كابل- يقول المثل الأفغاني “من يملك الصحة يملك الأمل، ومن يملك الأمل يملك كل شيء”، لكن 5 عقود من الحروب والصراعات راكمت قتلى ومعاقين، وأفرزت تشردا ونزوحا وهجرة وبطالة وفقرا وحرمانا.
جروح غائرة طغت على المشهد الأفغاني الذي ظل نازفا، لم يسلم منها إلا القليل النادر، فلا توجد عائلة أفغانية لا يوجد فيها قتيل أو معاق أو يتيم أو من عانى مرارة النزوح والهجرة؛ حالة جعلت أكثر من 3.5 ملايين أفغاني يقعون في براثن إدمان المخدرات، ففقدوا صحتهم أيضا ولم يعد لديهم أمل.
هذه الملايين التي افترستها آفة الإدمان تعتبرها حركة طالبان التي عادت إلى حكم أفغانستان في 18 أغسطس/آب 2021 “إرثا بغيضا” للاحتلال الأميركي للبلاد الذي دام 20 عاما تضاعفت خلالها أعداد المدمنين، رجالا ونساء وحتى فتيانا وأطفالا في مناطق متفرقة من البلاد خصوصا بين اللاجئين الأفغان العائدين من إيران وباكستان.
مشاهد من الماضي
المشاهد المأساوية لمظاهر الإدمان والمدمنين وأماكن تجمهم باتت جزءا من الماضي بعد عودة حركة طالبان إلى الحكم، لكنها لا تزال حاضرة في ذاكرة سكان العاصمة كابل.
ففي جولة نهارية في كابل، قال عبد الله مرافقي الأفغاني مشيرا إلى جسر “بول إي سوختا” أو الجسر المحروق غربي العاصمة “إن هذا الجسر كان أحد أوكار مدمني المخدرات الذين اعتادوا التجمع أسفله بالمئات يجلسون في وضع القرفصاء محدقين بين أكوام القمامة والحقن والفضلات”.
امتدت أماكن تجمع المدمنين إلى حديقة “شهر ناو باك” إحدى أكبر حدائق العاصمة الأفغانية وأشهرها -كما يقول عبد الله- لدرجة أن الناس العاديين لا يستطيعون زيارة هذه الحديقة بسهولة حتى في النهار.
يلتقط السائق أمير خان طرف الحديث قائلا إن الخوف كان ينتاب المشاة وحتى السائقين لدى مرورهم بالقرب من أماكن تعاطي المخدرات خشية تعرضهم للاعتداء من قبل المدمنين الذين اعتادوا السرقة والسطو على الطرق الرئيسة بالمدينة للحصول على أموال لشراء ما أدمنوا تعاطيه من مواد مخدرة.
ويتابع قائلا إن المدمنين كانوا يقطعون طريق الناس في الشوارع، ويهددونهم بالسكاكين ويأخذون أموالهم بالقوة، ويهاجمون المارة، وخاصة النساء والفتيات، في وضح النهار ويستولون على الحليّ والهواتف المحمولة أو غيرها من المقتنيات الثمينة. ومع تزايد أعداد مدمني المخدرات زادت السرقات وحتى السطو على المنازل، فلا يأمن أحد ترك باب منزله مفتوحا.
مشاهد ضحايا الإدمان ظلت مألوفة لسكان العاصمة كابل الذين اعتادوا رؤية مظاهر الألم والمعاناة والفقر والتشرد والعوز الناجم عن الإدمان على أرصفة المدينة، حيث تقتل الجرعات الزائدة من المخدرات والبرد نحو 150 في كل شهر، أي بمعدل 5 وفيات يوميا. وأحيانا بات مشهد جثث أولئك الذين تناولوا جرعة زائدة مشهدا ليس بالغريب.
هذه المشاهد لم يعد لها أثر كما يجمع على ذلك من التقيناهم من سكان العاصمة الأفغانية، وهو ما تأكد بالتجوال في ساعات متفرقة نهارا وليلا في شوارع العاصمة، فخلال نحو أسبوعين أمضيتهما هناك لم ألحظ أيا من تلك المشاهد سواء أسفل “الجسر المحروق” أو “جسر الموت” أو في الحدائق الأخرى، أو حتى بين دفتي نهر كابل الذي يعاني الجفاف وكان قد اتخذ منه بعض المدمنين وكرا لهم.
حضن التأهيل
بناء على أمر مولوي هبة الله آخوند زاده، زعيم “الإمارة الإسلامية”، أنشئت لجنة لجمع المدمنين، ضمت وزارات الداخلية والصحة العامة والعمل والشؤون الاجتماعية بصفة أعضاء.
وعلى الرغم من شح الإمكانات تكرس الحكومة الأفغانية التي تقودها طالبان جهودها لمعالجة مدمني المخدرات وتأهيلهم، وأنشأت عشرات المراكز لهذا الغرض في ولايات متفرقة من البلاد، أكبرها كان قاعدة عسكرية للناتو تقع على بعد نحو 20 كم من قلب العاصمة تحولت قبل عامين إلى مركز لتأهيل آلاف المدمنين، خصصت له الحكومة 75 مليار أفغاني -اسم العملة المحلية- (حوالي مليار دولار) للقيام بهذا الدور وتوفير مستلزمات العلاج والتأهيل.
الجزيرة نت زارت القاعدة العسكرية السابقة التي تحولت إلى مركز ضخم لتأهيل آلاف المدمنين كتب عليه باللغة الفارسية “آغوش د معتادينود حمايي اوتداوى 5000 بستريز مركز”، وتعني بالعربية “مركز حضن لعلاج المدمنين ودعمهم بسعة 5 آلاف سرير”.
وافق وصولنا إلى هذا المركز الضخم وقت الغذاء، ومن عايش الأفغان يعرف جيدا أن لديهم موعدين لا يخلفونهما أبدا هما موعد الصلاة وموعد الطعام خصوصا وجبة الغذاء، حيث شاهدنا طوابير ممن يتلقون العلاج والتأهيل تتحرك بهدوء ونظام في طريقها إلى مطعم المركز.
انتظرت حتى يفرغ عدد منهم من تناول وجبته لمقابلته، وخلال الانتظار تحدثت إلى عبد القيوم أحد المشرفين على استقبال المدمنين في برامج التأهيل بالمركز سائلا عن العدد الذي يضمه المركز حاليا ممن يخضعون للتأهيل، فقال “جمعنا 3 آلاف مدمن من مختلف ولايات البلاد خصوصا كابل وقندهار وهيرات”.
وينبه عبد القيوم إلى أن من بين الموجودين في المركز “من أتى طواعية وهناك من أتت به أسرته وهناك من جاءت به الشرطة لتسببه في مشاكل، وآخر دفعة استقبلها المركز 280 مدمنا”.
ولدى سؤاله عن متوسط أعمار الموجودين بالمركز الذين يتلقون العلاج والتأهيل، قال إن أعمارهم تراوح بين 14 و80 عاما.
تأهيل
انتقلنا مع عبد القيوم إلى ورش التدريب الملحقة بالمركز حيث لا يشعر الزائر أن هؤلاء العاكفين على ماكينات الحياكة أو صناعة الأحذية أو إصلاح الأجهزة الكهربائية أو إعداد الخبز كانوا مدمنين في يوم من الأيام إلا بعد سؤالهم.
يقول عبد القيوم إن الجهود تبذل لجعل بيئة العمل مناسبة لهؤلاء الأشخاص بعد خروجهم من المركز لتزويدهم بأدوات الحرفة التي تدربوا عليها لتوفر لهم وسيلة عيش تحفظ عليهم كرامتهم.
التقينا عزيز الرحمن فقيري (65 عاما) من ولاية كابيسا الذي قال إنه كان لاجئا في إيران لمدة 16 عاما، وهناك -حسب قوله- سقط فريسة للإدمان، ولدى عودته وعقب وصول حركة طالبان إلى الحكم جاء إلى المركز للعلاج والتأهيل.
ويتابع قائلا إنه تعافى تدريجيا في المركز؛ “فهنا نقيم الصلاة في جماعة، ونحضر دروسا دينية، ونمارس تمارين رياضية في بيئة تنسينا آفة الإدمان وتبغضنا بها”.
أما محمد وسيم (33 عاما) الذي كان يعمل معلما فيروي أيضا قصة سقوطه فريسة للإدمان التي تحرر منها بعد 3 أشهر من دخوله المركز -حسب قوله- استعاد خلالها ما يحفظ من القرآن الكريم وزاد حفظه حتى أصبح مدرّسا في المركز يعلّم القرآن منذ أكثر من عام.
لا تختلف حالة المعلم السابق فيض الله فياض (63 عاما) كثيرا عن حالتي وسيم وعزيز، فقد أدمن “الترياق” (الحشيش) خلال فترة لجوئه إلى باكستان -حسب قوله- حتى عاد إلى بلاده قبل نحو عامين فسمع بالمركز من خلال أسرته فسارع إلى الحضور طواعية، رغبة منه في تلقّي العلاج والتأهيل.
كان لافتا خلال التفرّس في وجوه الموجودين في إحدى قاعات المركز وجود اثنين من الفتية اقتربنا منهما لمعرفة قصتهما، لكنهما تحدثا باقتضاب فقال نصر الله (15 عاما) إنه من ولاية لوغر وإن أصدقاء السوء جرّوه إلى إدمان إحدى المواد المخدرة حتى وجدته الشرطة في حالة تعاط في أحد الأعراس فجاءت به إلى المركز للعلاج، كما جاءت بالفتى نور الله عبد الله (19 سنة) من ولاية غزنه في ملابسات مشابهة.
القرآن علاجا
في قاعة فسيحة بالمركز جلس عشرات ممن يتلقون التأهيل أرضا في صفوف متوازية، وأمامهم نسخ من المصحف الشريف يتلون القرآن الكريم جماعة مرددين خلف المعلم في جو يسوده الخشوع.
يستشهد عبد الرشيد أحد معلمي القرآن في المركز بالآية القرآنية “وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين” (سورة الإسراء/ الآية 82)، في تأكيد لأهمية وجدوى العلاج بالقرآن خصوصا في المجتمع المسلم، مشيرا إلى أن أثر فقرة حلقات التلاوة الجامعة لمتلقى التأهيل “كبير جدا، فقد كانت سببا في تعزيز الشفاء ونبذ الإدمان”.
يجمع من التقينا في المركز على الإشادة بفائدة العلاج والتأهيل الذين يتلقونه في المركز حيث استعادوا عافيتهم وتبدد اليأس في نفوسهم وتجدد لديهم الأمل؛ بعد أن نجوا من آفة الإدمان وباتوا مؤهلين للعودة إلى أحضان أسرهم والعيش بين مجتمعهم، مؤكدين أن “الحياة من دون مخدرات هي حياة ممتعة أخرى”.
وتطمح حكومة طالبان التي قضت على زراعة الأفيون (الخشخاش) قضاء مبرما -بشهادة المنظمات الدولية المعنيةـ إلى الوصول بالبلاد إلى “مرحلة صفر إدمان” كما حققت “صفر زراعة”، بعد أن كانت أفغانستان موصومة بأنها أكبر منتج للأفيون في العالم وأكبر دولة تضم مدمنين في العالم. ولعل أبسط مطلب لها هو إعادة النظر في العقوبات المفروضة عليها وما يستتبع ذلك من قطع التمويل الدولي عنها.