غزة – ما إن ترتفع أشعة الشمس في السماء مؤذنة ببدء فترة الظهيرة، حتى يسرع إسماعيل غنيم بمغادرة خيمته، ويخطو نحو المسجد القريب من مخيم الإيواء، الذي يُقيم فيه بمدينة دير البلح وسط قطاع غزة، هربا من الحر الشديد.
ويخشى غنيم (71 عاما) تأثير الحر الشديد على صحته، خاصة مع معاناته من مرض ضغط الدم المرتفع، ويقول إن الاعتكاف بالمسجد طوال فترة النهار هو خياره الوحيد في ظل عدم امتلاكه أي وسائل للتخفيف من حرارة الجو.
لكنّ إصابة غنيم بعدة انزلاقات غضروفية في ظهره لا تمكّنه من الذهاب إلى المسجد يوميا، فيضطر أحيانا إلى البقاء في الخيمة واستخدام طبق بلاستيكي كمروحة يدوية لتلطيف الجو قليلا.
خيام أفران
ومع انتهاء فصل الشتاء وبدء الربيع، تُحوّل أشعة الشمس الحارقة خيام النازحين إلى دفيئات تحتبس داخلها الحرارة، وتجعلها خلال ساعات النهار تشبه الأفران.
ويخشى مئات الآلاف من النازحين الفلسطينيين تأثيرات الحر الشديد داخل الخيام على صحتهم، ولذلك يغادرها الكثير منهم خلال النهار نظرا لعجزهم عن توفير الحلول اللازمة لتبريدها. ويقول غنيم للجزيرة نت “إذا بقيتُ في الخيمة، أخاف على نفسي من شدة الحر”.
وتجلب الحرارة مشكلة أخرى تتمثل في الذباب والحشرات التي تنتشر داخل الخيام بأعداد كبيرة، محوّلة حياة ساكنيها إلى جحيم. ويقول غنيم إن الذباب ينشط مع ارتفاع الحرارة خلال فترة الظهر وحتى غروب الشمس، ويضيف أنه مؤذٍ جدا لكنهم مضطرون للتعايش معه.
وقبل أسبوعين نفّذ متطوعون مبادرة لرش خيام النازحين بمبيد حشري للقضاء على الذباب، لكنه “عاد من جديد”، بحسب غنيم.
ولا تجد عبير أبو عيد مهربا من الحر الشديد والذباب في خيمتها سوى اللجوء إلى مستشفى شهداء الأقصى بمدينة دير البلح، حيث تقضي نهارها في الأماكن المُظللة إلى حين اختفاء أشعة الشمس وبدء حلول المساء. وتشير، وهي تعيش في الخيمة برفقة 11 شخصا هم زوجها وأبناؤها وأحفادها، إلى أن الحر الشديد أثّر على حالتها النفسية تأثيرا سيئا.
وتقول للجزيرة نت “من الصبح لا أطيق نفسي ولا أولادي بسبب الشوب (الحر)، ولا يوجد لدي خُلق (مزاج) أتكلم مع أولادي، والله مش قادرين، لا توجد طاقة، أنا من القهر أصيّح (أبكي) دون سبب”. كما يزيد الذباب من معاناتها الكبيرة، إذ يحرمها من النوم حيث تصحو كل يوم بلسعاته، كما لا تستطيع أخذ قيلولتها ظهرا للسبب ذاته، وفق وصفها.
هروب
وتؤكد عبير “أشعر أن كل شيء بالخيمة غير نظيف بسبب الدبّان (الذباب)، الحياة صعبة جدا جدا، الله يلطف بنا، لم يحل الصيف بعد، كيف (يكون الأمر) خلاله؟”.
وتخشى على أطفالها من لدغات الحر، وتوضح أنها تنظر إليهم وهم يتقلبون من شدته، وتشعر أنهم سينفجرون منه وأنها تخاف عليهم من الموت “لا قدر الله، لأنه لا يوجد أي أداة تبريد، لا مروحة ولا أي شيء”.
وذكرت أن طفليها حمزة (7 أعوام) وفايزة (8 أعوام) ظهر عليهما طفح جلدي واحمرار وحبوب صغيرة للغاية بسبب الحر الشديد، مما دفع والدهما لأخذهما للاستحمام بماء البحر، إذ يعتقد السكان أن ماءه المالح يعالج الكثير من الأمراض الجلدية.
في ظل خيمة جارتها، كانت سعاد المملوك تحتمي من شدة الحر والذباب بعد أن هربت من مسكنها المجاور الذي وصفته بالفُرن. وأوضحت للجزيرة نت أنها هاربة من الخيمة إلى هذا الجزء من الظل لأنها لا تستطيع البقاء في الخيمة، وأنها تبقى طوال النهار هاربة وترجع في الليل.
وتسببت الظروف القاسية التي تعيشها سعاد، النازحة من حي الشجاعية بمدينة غزة، منذ نحو 7 شهور، في تدهور حالتها النفسية، حيث تسبب ضغط الدم المرتفع الذي تعاني منه بأذى لعينها التي تؤلمها ولا تستجيب للعلاج، كما تقول. وانتقلت الحالة النفسية الصعبة لأفراد أسرتها، الذين أصبحوا -وفق سعاد- عصبيين ولا يتحملون بعضهم بعضا.
وفاة وإصابات
ويكشف الطبيب محمد ريّان رئيس قسم الطوارئ والاستقبال في مستشفى شهداء الأقصى بمدينة دير البلح، أن الحر الشديد داخل الخيام يتسبب في العديد من الإصابات والوفيات.
ولفت، في حديث للجزيرة نت، إلى أن قسم الطوارئ بالمستشفى يستقبل يوميا إصابات بسبب ارتفاع درجات الحرارة داخل الخيام، كما تصله حالات وفاة بين كل فترة وأخرى. وذكر أنه لا يمتلك في الوقت الحالي إحصائية دقيقة لعدد الوفيات جراء مضاعفات العيش داخل الخيام وارتفاع درجات الحرارة، متوقعا إصدار الإحصائية قريبا.
وبحسب ريّان، فإن أكثر المتضررين هم كبار السن وأصحاب الأمراض المزمنة ومرضى السرطان وفقر الدم والأطفال وأصحاب الأمراض التنفسية.
كما لفت إلى أن مشكلة ارتفاع درجات الحرارة داخل الخيام متشعبة، حيث يرتبط بها انتشار الذباب والحشرات بشكل كبير جدا كونها تفضل البيئة الحارة، مما يتسبب في زيادة الأمراض، وقد يتسبب في انتشار الأوبئة خاصة مع الاكتظاظ السكاني الكبير داخل مراكز الإيواء.
ويؤكد رئيس قسم الطوارئ والاستقبال في مستشفى شهداء الأقصى أن ارتفاع درجات الحرارة خطير وقد يسبب الموت، حيث وصلتهم حالة وفاة لفتاة يوم 25 أبريل/نسيان الماضي جراء تعرضها لضربة شمس بعد أن أجبرها جيش الاحتلال على المشي مسافة طويلة.
وأُنشئت الخيام خلال فصلي الخريف والشتاء الماضيين لتؤوي مئات الآلاف من النازحين الذين أجبرتهم إسرائيل على النزوح من منازلهم في شمالي القطاع، أو أولئك الذين هُدمت منازلهم.
ولا تبدو في الأفق أي حلول لاستبدال الخيام بمساكن قادرة على حماية النازحين من ارتفاع درجات الحرارة. وعلى النقيض من ذلك، يخشى مراقبون أن تتفاقم المشكلة إذا قررت إسرائيل اجتياح مدينة رفح التي تضم أكثر من مليون نسمة، حيث تُخطط لتهجير سكانها ودفعهم للإقامة في مراكز إيواء كبيرة مكونة من خيام.
ويختم الطبيب ريّان حديثه بالقول إن هذه الخيام “غير صالحة للعيش الآدمي، وللأسف لا يوجد حاليا أي حلول لمواجهة مشكلة الحر داخلها”.