إسطنبول- كل عام من شهر رمضان المبارك، يتجه الأتراك بقلوب مفعمة بالإيمان والشوق إلى المدينة المقدسة مقبلين نحو المسجد الأقصى في رحلة إيمانية تملأ الروح سكينة وقربًا من الخالق، رغم عراقيل وإجراءات إسرائيلية مكثفة، متخذين منها مسارًا للتأمل والتقرب إلى الله، كما يصفونها.
وتعود مواظبة الأتراك على زيارة الأقصى إلى تمسكهم بعادة “تقديس الحج (بمكة المكرمة)” نسبة إلى زيارة مدينة القدس بعد أداء هذه الفريضة، إذ كانت زيارة المسجد الأقصى ركناً أساسياً اعتاده الحجاج قبل الذهاب إلى مكة المكرمة أو خلال رحلة العودة منذ العهد العثماني، كما يرون أن زيارة القدس “تعادل نصف حج” مما يدفعهم للحرص على الذهاب في شهر رمضان المبارك.
وفي خطوة تعكس الإقبال الروحي والثقافي للشعب التركي نحو القدس، قررت وزارة الأوقاف والشؤون الدينية عام 2021 تغيير اسم رئاسة خدمات العمرة إلى “رئاسة خدمات زيارة العمرة والقدس” مؤكدة بذلك على الارتباط العميق والمتجدد بين العمرة وزيارة هذه المدينة المقدسة.
أعداد متزايدة
وأخذت أعداد الزوار الأتراك لمدينة القدس في الزيادة لاسيما بعد أن أصدرت وزارة الشؤون الدينية قرارا عممته على المواطنين العازمين على الحج بتقديس حجتهم عام 2015 ووضعت هدفاً للوصول بعدد زوارها إلى 100 ألف مواطن سنوياً، بجانب دعوات رئيس الجمهورية رجب أردوغان المتكررة منذ عام 2017 لشعبه بتكثيف زياراتهم لهذه المدينة.
وبحسب إحصائيات الهيئات الدينية فإن أكثر من 15 ألفا و800 تركي زاروا القدس عام 2016، وأن العدد ارتفع إلى أكثر من 43 ألفاً بعد عامين، لتواصل الأعداد في الارتفاع بعد انتهاء أزمة كورونا وتصل إلى 50 ألفاً عام 2022.
وتشير التوقعات لزيادة كبيرة في أعداد الزوار الأتراك لمدينة القدس والمسجد الأقصى خلال العام الحالي، إذ يلفت مختصون إلى أن العام الجاري يحمل خصوصية كبيرة لدى الأتراك في ظل العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة المستمر منذ أكثر من 6 أشهر والذي راح ضحيته أكثر من 32 ألف فلسطيني وإصابة أكثر من 74 ألفا آخرين، معظمهم من الأطفال والنساء، وهو ما يدفعهم لـ “تقديس جهادهم” بدلاً من “تقديس الحج”.
هوية وقدسية
في حديثها للجزيرة نت، حاولت سحر كاراداغ (24 عاماً) -التي تستعد لقضاء العشر الأواخر من شهر رمضان هذا العام في رحاب المسجد الأقصى- وصف شعورها قائلة “زيارتي الأولى للقدس كانت في طفولتي، حيث صليت في المسجد الأقصى وتجولت في زوايا البلدة القديمة، وزرت قبر النبي داود وبحيرة لوط ومقام موسى، هناك شعور لا يزال يعيش داخلي منذ تلك الرحلة، زرع حنيناً متجدداً وشوقاً دائماً للعودة إلى ذلك المكان”.
وبشأن توقيت زيارتها، أوضحت أنها كانت تخطط لإجراء زيارتها للمسجد الأقصى العام المقبل بعد إتمام دراستها في كلية الدراسات الإلهية. ولكن، الأحداث الجارية في قطاع غزة والمجازر التي يرتكبها الاحتلال الإسرائيلي ضد الفلسطينيين جعلتها تعيد التفكير في الزيارة باعتبارها واجباً على كل مسلم قادر، بدلاً من كونها مجرد رحلة دينية.
وأضافت “ربما لا أمتلك القدرة على إحداث تغيير كبير في هذا العالم، وقد لا أستطيع فعل الكثير من أجل أهالي غزة، ولكني أرى في زيارتي للمسجد الأقصى نوعاً من الجهاد الذي يعتبر فرضاً علي وعلى كل قادر. فبمجرد وجودنا هناك، نحاول الحفاظ على هوية المكان وإبراز قدسيته وأهميته بالنسبة لنا”.
وتطرقت كاراداغ إلى التحديات المرتبطة بالزيارة، مشيرة إلى المعوقات التي واجهتها كإقناع والديها بنيتها الذهاب، وقالت “من المعروف حجم الظلم والقمع اللذين يمارسهما جنود الاحتلال ضد المصلين بالمسجد الأقصى، مما جعل من الصعب إقناع والديّ بالفكرة، لكن بعد إصرار، تمكنت من كسب موافقتهما. وأعتقد أن التحديات الأكبر تنتظرني داخل أسوار المسجد وليس في رحلتي إليه”.
تسهيلات تركية
تواصل الحكومة التركية تقديم التسهيلات والدعم اللازم لتشجيع مواطنيها على زيارة مدينة القدس المحتلة، على الرغم من الخلافات التي كانت تدور سابقاً حول شرعية الزيارة في ظل وجود الاحتلال، إلا أن كثيراً من الشيوخ الأتراك أفتوا بجواز الزيارة، إذ تأتي في إطار مساندة ودعم الشعب الفلسطيني.
وتفتح وزارة الأوقاف والشؤون الدينية باب التسجيل لرحلات قصيرة إلى القدس بشكل متكرر خلال العام، بالإضافة إلى دعمها المستمر لشركات السياحة المنظمة للرحلات الجماعية كالتعاقد مع مرشدين فلسطينيين معتمدين لدى الوزارة وتسهيل استخراج الأذونات الرسمية اللازمة والتنسيق المستمر مع الجانب الفلسطيني.
ويعبر الزوار الأتراك عن تفانيهم وإصرارهم للوصول إلى المسجد الأقصى من خلال رحلة معقدة ومليئة بالتحديات، فيبدؤون مسيرهم بالسفر إلى الأردن، متحملين مشاق السفر ومتخطين العراقيل التي تعترض طريقهم.
ومن هناك، يستكملون الجزء الأصعب من الرحلة براً، حتى يصلوا إلى وجهتهم النهائية، إذ يختارون هذا المسار المضني على التعامل مع التحديات التي قد تواجههم بالمطارات الإسرائيلية، مما يعكس عمق التزامهم ورغبتهم في زيارة هذا المكان المقدس.
وفي المسجد الأقصى، تحدثت الجزيرة نت مع عضو في نقابة المعلمين في إسطنبول محمد فاتح سيرتكاي الذي أشار إلى قدومه برا عبر الأردن.
واعتبر سيرتكاي أن “أعظم خير يمكن فعله للقدس هو زيارتها” داعيا الأتراك إلى زيارة المسجد قائلا “ننتظركم جميعاً في المسجد الأقصى والقدس”.
قيود إسرائيلية
وعن التضييقات التي تفرضها قوات الاحتلال على الزوار الأتراك، يقول قدير أجون مالك شركة “عرفان للسياحة” -في حديثه للجزيرة نت- إنه من الملاحظ زيادة القيود على الزوار القادمين من تركيا على وجه الخصوص لاسيما السنوات الأخيرة، كالانتظار لساعات طوال في المطارات الإسرائيلية دون توضيح الأسباب، بالإضافة إلى صعوبة استخراج الأذون اللازمة للدخول.
وأضاف أجون أن الزوار الأتراك يذهبون للقدس بمشاعر محملة بالاشتياق وحالة روحانية جميلة لا يعكرها سوى رؤية جنود الاحتلال الإسرائيلي في جميع أزقة القدس وعلى أبواب المسجد الأقصى وكثرة حواجز التفتيش والتحقيق الموجودة في مختلف أنحاء هذه المدينة المقدسة.
وتطرق إلى كلفة السفر من تركيا إلى القدس، مؤكداً أن الأسعار تبقى في متناول اليد مقارنة بالرحلات من دول أخرى، حيث يتراوح متوسط التكلفة حول ألف دولار أميركي لفترة تشمل 3 ليال و4 أيام.
وتوقع أجون، زيادة التضييقات على الزوار الأتراك خلال العام الحالي لاسيما في ظل الوضع التشديدات الأمنية المكثفة التي تتبعها قوات الاحتلال بالتزامن مع العدوان على قطاع غزة، بجانب توتر العلاقات الدبلوماسية التركية الإسرائيلية منذ السابع من أكتوبر/تشرين الثاني الماضي.