الخرطوم- “ليتني أتمكن من نسيان ذلك اليوم، ليتني كنت في عداد الموتى قبل أن أرى ما حدث”، بهذه الكلمات تبدأ شابة عشرينية حديثها عن اليوم الذي اقتحم فيه منزلها، بالخرطوم بحري شمال العاصمة السودانية، نحو 6 من عناصر الدعم السريع بحجة البحث عن أسلحة، وعندما لم يجدوا شيئا قرروا عدم الخروج دون إنجاز.
تقول عزيزة -اسم مستعار- من منفاها بإحدى العواصم الأفريقية، للجزيرة نت، إن اثنين من العناصر -الذين كان بعضهم بزي مدني- جذباها بقوة إلى إحدى الغرف، فغابت عن الوعي من شدة الخوف، ولا تدري كم لبثت، لكنها استيقظت ووجدت نفسها مضرجة بالدماء.
أضافت عزيزة أنها لم تكن الوحيدة التي تعرضت للاغتصاب، فخلال رحلتها إلى خارج السودان التقت وفتيات أخريات واجهن المأساة ذاتها في مناطق متفرقة من الخرطوم، حيث بدأت حرب شرسة بين الجيش والدعم السريع منتصف أبريل/نيسان الماضي.
صمت وخوف
وتروي عزيزة كيف عاد عناصر الدعم السريع لمنزلها، وهددوها بالقتل إذا تحدثت عن تعرضها لاعتداء، وألمحوا لعودتهم إليها قريبا، فغادرت بعون عدد من الناشطات اللاتي أوصلنها إلى دولة أفريقية لتلقي المساعدة النفسية والطبية.
توثق منظمات نسوية وحقوقية عديدة حالات العنف الجنسي، لا سيما بولايات الخرطوم ودارفور والجزيرة، الأكثر تأثرا بالقتال المتواصل على مدى أشهر. لكن الجميع واجهوا معضلة الأرقام القطعية عن عدد الحالات، بسبب صمت الضحايا وخوفهن من الوصمة، كما منع سوءُ شبكات الاتصال المتابعة مع الناجيات.
وتؤكد هالة الكارب المدير الإقليمي لشبكة نساء القرن الأفريقي “صيحة” أن المعلومات المتاحة عن جرائم العنف الجنسي شحيحة للغاية مقارنة بما ارتُكب على الأرض. وتوضح أن غالبية الضحايا يصمتن شهورا، وربما سنوات قبل سرد الوقائع، في حين تضطر أخريات لخوض التفاصيل إذا حصل حمل.
وتضيف للجزيرة نت “تم توثيق 180 حالة، لكن توجد أخرى لم نتمكن من متابعتها بسبب التنقل والحرب، وتراجعت بعض الضحايا عن التحدث، ولا يمكن إجبارهن على ذلك”.
وتتحدث الكارب عن استمرار جرائم العنف الجنسي، وأنها عادة ما تحدث في بداية “الغزو” وترتبط بالنهب والسرقة، وقالت إنها “تحدث بانتظام نتيجة وجود قوات الدعم السريع في المناطق نفسها التي تضطر الظروفُ بعشرات النسوة للبقاء فيها، فيصبحن دائما عرضة للجرائم”.
وتشدد على أن العنف الجنسي يمثل “إستراتيجية حرب” ظلت الدعم السريع تتبعها منذ 20 عاما، وهي ذاتها التي استُخدمت في دارفور “كآلية مسموح بها ومتاحة ضمن بنية المليشيات؛ حيث تستخدم أجساد النساء للترفيه والترهيب والتهجير”.
تحريم دولي
يحظر القانون الدولي الإنساني على أطراف النزاع المسلح تعمّد إيذاء المدنيين. وتحظر المادة (3) المشتركة في اتفاقيات جنيف لعام 1949 والقانون الدولي الإنساني العرفي، الاغتصاب وغيره من أشكال العنف الجنسي.
ويمكن أن يمثل الاغتصاب وغيره من أشكال العنف الجنسي المرتكبة في سياق نزاع مسلح، أحد أشكال التعذيب وجريمة حرب، وإذا كان جزءا من هجوم واسع النطاق أو منهجي من قبل حكومة أو جماعة مسلحة، يمكن أن يشكل جرائم ضد الإنسانية.
بعد أشهر من بدء القتال العنيف في غرب دارفور، كشفت منظمة هيومن رايتس ووتش عن توثيقها 78 ضحية اغتصاب وقع بين 24 أبريل/نيسان و26 يونيو/حزيران الماضيين على يد قوات الدعم السريع.
وأفادت المنظمة -في تقرير لها- بأنها أرسلت في 11 أغسطس/آب الماضي ملخص النتائج بالبريد الإلكتروني إلى قائد الدعم السريع الفريق أول محمد حمدان دقلو “حميدتي” للتعليق، لكنها لم تتلق ردا.
وكانت الممثلة الخاصة لأمين عام الأمم المتحدة المعنية بالعنف الجنسي في حالات النزاع، براميلا باتين، دعت -في مطلع أغسطس/آب الماضي- إلى منع العنف الجنسي والتصدي له. وبعدها أقر الفريق عبد الرحيم دقلو نائب قائد الدعم السريع بخطورة العنف الجنسي في سياق النزاع المسلح.
وأصدرت القوات بيانا أكدت فيه “تعاونها الكامل مع الأمم المتحدة في التحقيق في أي مزاعم تتعلق بانتهاكات حقوق الإنسان”.
ودعّم مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة في سبتمبر/أيلول الماضي، إنشاء لجنة تحقيق دولية للتحقيق بشكل مستقل وحفظ الأدلة المتعلقة بالانتهاكات الجسيمة في دارفور وأماكن أخرى في السودان لضمان محاسبة المسؤولين.
ونسبت مفوضية حقوق الإنسان الأممية 70% من حوادث العنف الجنسي المؤكدة لمقاتلين يرتدون زي قوات الدعم السريع، وحادثة من بينها، يُتهم بارتكابها مقاتل بلباس قوات الجيش.
ضحايا بلا سند
وتقول رئيسة الوحدة الحكومية السودانية لمكافحة العنف ضد المرأة سُليمى إسحاق، إن الحالات الموجودة خاصة التي لها علاقة باقتحام المنازل أو الاختفاء القسري أو الاسترقاق الجنسي، هي كلها -بحسب الناجيات- ارتُكبت من أشخاص يرتدون زي الدعم السريع.
وتابعت، في تصريح لها خلال يناير/كانون الثاني الماضي، “جملة الحالات المسجلة عندنا هي 136 حالة عنف جنسي متصلة بالنزاع، ولا تمثل فعليا أكثر من 2%، وتوجد حالات كثيرة غير موثقة، لأن طريقة الإبلاغ تكون صعبة في ظل انقطاع الاتصال أو تردي الوضع الأمني نفسه، ومعظم الحالات قد لا تصل للمرافق الصحية ولا تبلّغ”.
وتؤكد هالة الكارب ضعف المعونات المقدمة لضحايا الاغتصاب خاصة أن الجرائم تحدث في مواقع سيطرة الدعم السريع، حيث محدودية الخدمات في المستشفيات والمراكز، وتتم بحذر بالغ. كما أن الأدوية التي ينبغي استعمالها لا تتوافر بانتظام.
وتردف “انعدام الأمن يضعف المساعدات ما لم تتمكن الضحية من المغادرة والوصول لمنطقة رعاية طبية جيدة”. وتضيف “نحاول التحدث مع المجتمع الدولي لإنشاء مركز خدمات متكامل يخصص للناجيات من جرائم العنف الجنسي، فالسودان بحاجة لمستشفى آمن للضحايا خاصة أن هناك حالات تحتاج لتدخل جراحي خاص”.
وتبدي الكارب قناعة باتساع دائرة العنف الجنسي مع دخول الدعم السريع إلى ولاية الجزيرة منتصف ديسمبر/كانون الأول الماضي، كما وسّع الجوع المتفشي الاستغلال الجنسي لبنات كثيرات وبينهن طفلات دون أن يُسمع صوتهن، وتقول “لا نستطيع تحديد أرقام مؤكدة بسبب وجود المليشيا في هذه المناطق”.
أدى وجود قوات الدعم السريع في ولاية الجزيرة ومدينة ود مدني إلى “تعرض نساء وفتيات كثيرات للعنف الجنسي”، وفق شهادات فارين من المدينة تحدثوا للجزيرة نت، مؤكدين أن القوات “الغازية” استهدفت المنازل للنهب والسرقة بشكل ممنهج وصحب ذلك تعدّ على أسر عديدة حاولت المقاومة.
وأفادت غرفة طوارئ منطقة الحصاحيصا في 19 ديسمبر/كانون الأول الماضي، بأنها استقبلت 6 نساء تعرضن لاعتداءات جنسية من هذه القوات في مدينة رفاعة.
ووثّق تقرير لشبكة “صيحة” بلاغا في التاريخ ذاته من عائلة في ود مدني تمت مداهمة منزلها والاعتداء على شابتين (19) و(24) سنة، وعندما قاوم الأب والأخ (12 عاما)، قُتل كلاهما، واغتُصبت الشابتان، ثم تمكنت الأم وابنتاها من الفرار إلى شمال السودان.
كما وثّق حوالي 25 حالة اعتداء جنسي في مناطق متفرقة من ولاية الجزيرة، ونُقل عن طبيب بود مدني أنه يجد صعوبات في الاستجابة لنداءات النساء والفتيات اللاتي أبلغن عن تعرضهن للاغتصاب بمنطقة مارنجان جنوب شرق المدينة، بسبب الوضع الأمني وعرقلة قوات الدعم السريع للحركة.