باريس- بعد معركة سياسية ونسوية طويلة الأمد، أصبحت فرنسا -أمس الاثنين- أول دولة في العالم تدرج الإجهاض الطوعي “آي في جي” (IVG) في دستورها صراحة، بعد موافقة غالبية ساحقة من النواب وأعضاء مجلس الشيوخ في الكونغرس بقصر فرساي، وسط تصفيق دام عدة دقائق على قرار وصف بـ”التاريخي”.
وتميز تمرير النص النهائي لهذا القرار بتصويت الأغلبية الساحقة، التي تخطت بأكثر من الثلاثة أخماس المطلوبة لتعديل النص، حيث صوت 780 برلمانيا لصالحه مقابل 72 صوتا معارضا فقط، ينتمي أغلبهم لليمين واليمين المتطرف.
وعلى عكس الولايات المتحدة الأميركية ودول أوروبا الشرقية، تحدد المادة 34 من الدستور “شروط ممارسة الحرية المكفولة للمرأة في اللجوء إلى إنهاء الحمل طوعا”، ونالت هذه الخطوة إشادة فئة من الشعب الفرنسي، في حين لاقت رفضا شديد اللهجة من فئة أخرى.
يوم حداد
على بعد عشرات الأمتار من قصر فرساي، تجمع مئات المتظاهرين للتعبير عن رفضهم القاطع لدستورية الإجهاض، لأنه “يعاقب أطفالا لم يولدوا ويحرمهم من الحياة”، موجهين في الوقت ذاته انتقادات لاذعة للحكومة الفرنسية “التي تتهرب من مسؤولياتها تجاه النساء الحوامل”، على حد تعبيرهم.
واعتبر نيكولا تاردي جوبيرت، رئيس منظمة “من أجل الحياة” التي دعت للمظاهرة، التصويت على النص بأغلبية كبيرة “هزيمة للفكر، واندفاعا صارخا نحو القتل المتهور، وفقا للأجندة التي وضعها أقصى اليسار والتي أقرتها الحكومة، ودعمتها جماعات الضغط القوية”، مضيفا أنهم “يريدون إسكاتنا ليتحكموا في مستقبل أجيال بأكملها”.
وقال جوبيرت في حديثه للجزيرة نت إن “الحكومة تهدف إلى تسهيل الوصول إلى الإجهاض، بدل معالجة المشاكل التي تعاني منها النساء الحوامل، وتوفير الدعم الصحي والمالي اللازم لمساعدتهن”، مؤكدا أن “الطريق إلى الشرف يبدأ من عدم التواطؤ مع ثقافة الموت”.
وأعربت رئيسة جمعية “الأسرة الكاثوليكية” ألين فيجورنيه عن رفضها الشديد لدستورية ضمان حرية الإجهاض، “لأننا نؤمن بأن الأسرة هي المكان الذي نحمي فيه الأضعف، ولا نوافق على اعتماد الحق بالقتل داخل مجتمعاتنا”.
ولفتت فيجورنيه التي تمثل أكثر من 25 ألف أسرة كاثوليكية، في مقابلة مع الجزيرة نت، إلى أن تحريم القتل موجود في كل الأديان بدون استثناء، معتبرة أن “حمل الورود البيضاء ضد ماكرون وحكومته يشبه وقوف الورود البيضاء في وجه النازية بثلاثينيات القرن الماضي”، على حد قولها.
وأوضح أليكسي، وهو طبيب نساء وتوليد فرنسي، أن “النساء الحوامل عادة ما يشعرن بالخوف في بداية الحمل، وهو أمر طبيعي، لكن ما أجده غير مقبول أو منطقي هو عدم توفير المساعدة النفسية اللازمة لهن خلال هذه المرحلة بالتحديد، إذ بدلا من القيام بذلك، تفكر الحكومة في إعطاء الحق الصريح بقتل أجنتهن”.
وتابع بالقول خلال حديثه للجزيرة نت “من تجربتي الخاصة، حاولت الكثير منهن التراجع عن قرارهن في الإجهاض، لكن ذلك يأتي متأخرا ويكون الأوان قد فات، واليوم، ستتحمل الحكومة هذا الذنب أيضا”.
فخر فرنسي
ومن أمام برج إيفل في باريس، اجتمع الداعمون لدستورية الإجهاض أمام شاشة عملاقة لمتابعة أحداث جلسة البرلمان، رافعين شعارات “جسدي، خياري” و”الإجهاض قانوني” باللغات الفرنسية والإسبانية والإنجليزية.
كما أشاد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في تغريدة على منصة “إكس” بنتيجة التصويت، بتعبيره “الفخر الفرنسي، رسالة عالمية”، مشيرا إلى أن الاحتفالية الرمزية لختم الدستور ستكون متاحة للجميع في الثامن من مارس/آذار الجاري، الذي يوافق اليوم العالمي لحقوق المرأة.
ويُشار إلى أن قانون “سيمون فيل” الصادر عام 1975 قد ألغى تجريم الإجهاض مؤقتا، ونظمه قبل أن يجعل أحكامه نهائية في ديسمبر/كانون الأول 1979. ومنذ ذلك الوقت، تم تقديم عدة نصوص تضمن الحق في الإجهاض، أبرزها قانون تمويل الضمان الاجتماعي لعام 2013 الذي يمكن المرأة من إجراء عمليات إجهاض مجانية، وآخرها قانون عام 2022 الذي مدد المدة القانونية للجوء إلى الإجهاض من 12 إلى 14 أسبوعا.
حسابات سياسية
ويبدو أن دستورية الإجهاض في فرنسا لا تقتصر على كونها مسألة مجتمعية فقط، إذ تصل حساباتها إلى ما هو أبعد من ذلك، فبعد الترحيب بتصويت الكونغرس من رئيس الجمهورية ومناصريه، تأسّف رئيس حزب التجمع الوطني اليميني المتطرف جوردان بارديلا عن “تراجع الحريات الأساسية للمرأة”.
وأضاف بارديلا لوسائل إعلام محلية أن “أمن النساء في الأماكن العامة يتراجع تحت وطأة التراخي القضائي وارتفاع الضغط الديني، فضلا عن صعوبة الحصول على الرعاية الصحية والدواء”.
وانتقد زعيم حزب “فرنسا الأبية” جون لوك ميلانشون في تغريدة على منصة “إكس” تعمد رئيس الوزراء غابرييل أتال بجعل مبادرات النائبة عن حزبه ماتيلد بانو “غير مرئية” خلال خطابه، ووصفه بأنه “مثير للشفقة”.
وعند سؤاله عن غياب المسلمين المقيمين في فرنسا عن المظاهرات الرافضة لقانون الإجهاض، لم يستغرب الأمين العام للجمعيات الإسلامية في باريس محمد هنيش من ذلك، موضحا أن “المسلمين لم يتحركوا قبل 3 أعوام ضد قانون الانفصالية الذي يمسهم بشكل مباشر، وقانون الإجهاض يعتبر ضد الجميع، بغض النظر عن المعتقدات الدينية”.
ويرى هنيش في حديثه للجزيرة نت أن دستورية الإجهاض عبارة عن “حملة دعائية” تستخدمها الحكومة لتحويل تركيز الرأي العام عن الأمور الأكثر أهمية في البلاد، و”منافسة سياسية” تهدف من خلالها الأحزاب إلى استقطاب أكبر عدد من الأصوات في الانتخابات المقبلة، وخاصة اليمين المتطرف “الذي من المتوقع أن يتسلم مقاليد الحكم قريبا”.
ولفت الأمين العام للجمعيات الإسلامية إلى أن انتقال السلطة إلى اليمين المتطرف يُعد الخطر الأبرز بالنسبة للمساجد والجالية المسلمة التي تعاني منذ أكثر من 5 سنوات من شتى أنواع التضييقات و”الإسلاموفوبيا”.
وختم بالقول إن “المسلمين في وضع حرج، وليس لديهم الوقت الكافي للتعامل مع مشاكل تهم المجتمع الفرنسي بأكمله والأديان الأخرى، ويحاولون التركيز على المشاكل الحقيقية التي تواجههم يوميا”.