لم تحسب إسرائيل كثيرا حسابات الأعراض الجانبية الخطيرة لحربها الوحشية ضد غزة. لم يكن في حسبانها أنها ستفتح عليها جبهة الرأي العام العالمي بشكل غير مسبوق، وتتسبب في موجة رفض هائلة “للمسلمات السياسية” الأميركية، دخلت حرم الجامعات الأميركية العريقة بشبابها ونخبتها، في استدعاء لسوابق تاريخية كان لها ما بعدها.
ولا تبدو التحركات الاحتجاجية في الجامعات الأميركية المناصرة لفلسطين وضد المجازر الإسرائيلية مجرد رد فعل عفوي، ثمة تراكمات سياسية واجتماعية ونفسية ولدت “حركة تمرد” ضد المؤسسة واتجاهاتها، يبدو الحراك بلا إيديولوجيا، ولكنه شديد التعبير عن عودة الشباب الطلابي إلى معترك الحياة السياسية بتأثيره الواسع وقدرته على التغيير الذي أثبتته خلال عقود سابقة.
يلحظ في هذه الاحتجاجات أنها انطلقت من جامعة كولومبيا بنيويورك (التي بدأت منها أيضا الاحتجاجات ضد حرب فيتنام)، ثم هارفارد (بوسطن) وييل (كونيتيكت) وتافتس(ماساتسوستس) ونورث وسترن (إيلينوي، وهي في معظمها جامعات النخبة من الطلبة المتفوقين، ومن أبناء المتنفذين سياسيا واجتماعيا ، لتنتشر في عديد الجامعات الأميركية ثم تنتقل إلى أوروبا.
وما يجري في الجامعات الأميركية يذكر بحقبة أواخر الستينيات من القرن الماضي في أوساط الطلبة في مختلف أنحاء العالم، والغربي منه خصوصا. كانت فترة غضب وتمرد شبابي على مفاهيم وسياسات وأنظمة، وعلى التسلح النووي والعنصرية والمجازر والاستعمار ومخلفاته. مثلت حرب فيتنام القادح آنذاك، تماما كما أدت المجازر الإسرائيلية في غزة إلى يقظة الجامعات وفئة الطلاب في الولايات المتحدة والعالم.
فيتنام وفلسطين.. قوادح التمرد
كانت الاحتجاجات الطلابية والمدنية في الولايات المتحدة ردة فعل على أزمة السياسة والمجتمع الأميركيين، وأسهمت الحقبة المكارثية في بلورة موجة رفض للمؤسسة، لكن التورط الأميركي في حرب فيتنام (1954- 1975) كان القادح الأكبر في اندلاع موجة رفض واسعة مناهضة للمؤسسة. ففي أكتوبر/تشرين الأول 1967، جرت أضخم مظاهرة شعبية ضد الحرب بمشاركة نحو 35 ألفا، استطاع بعضهم اقتحام مبنى البنتاغون وجرت اعتقالات واسعة.
واستمرت التحركات الاحتجاجية في الجامعات الأميركية، خصوصا في جامعة كولومبيا في أبريل/نيسان 1968 تخللتها اعتقالات وأعمال عنف، حيث استولى الطلاب على 5 مباني بالحرم الجامعي واحتجزوا العميد كرهينة لفترة وجيزة، واستخدمت الشرطة القوة المفرطة، مما أدى إلى إصابة 148 طالبا.
احتج طلاب جامعة هارفارد أيضا ضد الحرب في أبريل/نيسان 1969، وحصلت اعتقالات وأعمال عنف، مما أدى إلى احتجاجات أوسع وإضراب لمدة 8 أيام. وفي مايو/أيار 1970، حدث الاحتجاج الطلابي الأكثر قسوة بجامعة ولاية كينت، حيث قتلت قوات الحرس الوطني 4 طلاب وأصابت 9 آخرين.
وفي 15 مايو/أيار، فتحت الشرطة النار على 100 طالب أسود في كلية جاكسون ستيت بولاية ميسيسيبي، مما أسفر عن مقتل اثنين وإصابة 12 آخرين. وأدت هذه الأحداث إلى أكبر إضراب طلابي في جميع أنحاء الولايات المتحدة، بمشاركة أكثر من 4 ملايين طالب ونحو 400 كلية.
طوال فترة الستينيات من القرن الماضي، كان المجتمع الأميركي والجامعات الأميركية في حالة غليان جراء انقسامات سياسية واجتماعية عميقة في البلاد، وزادت حدتها خلال فترة حرب فيتنام، وقادت فئة الشباب من الطلاب موجة الرفض وإرادة التغيير.
وأسهمت تحركات الجامعات الأميركية المسنودة برجال الفكر والمثقفين ومناضلي حركة الحقوق المدنية في إحداث تغيير كبير بالسياسة الأميركية وضمان العديد من الحقوق والحريات. وفي كتابه “نهاية السلطة” يقول الكاتب هاري روبنس هالدمان (أحد كبار مساعدي الرئيس ريتشارد نيكسون) “إن إطلاق النار على الطلاب في ولاية كينت أدى إلى الانزلاق إلى فضيحة ووترغيت، مما أدى في النهاية إلى تدمير إدارة الرئيس نيكسون”.
وفي عقود لاحقة، شهدت الجامعات الأميركية في محطات عديدة أخرى تحركات احتجاجية لم تكن بضخامة تلك التي حصلت في الستينيات بسبب تغير الظروف السياسية والاقتصادية، لكن الاحتجاجات الحالية المؤيدة لفلسطين، تعد الأضخم في توسعها وردود فعل أجهزة الأمن وإدارات الجامعات منذ تلك التي جرت ضد حرب فيتنام.
طليعة التغيير العالمي
في حقبة الحرب الباردة وصراع الأيديولوجيا، كان اليسار هو الفاعل الرئيسي في التحركات الطلابية الواسعة التي شهدتها الولايات المتحدة وأوروبا خصوصا، والتي ارتبطت بحركة الحقوق المدنية ومطالب النقابات العمالية وحركات السلام والبيئة، وهيمنت عليها المخاوف من حرب نووية وغياب اليقين من مصير العالم.
مثلت احتجاجات الطلاب العارمة في فرنسا في مايو/أيار عام 1968 -التي انطلقت من جامعة ستراسبورغ- تعبيرا عن الغضب وتجسيدا لأفكار الرفض وتعبيرا عن حالة القلق والضياع التي يعيشها ذلك الجيل اقتصاديا واجتماعيا، ورؤيته المتشائمة لعالم مليء بالصراعات المعززة بمخاطر النووي.
عبرت تلك التحركات أيضا عن حيوية ذلك الجيل ورغبته بالتغيير المسنودة بحركة ثقافية وفكرية ومشاركة فلاسفة وكتاب كبار مثل جون بول سارتر وسيمون دي بوفوار، وجيل دولوز، وجان لوك غودار وميشيل فوكو وغيرهم.
لم يؤد قمع الشرطة الفرنسية للمظاهرات إلا إلى مزيد اشتعالها، وبدا أن فرنسا مقبلة على “حرب أهلية” خصوصا مع إضراب عام شنه نحو 10 ملايين عامل، وخروج الرئيس الفرنسي شارل ديغول إلى ألمانيا سرا، لكن الأوضاع استقرت لاحقا بإجراء انتخابات، حيث حصل العمال والطلبة على حقوق ومزايا عديدة.
ولم تكن الاحتجاجات الطلابية مقتصرة على أوروبا والولايات المتحدة فقد أيضا هزّت بشكل ما المعسكر الشرقي وما عرف بالستار الحديدي، خصوصا في تشيكوسلوفاكيا (السابقة) وما عرف بربيع براغ عام 1968 وانتقلت أيضا إلى بلدان أخرى وشكلت عنصر ضغط على الحكومات.
يصف مؤرخون وباحثون الاحتجاجات الطلابية في ستينيات القرن الماضي بأنها “عمل ثوري لتغيير العالم”، لم تكن ثورة كاملة، ولم تمس الدولة العميقة في جوهرها، لكنها أحدثت تغييرا كبيرا في السياسات والنظم ما زالت آثارها بادية.
قلق أميركي وإسرائيلي
رغم تغير الظروف، هناك أوجه تشابه بين أسباب احتجاجات الطلبة في الولايات المتحدة خلال الستينيات وراهنا، فالمجتمع الأميركي أيضا يشهد حالة من الغليان الاجتماعي مقابل الركود السياسي، تبرز في الأحداث العنصرية وفضائح الحملة الانتخابية، وفقدان العملية الديمقراطية لحيويتها بغياب الشباب عنها، إضافة إلى التورط الأميركي غير المباشر بدعم إسرائيل في الحرب على غزة، ودعم أوكرانيا بمئات مليارات الدولارات، والمخاوف من حرب نووية.
هناك أيضا وضع عالمي تعتريه الكثير من عوامل القلق والتشاؤم لدى فئة الشباب الطلابي والطبقات المتوسطة بزيادة معدلات الفقر والتلوث والتغير المناخي وتنامي حدة الصراعات الدولية والتسلح ومخاطر حرب نووية، وهي بشكل ما نفس الأسباب التي حركت احتجاجات الطلبة في عقود سابقة.
في حقبة الستينيات كان كتاب الفيلسوف الألماني هربرت ماركوز (1898-1979) “الإنسان ذو البعد الواحد”، من بين الكتب الأكثر تأثيرا في نزعة الانتفاضات الطلابية، حيث ينتقد فيه “الاستيلاب” أمام سيطرة التكنولوجيا الحديثة وتفاقم النزعة الاستهلاكية التي تفقد الإنسان المعاصر المعنى، ويتجلى ذلك الآن بصورة أكبر في ظل “عولمة النزعة الاستهلاكية”، وسيطرة الشركات.
كانت الحرب الإسرائيلية الوحشية على غزة ودعم الولايات المتحدة غير المحدود لها القادح في احتجاجات الطلاب الأميركيين، وهي مصدر قلق شديد لإسرائيل حاضرا ومستقبلا، لأنها تشير إلى تغير مفصلي في رؤية مجتمع عرف تقليديا بمساندتها، وتعوّد قبول “سرديات” الإدارة الأميركية والبيت الأبيض خاصة تجاه إسرائيل.
وفيما يصف المسؤولون الإسرائيليون التحركات الاحتجاجية بكونها “معادية للسامية” وطالب رئيس وزرائها بنيامين نتنياهو بالتصدي لها، تتوسع رقعة الاحتجاجات لتضم جامعات أخرى، ووصلت إلى بلدان أوروبية، إذ لم تعد هذه التهمة مثيرة للخوف أو مثار مغالطات في الأوساط الأميركية.
وفي هذا السياق رد السيناتور الأميركي بيرني ساندرز على نتنياهو قائلا في إشارة إلى حراك الطلاب: “القول إن حكومتك قتلت 34 ألفا في 6 أشهر ليس معاداة للسامية ولا مناصرة لحركة حماس”.
وتخشى إسرائيل من تصدع كبير في الأوساط المساندة لها، مع تشكل جبهة رفض واسعة وجادة لسياساتها وجرائمها تتخذ بعدا عالميا، وهي تدرك أن التحركات الطلابية التي تتوسع في الولايات المتحدة والعالم بما تمثله من مشاركة لنخبة المجتمع ستكون لها تداعياتها، مثلما أثرت خلال الثمانينيات في تغيير موقف الولايات التحدة، وبالتالي إسقاط نظام الميز العنصري في جنوب أفريقيا.
وتدرك إسرائيل كذلك أن انخراط الجامعات بتنوعها الثقافي والديني والعرقي وبنخبة أساتذتها ومفكريها وطلابها وهم قادة المستقبل، سيؤدي إلى آثار راهنة وبعيدة المدى في التصدي لسردياتها ومخططاتها وأنها بصدد خسارة لوبياتها وكذلك معركة فضح تزييف الوعي الذي كان مصدر قوتها.
كما تجد السلطات الأميركية نفسها في حالة من الحرج الشديد باعتمادها الحل الأمني في التعامل مع محتجين سلميين داخل الجامعات، واعتقال مئات منهم، وعدم قدرتها على احتواء الاحتجاجات، وهو ما سيكون له تأثيره بشكل ما على علاقتها بإسرائيل راهنا ومستقبلا.
قد تكون الاحتجاجات الطلابية بالجامعات الأميركية ظرفية، وقد لا تصل إلى حجم وقوة تأثير تلك التي حصلت أواخر الستينيات من القرن الماضي، لكنها في رفضها للجرائم الإسرائيلية وانحيازها للحق الفلسطيني، تعبر عن وجود منظومة عالمية أخرى أكثر عدلا واتساقا مع إنسانيتها يمثلها جيل المستقبل، وهي تحركات ستكون لها آثارها وتداعياتها.