إذا كنت من بين الملايين الذين يتابعون نشرات الأخبار والمنشورات والصور ومقاطع الفيديو المتلاحقة التي ترصد العدوان الوحشي لجيش الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة، وينفطر قلبك من متابعة قصص الشهداء والمصابين، وترصد المعاناة التي يتعرض لها من بقي حيا بعد انقطاع الماء والكهرباء والحرمان من الطعام، فقد لا تشعر فقط بالألم والتعاطف، وإنما تنتابك مشاعر الذنب لأنك في حال أفضل ولديك ما حرموا منه، بل وتصبح ممارسة حياتك الطبيعية أمرا عسيرا، لا سيما عندما تدرك أن هناك من يعاني من أجل الحصول على أبسط مقومات الحياة من مسكن ومطعم ومشرب ودواء.
فإذا كنت تسأل نفسك “لماذا أنا أعيش بينما يعاني غيري؟”، وتشعر بالذنب والخزي والندم وعدم الراحة لاختبار أي مشاعر إيجابية، فمن المحتمل أنك تعاني من “عقدة الناجي” أو “متلازمة عقدة ذنب الناجي”، وهو مصطلح صاغه المحلل النفسي وليام نيدرلند أثناء عمله مع الناجين من الهولوكوست.
تناولت الأبحاث عن عقدة الذنب مجموعة من الأعراض النفسية والجسدية التي تتسبب بها المتلازمة عند الناجين، ومنها الاضطراب العاطفي، ونظرة ذاتية سلبية، وتدني احترام الذات، وطرح التساؤلات الوجودية، والصداع والأرق والإرهاق، والتفكير المضاد للواقع مثل “يا ليتني فعلت..”، “يا ليتني أملك كذا وكذا”.
الذنب والسلوك الوسواسي
فسر الاستشاري النفسي أحمد العيسى للجزيرة نت سبب مشاعر الذنب المصاحبة لمتابعة الأخبار في غزة، وقال إن “الشعور بالذنب والعجز يرتبط بالمبادئ التي يتبناها الشخص. وعند مشاهدة عدم تحقق هذه المبادئ يتولد الشعور بالذنب والعجز الذي يتفاقم مع الوقت ويولد شعورا بالإحباط، وكلما طالت مدة الحرب مع عدم القدرة على تقديم المساعدة للضحايا وتحقيق العدالة والأمن والسلامة تفاقمت هذه المشاعر”.
وأوضح العيسى أن “متابعة الأخبار سواء أكانت بنظرة إيجابية تنتظر الفرج والنصر للفلسطينيين، أم بنظرة سلبية تتابع تعداد القتلى والجرحى والنازحين، فإن ما يجري يؤثر على الجميع بشكل كبير ويولد مشاعر الذنب التي قد تدفعهم للدخول في حالة من السلوك الوسواسي لمتابعة الأحداث لحظة بلحظة وشعورهم أن عليهم قضاء أكبر وقت ممكن في متابعة الأخبار”.
وأضاف أن هذا السلوك القهري يؤثر على جوانب الحياة اليومية لمن يتابعون الأخبار فتتأثر صحتهم النفسية وعلاقاتهم مع العائلة وزملاء العمل ويصبحون منعزلين أكثر، وهو سلوك غير فعال إذ تصبح المعاناة ليست فقط عند أهل غزة ولكن عند الجميع”.
الذنب التضامني
ومن أشكال عقدة الذنب ما يسمى بـ”الذنب التضامني”، وهو ما يمكن أن يفسر أيضا المشاعر التي يمر بها العرب والمسلمون في تضامنهم مع أهل غزة.
وأشار تميم مبيض باحث الدكتوراة في جامعة أوكسفورد لموقع “سيكولوجي توداي”، إلى أن الذنب التضامني هو شعور بالذنب ينشأ عندما يكون الضحايا من مجموعة لديها هوية جماعية مشتركة؛ مثل دين مشترك أو قومية مشتركة، ويشعر الناجي أنه يجب عليه أن يتقاسم مصير هؤلاء الأفراد من المجموعة التي ينتمي إليها.
لا تقارن نفسك بهم
مهما نظرنا إلى صمود شعب غزة وصبرهم على ما يحدث لهم، لا يمكن غض الطرف عن التأثير النفسي الكارثي للحروب وما تسببه من إصابات بالاكتئاب الحاد ونوبات الهلع واضطرابات القلق العام وغيرها، إلا أن من يتابعون الأخبار من بعيد لا يمكنهم قياس ما يمر به أهالي القطاع على أنفسهم.
وهو ما أوضحه العيسي قائلا: “من خبرتي مع بعض من يعيشون في غزة وتعاملى مع أطباء نفسيين من القطاع، ينشأ الأطفال في غزة على أن الموت شهادة وأن إسرائيل عدوهم وهدمت بيوتهم، ولذلك يتأثرون بشكل مختلف، كما أن تكرار الهجمات على القطاع وارتقاء الشهداء في القصف المتكرر يبني لهم دروعا نفسية تجعل وقع أخبار الموت على نفوسهم مختلفا عن وقعه على من يعيشون في بيئات آمنة، ولذلك تختلف مشاعر أهل غزة عن مشاعر أي شخص آخر يشاهد الحرب من الخارج”.
وأشار إلى المقطع المتداول لأب يودع ابنته الشهيدة بحضن هادئ مليء بالألم والثبات، وهو مشهد من مشاهد قوة الإيمان التي يتحلى بها أهالي غزة والتي دفعت بعض المؤثرين في الغرب على مواقع التواصل الاجتماعي إلى القراءة عن الإسلام لمعرفة منبع هذا الإيمان والصبر.
لحظة وداع مؤلمة لأب يحتضن طفلته الشهيدة في #غزة#حرب_غزة pic.twitter.com/hBKuxnmjoS
— قناة الجزيرة (@AJArabic) November 23, 2023
حدد أوقات متابعة الأخبار
وينصح العيسى بتجنب متابعة الأخبار عن كثب وقت الحروب، وأشار إلى أن البعض قد تصل مدة متابعتهم اليومية إلى أكثر من 10 ساعات، وهو ما يجعلهم مستقبلين فقط للأخبار المؤلمة دون أي سبيل لتفريغ هذه المشاعر أو خطة لتوظيفها في مساعدة الضحايا وتفاقم معاناتهم النفسية.
غيّر سؤالك
وعوضا عن طرح سؤال “لماذا يعانون هم وأنجو أنا؟”، غيّر سؤالك إلى: كيف يمكنني المضي قدما واستغلال ما امتلك من امتيازات؟ وما نوع الحياة التي أريد أن أعيشها؟ وأي نوع من الأشخاص أريد أن أكون؟
وذكرت تالي برلينر -الطبيبة النفسية بولاية فلوريدا- لصحيفة “نيويورك تايمز”، أن إعادة صياغة الأسئلة التي نطرحها على أنفسنا يساعدنا في الخروج من دوامة الذنب والقيام بشيء ذي معنى، وإعادة رسم خارطة طريقك وما هي الحياة التي تريد أن تعيشها.
وذكرت دراسة نشرتها المكتبة الوطنية الأميركية للطب أن مشاعر الذنب لدى الناجين يمكن أن تؤدي إلى دفعهم لتغيير حياتهم بشكل إيجابي تغييرا جذريا، وتغيير منظورهم لما مروا به وإدراك أنهم نجوا لغرض ما؛ مثل تبني قضية الضحايا وإخبار العالم بقصصهم، أو الانخراط في عمل فعّال يجعل العالم أكثر عدلا.
وجّه طاقتك إلى تقديم المساعدة
من أهم ما يُنصح به من يعانون من عقدة الذنب، هو توجيه مشاعر العجز والذنب إلى شيء إيجابي فعال عن طريق تقديم أي مساعدة ممكنة للضحايا أو أي شخص آخر محتاج.
ويمكنك التطوع في حملات المؤسسات الخيرية لتقديم المساعدات لضحايا غزة، أو التبرع بالمال، أو نشر الوعي عن قضيتهم بما لديك من إمكانيات لذلك، أو حتى الدعاء لهم، ولا يشترط أن تكون المساعدة كبيرة ومؤثرة في تغيير الواقع، يكفي أن تقدم ما في قدرتك مهما كان بسيطا.