشتهرت هذه الفتوى في السينما المصرية، ووردت في أكثر من عمل فني، فرأيناها في فيلم: (رجال بلا وجوه)، حيث أراد الأب أن يمنع زواج الابن بفتاة ليل تابت وأحبته، ولما أراد صرفه عن الزواج بها، أخبره بغير الحقيقة أنه أحد من زنوا بها، ثم بعد مدة اعترف له بالحقيقة. وكذلك مؤخرًا في فيلم: (فرحان ملازم آدم)، يختم بنهايته، بعدم زواج البطل بالبطلة لوقوعه في الزنا مع الأم.
وكذلك الأفلام التي كانت تتعرض لقضية (بيت الطاعة)، وهو إلزام الزوجة ببيت الزوج، والذي يكون فيه الإذلال واضحًا من قبل الرجل، وتقاد للزوج بعسكري وحكم محكمة، في تصرف مهين، لا يليق بالأسرة وما لها من مكانة في الإسلام، وهو ما استنكره عدد من العلماء، وطالبوا بتغييره، وبيت الطاعة فتوى صادرة من رأي فقهي في سياقه وزمانه.
هناك أفلام كانت أحيانًا تختم لقطاتها الأخيرة في الفيلم بفتوى، تاركة الإجابة والحل للعلماء والقانون، مثل فيلم: (عتبة الستات)، وخلاصة قصته: ضابط شرطة لا ينجب، وظل يوهم زوجته أنها السبب، ورغم أنها نالت قسطًا عاليًا من التعليم، ووالدها مستشار محكمة، فإنها تحت الضغط الاجتماعي، ذهبت للدجّالين، وكثير منهم يلجأ لفعل وضع حيوانات منوية على قطعة صوف، وحين تقع المرأة تحت أثر التخدير تخصب به.
وبالفعل حملت السيدة، وعندما أخبرت زوجها ليفرح بالخبر، صدمها بأنه لا ينجب، واتهمها بالزنا والحمل الحرام، بعد سعي عرفوا الحقيقة، وفي آخر لقطات الفيلم، تحدث مستشار المحكمة والد الزوجة (الفنان أحمد مظهر)، بأن هذا الحمل يسمى شرعًا: حمل سفاح، فطلبت الزوجة أن تجهضه، فقال لها: حرام لا يجوز إسقاط الجنين، فقالت: وإذا أنجبته، والزوج يرفض الاعتراف به، لمن ينسب؟ قال: ينسب لأمه، لينتهي الفيلم بصراخ المرأة: اعمل إيه، تقولها ثلاثًا.
ولا أدري علامَ اختار كاتب الفيلم هذا الرأي الفقهي، وهل عاد لجهة فقهية، أم بنى هذه الخاتمة بناء على ثقافته الشخصية الدينية، فكاتبه الأستاذ محمود أبو زيد، والخط الديني ملاحظ في معظم أفلامه، فبعض أفلامه ينهيها بآية تتلى تعبر عن الموقف، كما في فيلم (العار) وهو كاتبه أيضًا، لكن الرأي الفقهي الذي استند إليه في فيلم (عتبة الستات)، ربما كانت هناك سعة في الأمر عن الموقف الذي تبنّاه، وربما كانت خاتمة الفيلم بهذا الشكل، قصد بها فتح باب النقاش في مثل هذه الحالات.
أسباب الغياب
هذه نظرة إجمالية على الفتوى في السينما المصرية، في بعض تجلياتها، والراصد لحال السينما منذ سنوات عدة، لن يجد أثرًا لمثل هذا التواجد سواء للفتوى، أو لمساحة مهمة للدين، بل ربما وجدنا استخدام مصطلحات دينية في غير موضعها، بل فيما لا يجوز استخدامه، كما في عنوان فيلم: (خيانة مشروعة)، فالخيانة لا تشرع بحال من الأحوال.
ولعل من أهم أسباب هذا الغياب، أن السينما من قبل كانت تعتمد على روايات كتبها أدباء كبار، أصحاب أقلام ذات ثقل أدبي ومتغلغلة في دراسة الواقع، والذي لا ينفصل عنه الدين والفتوى، كما في روايات نجيب محفوظ، وإحسان عبدالقدوس، ويوسف إدريس، وغيرهم.
كما كان كتّاب السيناريو أيضًا لديهم هذه القدرة في الارتباط بقضايا الواقع الاجتماعي والديني، على خلاف ما طفا على سطح الأعمال الفنية منذ عدة سنوات، فأصبحت معظم الأفلام تغرق في الحديث عن الجريمة والمخدِّرات، ليس من باب علاجها، بل من باب الحدث الذي يجذب المشاهد، ولو لم يكن يعالج قضية مؤثرة في المجتمع، أو سرقة بعض الأفكار من أفلام أجنبية، تتناول قضايا متعلقة بمجتمعها الذي أُنتجت فيه.
على الرغم من أن هذا الاقتباس كان موجودًا في السابق من الأدب العالمي، لكنه كان ينقل مع صبغه بصبغة مجتمعنا، كما في رواية: (الجريمة والعقاب) لدوستويفسكي، وقد مثلت عدة مرات في السينما المصرية بأكثر من عنوان، ومع ذلك كانت تُربط بواقعنا الديني، بل تم وضع آيات قرآنية في سياق الحوار، وهو ما تم أيضًا في رواية (البؤساء) لفيكتور هوغو، وقد مثلت في أكثر من فيلم مصري، وأيضًا تم صبغ الرواية بالصبغة المصرية، والهُوية الدينية للمجتمع كذلك.
لا شكَّ أن موضوع الفتوى والسينما موضوع يحتاج لإسهاب، ولكننا هنا أردنا طرقه، للتنبيه إليه، وللفت أنظار الباحثين المهتمين، لسبر غوره، والتأمل في مدى تأثير الفتوى في الفن، وتأثير الفن في الفتوى كذلك، ولا يمكن لمقال سريع أن يغطّي كل جوانبه، لكننا ألمحنا إليه ببعض اللقطات المهمة.
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.