القدس المحتلة- لم تنهمك ساندرا حنّا، قبيل حلول عيد الفصح للطوائف المسيحية التي تسير وفق التقويم الشرقي، بالتحضير له كما اعتادت أن تفعل كل عام، ورغم أن أسبوع الآلام الذي يحلّ في نهايته “سبت النور” مخصص للصلوات في الكنائس صباحا ومساء، إلا أن طقوس فرح ترافق هذه الصلوات وتتهيأ العائلات المسيحية لإحيائها كل عام.
ففي “أحد الشعانين”، الذي حل الأسبوع الماضي، تخرج العائلات المقدسية المسيحية في مسيرة تجوب عدة شوارع وأزقة في القدس، يحملون خلالها سعف النخيل وأغصان الزيتون وتتزين شموعهم بكثير من الزخارف اللافتة.
لكن ساندرا وبقية العائلات المسيحية خرجت هذا العام لتشارك في المسيرة دون أن تُحضّر الشموع المزينة، ودون مظاهر احتفال التي تتمثل عادة بالمسيرات الكشفية.
وقالت للجزيرة نت: “زوجي وأولادي أعضاء في إحدى الفرق الكشفية المسيحية وينتظر أطفالي كل عام حلول أحد الشعانين وسبت النور ليشاركوا مع الكشافة بالعزف ونشر الفرح.. لكنهم خرجوا في الشعانين سيرا على الأقدام دون عزف وكذلك ستكون مشاركتهم خلال سبت النور”.
الوصول المستحيل
صبغُ البيض وإعداد “المعمول” طقوس ستحرص هذه السيدة على إحيائها في منزلها، وستلتئم على مائدة غداء العيد مع بعض أفراد العائلة لأن الجزء الآخر لن يتمكن من دخول القدس بسبب منع سلطات الاحتلال إصدار تصاريح خاصة بالعيد لأهالي الضفة الغربية.
وستحرص ساندرا أيضا على أداء كافة الصلوات الخاصة بعيد الفصح في كنيسة “مار يعقوب” المجاورة لكنيسة القيامة، والتي يصلي بها الروم الأرثوذكس العرب، لكنها تعلم جيدا أنها لن تتمكن من دخول كنيسة القيامة اليوم في “سبت النور” بسبب حواجز الشرطة التي تنصب على مداخل البلدة القديمة وفي الأزقة المؤدية لكنيسة القيامة في إجراء احتلالي اعتاد المسيحيون على مواجهته سنويا.
وتضيف ساندرا: “رغم خلو مدينة القدس من السياح هذا العام، ومنع مسيحيي الضفة من الدخول للاحتفال معنا بسبت النور، فإننا نتوقع أن تبقى التضييقات على حالها، وستقيد الاحتفالات بمنع المسيحيين من الوصول إلى كنيسة القيامة وساحتها، وتحديد عدد من سيسمح لهم بذلك”.
ومنذ ساعات الصباح الأولى يتجه الآلاف في “سبت النور” نحو البلدة القديمة في القدس آملين الوصول إلى كنيسة القيامة التي تتم فيها أحد أعظم طقوس الديانة المسيحية خلال عيد الفصح وهو “سطوع النور المقدس من قبر السيد المسيح عيسى عليه السلام” وفق اعتقادهم.
وبخروج “النور المقدس من القبر بعد دخول البطريرك إليه لأداء الصلوات وانتظار سطوعه، تصدح حناجر المسيحيين بالقول: “المسيح قام.. حقّا قام”، ويتبارك المصلون بإشعال الشموع التي يحملونها قبل أن تبدأ رحلة النور إلى المدن الفلسطينية والعالم من خلال مندوبي الطوائف.
أهل رباط
الجزيرة نت تجولت في البلدة القديمة بالقدس بدءا من باب العامود، مرورا بسوق خان الزيت وصولا إلى كنيسة القيامة لرصد حركة السيّاح والأسواق قُبيل حلول هذا العيد الذي ترفض العائلات المسيحية الابتهاج بحلوله في ظل العدوان على غزة.
وفي منتصف السوق صادفنا مجموعة سياحية واحدة فقط تتكون من قرابة 40 إثيوبيا كانوا متجهين نحو كنيسة القيامة لإضاءة الشموع وأداء الصلوات في كنيسة الأحباش المجاورة لها، وخلال مرورهم حاول تاجر عصائر طبيعية مقدسي إغراءهم بالشراء منه عبر الترحيب بهم بعدة لغات.
رد السائحون بابتسامة وواصلوا سيرهم، أما التاجر المقدسي فبقي واقفا أمام حانوته بانتظار مرور آخرين، وخلال حديثه للجزيرة نت ظلّ هذا الرجل مبتسما رغم ملامح الإحباط التي تسيطر على وجوه معظم التجار.
قال التاجر ماجد درويش: “بلغة العقل والمنطق لا يمكن لأي تاجر الصمود في القدس حتى الآن مع الانتكاسات المتتالية.. لكن لأننا نعرف قيمة وأهمية الرباط في القدس نصمد رغم كل الصعاب”.
وأضاف درويش في حديثه للجزيرة نت أن أهل القدس هم أهل العز والكرم إذا مرّ عليهم جائع أطعموه، وإذا مرّ عليهم فقير ألبسوه ولا يمكن لمجتمع اعتاد على العطاء أن يستسلم في وقت الأزمات.
وعند سؤاله عمّا يشتريه السيّاح خلال موسم عيد الفصح عادة، قال إن الإثيوبيين يترددون على حوانيت العطارة لشراء البُخور بأنواعها، والأقباط المصريين -الذين لم يصل منهم أحد حتى الآن- يترددون على محلات السكاكر والحلويات، ويشتري معظم السياح المرطبات والمياه بالإضافة للهدايا التذكارية.
القيامة بلا ازدحام
وبالسير إلى الأمام باتجاه كنيسة القيامة بدا الوضع أكثر ألما فلا سيّاح يزدحمون أمام المحال ولا في الساحة المؤدية إلى الكنيسة، ومعظم التجار يجلسون أمام حوانيتهم يراقبون المارة الذين يعرفون أن وجهتهم هي الكنيسة لأداء الصلوات وفي أحسن الحالات شراء رزمة الشموع لإيقادها مع أمنياتهم، أو للتبرع بها لصالح الكنيسة.
المسن أبو أحمد بركات تاجر التحف السياحية يجلس منذ سبعينيات القرن الماضي في محله الذي يبعد عن الكنيسة بضع خطوات، ويقول للجزيرة نت: “منذ اندلاع الحرب أفتح محلي للتهوية فقط خوفا من تلف البضائع داخله.. البيع والشراء معدوم وهكذا هو حالنا مع كل انتفاضة أو هبّة شعبية أو حرب”.
وفي جولة سريعة داخل كنيسة القيامة يمكن للزائر أن يلمس عمق تأثير الحرب على توافد السياحة الدينية إلى مدينة القدس، فلا طوابير طويلة تنتظر الدخول إلى “القبر المقدس” ولا أدلاء سياحيين ينتظرون التجول بمجموعاتهم لتعريفها على مراحل درب الآلام الخمسة التي تقع داخل كنيسة القيامة وفق المعتقد المسيحي.
وعدد شحيح من السياح الإثيوبيين يتجولون داخل الكنيسة ويضيئون الشموع بهدوء ودون صخب لعلّ أمنياتهم في الفصح المجيد تتحقق.
ولعلّ أمنيات ساندرا حنّا وآلاف المسيحيين في القدس تتحقق بحلول السلام في القدس، والراحة والسكينة على من بقي قلبه ينبض من مسيحيي غزة الذين استهدُفت منازلهم وكنائسهم مرارا منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول.