هي إحدى أهم الانتخابات في العالم، إن لم تكن الأهم. فالانتخابات الأميركية ليست مجرد انتخابات ينحصر تأثيرها داخل دولة بعينها، بل يمتد نحو العالم بأسره دون مبالغة. لا يعني ذلك بالتأكيد أن الفائز سيغير وجه العالم الذي نعرفه بصورة جذرية، على اعتبار أن الولايات المتحدة دولة مؤسسات ولها اتجاهات عامة تهدف للحفاظ على مصالحها خارج أراضيها، لكن الفائز حتما ستكون له وجهة نظر ومسار محدد للتعامل مع قضايا بعينها.
هذا ما يجعل كثيرا من دول العالم تنظر إلى الانتخابات الأميركية من العدسة الخاصة بها، بما يمكن أن يخدم قضاياها ولو جزئيا على المديات القصيرة والمتوسطة والبعيدة، فتفضل مرشحا على آخر، وتحاول عبر ما تمتلكه من أدوات أن تؤثر في النتيجة النهائية، بما يحقق تصوراتها ورؤاها.
اقرأ أيضا
list of 2 items
هل ما تزال أميركا “أعظم قوّة على وجه الأرض”؟
أميركا التي لم يُخلق مثلها في البلاد
end of list
لذلك، تشهد الانتخابات هذا العام عددا متزايدا من “التدخلات الأجنبية”، التي تهدف للتأثير في السباق الانتخابي وتوجيه الناخبين عبر التدخلات السيبرانية على وجه الخصوص.
فبحسب تقرير وكالة الاستخبارات المركزية (سي آي أي)، تتصدر روسيا قائمة أكثر الدول نشاطا للتأثير في الانتخابات الرئاسية 2024، وتأتي الصين في المرتبة الثانية، في حين تمارس إيران نشاطا غير مسبوق هذا العام مقارنة مع الدورات السابقة.
في المقابل، تنفي كل من روسيا والصين وإيران تلك الاتهامات. إلا أن وكالة الاستخبارات المركزية لم تكن وحدها هي التي صدّرت هذا الادعاء، حيث شهدت الأيام الماضية سلسلة من الاتهامات المباشرة التي أطلقتها عدة جهات حكومية وغير حكومية، ربما يكون أبرزها اتهامات الرئيس السابق والمرشح الحالي دونالد ترامب، الذي اتهم طهران باختراق حملته الانتخابية وصولا لمحاولة اغتياله، في حين تُتَّهم روسيا والصين بتوظيف البرامج السيبرانية ضد المرشحين.
وعند هذه النقطة، سنبدأ الحديث عن التدخل الإيراني باعتباره الأحدث والأكثر اتصالا بالتوترات التي تشهدها المنطقة اليوم، ثم ننتقل إلى روسيا ثم الصين، لمحاولة فهم طبيعة تلك “التدخلات” وأهدافها.
إيران واتهامت التدخل
بحسب عدد من المصادر الغربية، لا تمثل اتهامات إيران بالتدخل في الانتخابات أمرا جديدا. ففي عام 2020، تحدثت صحيفة الغارديان البريطانية عن اختراق استهدف وقتها البريد الإلكتروني الخاص لأحد أكبر مساعدي الرئيس السابق والمرشح الجمهوري الحالي دونالد ترامب، في حملته الانتخابية 2020، وهو روجر ستون. وأشارت الصحفية إلى أن من يقف وراء تلك الهجمة هي مجموعة قرصنة تديرها وحدة استخبارية تتبع للحرس الثوري الإيراني.
وذكرت الصحيفة ذاتها أنه في عام 2022 “تمكن فريق قراصنة إيرانيين يتبعون للحرس الثوري الإيراني من استهداف مسؤول سابق في إدارة الرئيس الحالي جو بايدن وذلك باختراق حساب البريد الإلكتروني الخاص به”.
وبعد الوصول إلى حساب ذلك المسؤول والسيطرة عليه، أرسل القراصنة رسالة بريدية إلى مجموعة منتقاة من الأشخاص الذين يُعرف عنهم انتقادهم لإيران داخل الولايات المتحدة، طالبين منهم مراجعة كتاب يدّعون أنه عن “البرامج النووية لإيران وكوريا الشمالية”.
وكانت الرسالة تضم رابطا مُموهًا يُظهر أنه سيحيل مباشرة إلى ذلك الكتاب، لكنه في الحقيقة يحمل “برنامجا خبيثا” يُمكّن القراصنة من الوصول غير المقيد إلى أجهزة الكمبيوتر لكل من يفتح الرابط.
لم تدم تلك الحادثة طويلا، إذ تشير الغارديان وعدد من الصحف الأخرى إلى أن عملية الاختراق كُشفت مبكرا من خلال تحذير وصل إلى مكتب التحقيقات الفدرالية من محاولة اختراق متطورة للغاية، وهو ما قاد إلى سلسلة من التنبيهات والاحترازات لمنع تفشي الاختراقات.
أما عن الانتخابات الحالية، فقد نقل موقع “سي أن أن”، تعرض حملة ترامب لقرصنة إلكترونية في أغسطس/آب من العام الحالي، ترتّب عليها تسريب وثائق خاصة بحملته الانتخابية إلى وسائل إعلام أميركية، لكن الوسائل المذكورة امتنعت عن نشر تلك الوثائق بحسب ما نقلت “سي أن أن”.
في الحالات السابقة، اتجهت أصابع الاتهام نحو طهران. إذ أشار المتحدث باسم حملة ترامب الرئاسية، ستيفن تشيونغ، يوم 10 أغسطس/آب من هذا العام، إلى قيام “عملاء إيرانيين بتكثيف محاولاتهم للتأثير في الانتخابات الرئاسية الأميركية ومراقبتها من خلال إنشاء منافذ إخبارية مزيفة تستهدف الناخبين الليبراليين والمحافظين”، بحسب تعبيره.
ورغم ما سبق فإن مكتب التحقيقات الفدرالي اتجه إلى القول بأن التحرك الإيراني في الانتخابات الرئاسية الحالية 2024 يمثل حالة غير مسبوقة من حيث اتساع نطاقها وزخمها.
فالاختراقات التي جرت لمسؤولين أميركيين سابقين وحاليين، وفق الاتهامات الأميركية، ستزيد من مخاوف واشنطن بأن طهران قد حصلت على معلومات استخبارية أو وثائق وملفات، لا يُعلم حجمها ولا سريتها ولا قدرتها على التأثير في السنوات المقبلة، ولا متى ستقرر إيران التلويح بها فضلا عن استخدامها.
كل ذلك والمصادر الصحفية التقنية تشير إلى أن فريق إيران السيبراني لا يمكن مقارنته بما تمتلكه الصين وروسيا من معدات وخبرات وتقنيات متطورة. إلا أن خبراء أشاروا إلى أن طهران تمكنت من تكوين فريق سيبراني قوي، وتم الاستثمار فيه خلال السنوات القليلة الماضية. ويدل على ذلك ما أشار إليه عدد من الدراسات الأخيرة لمعهد واشنطن لسياسة الشرق الأوسط، التي ذكرت أن وتيرة العمليات الإيرانية في ارتفاع منذ اغتيال القائد السابق للحرس الثوري الإيراني قاسم سليماني في 2020 بضربة أميركية.
ورفضت إيران المزاعم والاتهامات السابقة كلّها، حتى إن المتحدث السابق باسم الخارجية الإيرانية، ناصر كنعاني، وصف هذه الاتهامات بأنها “حاقدة ولها استهلاك داخلي في أميركا”، وقال كنعاني إن الإدارة الأميركية تأتي في طليعة الدول التي “تمارس تدخلات غير قانونية في الشؤون الداخلية للدول المستقلة، ولديها سجل طويل من التصرفات المخربة”.
إيران وعودة ترامب
رغم نفي كنعاني، فلا شك أن إيران تحديدا كانت من أكثر الدول تأثرا بفوز ترامب عام 2016، فمسار الاتفاق النووي كان يشق طريقه، قبل أن يتبوأ ترامب مقعد البيت الأبيض، ويجعل الضغط على النظام الإيراني من أولوياته الخارجية. ظهر ذلك في الانسحاب من الاتفاق النووي، وتطبيق ما عُرف حينها بسياسة “الضغط الأقصى”، إضافة إلى اغتيال قاسم سليماني في بغداد.
كل هذا التاريخ، جعل عضو اللجنة الاستشارية للرئيس ترامب لعام 2024، غبريال صوما، يكرر تلك المزاعم، بأن طهران تقف وراء التحريض على الرئيس ترامب، وأنها حاولت اغتياله، وفق حديثه.
وأكد صوما، أنه إذا فاز ترامب في الانتخابات الأميركية القادمة، فإنه سيفرض عقوبات صارمة على إيران لم نشهد لها مثيلاً، وقال: “سنقوم بشل الاقتصاد الإيراني، وحينها لن تتمكن من مساعدة المنظمات في الشرق الأوسط أو حتى التدخل في الشأن الأميركي أو القيام بأي عمل ضد حلفائنا في الشرق الأوسط”.
وتشير العديد من التحليلات إلى أن وصول ترامب إلى البيت الأبيض، سيعني أن العلاقات الثنائية بين الأخير وطهران ستزداد حدة توترها عما كانت عليه في عهد الإدارة الديمقراطية الحالية، وهو ما يعني أن طهران تفضل فوز مرشح ديمقراطي، لاعتقادها أن فوز ترامب سيعمق مشكلاتها مع الولايات المتحدة، إلا أن الكاتب والباحث في الشأن الأميركي، إيلي يوسف، يرى أن هذه التقديرات تحمل أوهاما وآمالا غير واقعية، لأن ما يحكم السياسة الأميركية ليست المصالح الحزبية.
من جهتها، تطمح إيران لاستعادة الاتفاق النووي، لأن ذلك سيعني فك عزلتها وحصارها الاقتصادي الذي كانت له آثار سلبية على الوضع الاقتصادي والاجتماعي الداخلي. لكن هذه الطموحات، ستكون مستحيلة إذا ما فاز ترامب.
وأيا ما يكن الفائز، فإنه يبدو بحكم البديهي أن كلا الحزبين يجمعان على أنه لا يمكن السماح لإيران بالحصول على سلاح نووي، وإن اختلفا في طريقة التعاطي مع هذه المسألة.
على الجانب المقابل، فإن ما أعلنه وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن في يوليو/تموز من العام الحالي، من أن طهران على وشك أسبوع أو اثنين من امتلاك سلاح نووي إذا ما قررت ذلك، يعني أن طهران استثمرت انسحاب أميركا في عهد ترامب من الاتفاق النووي في تسريع جهودها النووية.
وإذا امتلكت إيران السلاح النووي، فإن ذلك سيعني تغيرا في معادلات الردع والصراع بين الدولتين، أيا ما يكن الفائز في الانتخابات الأميركية المقبلة.
رسميا، ترفض إيران باستمرار الاتهامات الأميركية بتدخلها في رئاسيات أميركا 2024، ففي آخر بيان أصدره المتحدث المتحدث باسم الخارجية الإيراني، إسماعيل بقائي، اعتبر أن “هذه الادعاءات لا أساس لها من الصحة وغير مقبولة بتاتا، وأن بعض الساسة والمؤسسات في الولايات المتحدة يستخدمونها لأغراض سياسية”.
وجاء في بيان الخارجية الإيرانية، أن “الحكومة الأميركية التي لها تاريخ طويل من التدخل غير القانوني في الشؤون الداخلية للدول الأخرى ليست في وضع يسمح لها بتوجيه مثل هذه الاتهامات إلى دول أخرى”.
وردًّا على التقرير السنوي لوزارة الأمن الداخلي الأميركية، نفى بقائي “الادعاءات التي تتهم بعض الدول بما فيها إيران، باستخدام الذكاء الاصطناعي لنشر معلومات كاذبة أو مثيرة للانقسام حول الانتخابات الرئاسية الأميركية”، معتبرا أن هذه الادعاءات المتكررة “مسيّسة وذات دوافع واستخدامات سياسية داخلية”.
من جهته رد الباحث السياسي الإيراني رضا صدر الحسيني، على الاتهامات الأميركية لبلاده بالتدخل في الانتخابات سواء عبر الاختراق السيبراني أو عبر توظيف اللوبيات، رافضا أن تكون لبلاده أي أجندة للتأثير في نتائج الانتخابات الأميركية عبر الاختراق السيبراني أو توظيف اللوبيات، معتبرا أن هذه الاتهامات التي تتكرر بين الفينة والأخرى “متحيزة” وتصبّ في إطار سياسة “التخويف من إيران” التي تتبعها واشنطن.
ويعتبر الباحث الإيراني، الاتهامات لبلاده بالتدخل في الانتخابات الأميركية “هروبا إلى الأمام”، مشيرا إلى أن واشنطن كانت ولا تزال رائدة في التدخل في الشؤون الداخلية للدول المستقلة ومنها إيران.
وبرأي الحسيني، فإن الجو العام للأحزاب والأوساط السياسية في الجمهورية الإسلامية يعتبر -في الوقت الراهن- أن الحزبين الديمقراطي والجمهوري في الولايات المتحدة “وجهان لعملة واحدة”، وأنه لا فرق بين سياساتهما حيال طهران، وبالتالي لا يجد الجانب الإيراني حافزا أو مبررا لترجيح أي منهما على الآخر.
روسيا واتهامات التدخل
منذ سنوات، كان اسم روسيا هو الأكثر حضورا حين الحديث عن محاولات التدخل والتأثير في الانتخابات الأميركية. وفي هذا العام، يشير تقرير لمكتب التحقيقات الفدرالي إلى أن روسيا هي “الخصم الأجنبي الأكثر نشاطا في محاولة التأثير في الانتخابات الأميركية 2024”.
ويشير التقرير إلى أن التحدي الروسي يمثل جانبا أكثر تعقيدا وتركيبا، على اعتبار أن الروس يعتمدون على مجموعة متنوعة من الأساليب والتقنيات، مثل الذكاء الاصطناعي ووسائل تكنولوجيا المعلومات والأمن السيبراني، والجواسيس المباشرين، والتأثير الدعائي والإعلاني في الشبكات الاجتماعية، إضافة إلى محاولات اختراق المؤسسات الحكومية.
خلال هذا العام، وجهت السلطات الأميركية اتهامات مباشرة لشركة تمتلك مقرا في ولاية تينيسي، زاعمة أنها تلقت 10 ملايين دولار من قناة روسيا اليوم (RT)، مقابل إنتاج محتوى إعلامي يتضمن رسائل روسية مبطنة، لدعم روايات تيارات أقصى اليمين حول قضايا مفصلية في الشارع الأميركي مثل الاقتصاد والهجرة والهوية الجنسية، وفق وثيقة الاتهام التي اطّلعت الجزيرة نت على تفاصيلها.
وعلى إثر ذلك بدأت الجهات الرسمية الأميركية في ملاحقات قضائية لمسؤولَين يعملان في روسيا اليوم (RT) فضلا عن مصادرة 32 اسم نطاق (URL) مرتبطة بروسيا على خلفية شبهات بمحاولة التأثير في الانتخابات. كما فرضت وزارة الخزانة الأميركية عقوبات على الشبكة الإعلامية الروسية ورئيسة تحريرها مارغاريتا سيمونيان، ونائبيها، وموظفين آخرين، بحسب ما أوردته قناة روسيا اليوم.
وبناءً على هذا التسلسل من الأحداث، أعلنت مجموعة “ميتا” الأميركية، المالكة لمنصات فيسبوك و إنستغرام وواتساب، أنها حجبت وصول وسائل الإعلام الروسية إلى منصاتها في جميع دول العالم، وذلك لمنع تدخلها للتأثير في الانتخابات.
بالنسبة للجانب الأميركي، فهم يرون أن دوافع التدخل الروسي تهدف لأمرين أساسيين، يتمثل الأول في إظهار هذه الانتخابات على أنها غير موثوق بها، أما الثاني فيتصل بمحاولة نزع الشرعية عن الحكومات المنتخبة ومفاقمة الانقسامات والاستقطابات السياسية الأميركية، وما يمكن أن ينتج عنها من شروخ مجتمعية.
وخلافًا لإيران، فإن الاتهامات الموجّة إلى روسيا تشير إلى أن موسكو تفضل وصول ترامب إلى البيت الأبيض، إذ كشف تقرير استخباري أميركي عام 2020 أن روسيا حاولت التدخل في الانتخابات الرئاسية لصالح ترامب في مواجهته للرئيس الحالي، وهدفت إلى تقويض ثقة الجمهور في العملية الانتخابية، وتشويه سمعة بايدن بحسب ما يقول التقرير.
وبحسب العميد السابق في المخابرات الأردنية عمر الرداد فإن العلاقة بين ترامب وبوتين يمكن وصفها بأنها دافئة، ويبدو أن روسيا تراهن على مكاسب عدة في حال فوز ترامب، في مقدمتها إنهاء الحرب مع أوكرانيا، وقد يكون ذلك صعبا في حال فوز أي مرشح ديمقراطي.
كما أن تصريحات ترامب المنتقدة لحلف شمال الأطلسي (الناتو)، وسياساته التي تضع أميركا أولا، لا حلفاءها، تصب من الناحية الإستراتيجية في هدف روسيا بتفكيك التكتلات الدولية التي تحركت خلال الأعوام الماضية ضد موسكو على إثر الحرب التي شنتها على أوكرانيا.
روسيا وأميركا والحرب السيبرانية المتبادلة
هذه ليست المرة الأولى التي توجه فيها أميركا أصابع الاتهام إلى روسيا بالتدخل للتأثير في نتيجة الانتخابات الأميركية، أو التجسس، أو توظيف التقنيات السيبرانية ضد شخصيات سياسية أميركية.
فقد ظهرت في وقت مبكر من عام 2016 تكهنات تشير إلى تدخل موسكو بكثافة في انتخابات 2016 لصالح ترامب ضد مرشحة الحزب الديمقراطي وقتها هيلاري كلينتون. هذه التكهنات سرعان ما تحولت إلى حقائق قضائية، حيث شملت لائحة الاتهام التي قدمها مكتب التحقيقات الفدرالي اثني عشر ضابطًا في المخابرات العسكرية الروسية لدورهم المزعوم في التدخل في الانتخابات الأميركية لعام 2016.
لكن الاتهامات التي طالت روسيا لم تنحصر في محاولات التأثير في الانتخابات وما يدور حولها، حيث اتهمت أميركا موسكو باتساع نطاق أنشطتها التجسسية، وقررت في يونيو/حزيران من هذا العام حظر برنامج مكافحة الفيروسات الروسي كاسبرسكي (عملاق الأمن السيبراني والمتخصص في أمن الحواسيب وتطبيقات برامج مكافحة الفيروسات) في الولايات المتحدة، كما حثت الأميركيين في أماكن أخرى من العالم على الامتناع عن استخدامه.
بالنسبة لواشنطن، تمتلك روسيا النية والقدرة لاستغلال شركات روسية، مثل كاسبرسكي لاب، لجمع معلومات أميركية حساسة ثم استغلالها لاحقا بما يحقق مصالحها، وفق ما صرحت به وزيرة التجارة الأميركية جينا ريموندو.
وكذلك وجّهت السلطات القضائية الأميركية، في ديسمبر/كانون الأول من العام الماضي، لائحة اتهام أصدرتها محكمة في سان فرانسيسكو إلى مواطنَين روسيين أحدهما عنصر في جهاز الأمن الفدرالي الروسي، بتهمة الإقدام على قرصنة الشبكات المعلوماتية لأميركا وبريطانيا ودول أخرى ضمن حلف شمال الأطلسي (الناتو)، لصالح الحكومة الروسية.
على الطرف الآخر، تتهم موسكو واشنطن بمحاولة اختراق وتجسس وتنفيذ هجوم سيبراني على أجهزة “أبل” لموظفي شركة “كاسبرسكي لاب” الروسية. حيث تلقت الأجهزة الإلكترونية الخاصة بموظفي الشركة الروسية رسائل “غير مرئية” مرفقة ببرمجيات خبيثة تقوم بتثبيت برنامج للتجسس. كما أن روسيا وجهت اتهامات رسمية إلى الإدارة الأميركية بشنّ هجمات سيبرانية على نظام التصويت الخاص بالانتخابات الرئاسية الروسية في مارس/آذار الماضي، وأشارت روسيا إلى أن معظم الخوادم التي قادت تلك الهجمات، تقع في الولايات المتحدة الأميركية والمملكة المتحدة، وفق ما نقلته وكالة “تاس” الروسية.
في الواقع، للطرفين إرث طويل من مساعي تجسس متبادلة تعود جذورها إلى حقبة الحرب الباردة حين كانا يتنافسان على زعامة النظام العالمي. أما المؤكد اليوم فهو أن التطور السريع للذكاء الاصطناعي التوليدي، والتزييف العميق، وروبوتات الدردشة، والمكالمات الآلية، جعلت الدول أكثر قلقا وأقل استعدادا للمواجهة وزادت أخطار التهديدات المتبادلة بأساليب غير تقليدية.
الصين واتهامات التدخل
خلال لقاء الرئيس الصيني، شي جين بينغ بالرئيس الأميركي جو بايدن في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي في مدينة سان فرانسيسكو الأميركية، تعهد الرئيس الصيني بأن بلاده لن تتدخل للتأثير في الانتخابات الأميركية 2024 القادمة. كان هذا ما ظهر على وسائل الإعلام.
لكن تقريرا حديثا لشركة غرافيكا (Graphika) المتخصصة في البحوث عبر الإنترنت، كشف أن حملة صينية تُدعى “سباموفلاج” (Spamouflage)، أنشأت حسابات وهمية على وسائل التواصل الاجتماعي بهدف “تعزيز الانقسامات الداخلية في المجتمع الأميركي قبل انتخابات 2024” بحسب ما ورد في التقرير.
يشير التقرير إلى أن الحسابات الوهمية بدت وكأنها لناشطين أميركيين، وتعمدت نشر محتوى مرتبط بقضايا تعتبر “ساخنة” ومفصلية في المجتمع الأميركي مثل حقوق الإنجاب والمشردين في الشوارع وقضايا الهويات الجنسية. كما اتجهت هذه الحسابات إلى انتقاد الطبقة السياسية، وشمل ذلك بايدن وهاريس وترامب على السواء، وذلك باستخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي لإنشاء محتوى مزيف.
وبالنسبة لواشنطن، فإن الجهود الصينية تمثل خطرا محدقا بالأمن القومي الأميركي يتجاوز خطر روسيا وإيران. حيث إن بكين لا تركز جهودها على اختراق الساسة والتأثير في الانتخابات، بل تتجه بحسب مزاعم واشنطن إلى استهداف البنية التحتية الحكومية والقطاع الخاص الأميركي على السواء، وهو ما يهدد المنظومة المؤسسية الأميركية برمّتها.
أما السبب الثاني للخطر الصيني من وجهة النظر الأميركية، فيعود إلى أن واشنطن تنظر إلى بكين بوصفها التهديد الأكثر خطرا على زعامة النظام العالمي، وذلك بحسب إستراتيجية الأمن القومي التي صدرت عام 2022.
ماذا تريد الصين؟
دفعت تلك التحركات الصينية عددا من المحللين والخبراء نحو النظر في دوافع بكين والسيناريوهات التي تفضلها. وتتجه تلك التحليلات إلى أن بكين ليست معنية بهوية ساكن البيت الأبيض، لأنها لا تعول على اختلاف في آلية التعامل الأميركية معها. لذلك، وعوضا عن التركيز على الانتخابات في حد ذاتها والاشغال بدعم مرشح أو إقصاء آخر، فهي تنظر إلى الانتخابات القادمة بوصفها فرصةً سانحة لتعزيز الانقسامات في المجتمع الأميركي.
ولكن بكين تنفي هذه الاتهامات وتعتبرها “متحيزة وتحمل تكهنات خبيثة”. يتفق جزئيا مع هذا الطرح رئيس تحرير مجلة المراسل -التي تصدر من أميركا- عماد رواشدة، حيث قال إن ثمة حربا باردة غير معلنة بين البلدين، وتستخدم فيها واشنطن تلك المزاعم لتوحيد الأميركيين في مواجهة الأخطار الخارجية.
ويضيف رواشدة، أنه على امتداد التاريخ الأميركي في القرن العشرين حرص النظام الأميركي على تضخيم أعدائه الخارجيين واللعب على مشاعر الخوف لتحقيق ما يسميه المفكر الأميركي نعوم تشومسكي “صناعة التوافق” (manufacturing Consent).
فالتنافس بين الصين والولايات المتحدة تتصاعد وتيرته في مجالات عدة، بدءًا من الحرب التجارية بين البلدين وما يتصل بالتنافس الاقتصادي والتجاري، إلى ملف تايوان، ثم الحرب الروسية الأوكرانية، وغيرها.
إيران وروسيا والصين.. فماذا عن أميركا؟
في الواقع، تجدر الإشارة إلى أن السياسة الخارجية عادة ما تؤدّي دورا هامشيا عندما يتعلق الأمر بالتأثير في نتائج الانتخابات الرئاسية، وذلك عائد إلى عوامل عدة في مقدمتها اهتمامات الناخب الأميركي وما يعنيه ويتوقعه من رئيسه القادم، وتقع على رأس هذه الأولويات قضايا الاقتصاد والمعيشة. صحيح أن القضية الفلسطينية، والحرب التي يشنها جيش الاحتلال الإسرائيلي على القطاع المحاصر بدعم أميركي قد تؤدّيان دورا مؤثرا في عدد من الولايات المتأرجحة، إلا أن ذلك شأن آخر لا يتصل بموضوع تقريرنا.
وعلى العموم، تحمل كل من إيران وروسيا والصين مجموعة من السمات المتشابهة، فهي لا تدور في الفلك الأميركي، بل وتشكل تهديدات تختلف حدتها وتأثيرها من دولة إلى أخرى على المصالح الأميركية المنتشرة في العالم. ولهذا الأمر تحديدا، تشكك فئة من المفكرين والسياسيين في النيات الأميركية وصدقية الاتهامات الموجهة إلى الدول الثلاث.
عند هذه النقطة، يشير عماد رواشدة إلى أنه يجب أن لا ننسى تدخل الولايات المتحدة في أكثر من ٨٠ انتخابا في العالم لإنجاح مرشح يخدم مصالحها، وإقصاء آخر، وازدادت وتيرة التدخلات الأميركية عقب الحرب العالمية الثانية ومنافستها مع الاتحاد السوفيتي.
وتنوعت وسائل الإدارات الأميركية على اختلاف رؤسائها في تحقيق تلك الأهداف، سواء عبر نشر معلومات مضللة تخدم مصالحها، أو العمل على تصميم محتوى الحملات الانتخابية للمرشحين الذين تريد فوزهم، أو تمويل الحملات للحزب الذي تدعمه، حتى وصل الأمر إلى التهديد بقطع المساعدات الخارجية أو الإكراه في حال فوز المرشح الذي لا يحقق المصالح الأميركية.
لذلك، فإنه حتى مع صحة المزاعم الأميركية حول التدخلات الخارجية، فإن عددا من المحللين ينظرون إليها باعتبارها تجرعا من ذات الكأس التي أذاقتها أميركا لكثير من دول العالم، حتى انبسطت لها زعامة النظام العالمي، وجزاءً بسيطا من جنس عملها.