بيضة و”أندومي” وربطة خبز.. هدايا الغزيين في زمن الحرب والمجاعة

فريق التحرير
كتب فريق التحرير 8 دقيقة للقراءة

غزة– كطفلة تملؤها الرغبة والدهشة أغمضت هلا عصفور عينيها قبل أن تفتحهما على “ربطة خبز” كافح خطيبها محمد سلامة من أجل الحصول عليها، ولم تكن بالنسبة لها “مجرد ربطة خبز.. إنها أول هدية منذ خطوبتنا الشهر الماضي، والأغلى وستبقى عالقة في ذاكرتي للأبد”.

“فعلا الخبز أغلى الهدايا في زمن الحرب والمجاعة” تقول هلا، وهي صحفية تعمل في الميدان الذي جمعها بمحمد، ومنه ارتبطا بميثاق الحب واقتنصا مساحة للفرح وسط عملهما في ملاحقة أخبار وحكايات الموت والدمار، ولربما لو اختار الصحفيان الشابان عنوانا لخطوبتهما لكان: “على هذه الأرض ما يستحق الحياة”.

نامت هلا ليلتها التي سبقت الهدية، جائعة لعدم توفر الخبز والطحين لدى أسرتها النازحة من شرق مدينة خان يونس لمنطقة المواصي في غربها، وتقول للجزيرة نت: “أخبرت محمد خلال مكالمة هاتفية بيننا في نهاية نهار عمل شاق أنني سأنام الآن جائعة، فليس لدينا خبز أو أي شيء متوفر للأكل، وكان ذلك اليوم هو السابع تواليا من دون تذوق الخبز”.

غلب القلق محمد (24 عاما) وقضى ليلته يفكر في معاناة هلا (23 عاما) مع الجوع، غير أن “الخيارات معدومة في ظل المجاعة والحرب والحصار (..) وشعرت كأنني مقيد لا أقوى على فعل شيء وقد حل الظلام”، حسبما يقول للجزيرة نت.

مهمة مستحيلة

سابق محمد شروق الشمس ومع بزوغ الفجر توجه للمخبز الوحيد في مدينة خان يونس من أجل “ربطة الخبز” التي باتت بالنسبة لغالبية الغزيين “حلما صعب المنال”، ويكابدون يوميا من أجل الظفر بها، وقد أغلقت غالبية المخابز في جنوب القطاع أبوابها، واختفى الطحين من الأسواق.

بعد ساعات طويلة ومع الظهيرة تكللت “المهمة المستحيلة” بالنجاح، وحصل محمد على “ربطة خبز” لا تكفي أسرة مكونة من 5 أفراد سوى نهار واحد، وبابتسامة تقول هلا إن مهمة محمد لم تنته بالحصول على الربطة، ولكنه اجتهد في إخفائها عن “أعين الجوعى والمحتاجين كي تصلني بسلام”، وليتجنب أي إحراج قد يؤدي إلى ضياعها وسط الحاجة الماسة للخبز من الجميع.

أخفى محمد “الهدية الثمينة داخل شنطة المعدات الصحفية”، ويقول: “كنت أحتضن الشنطة وكأن بها كنزا وأريد أن تحملني الريح لهلا بسرعة وهي التي نامت ليلتها جائعة”.

في سيارة العمل كان لقاء الحبيبين مع “الخبز الهدية”، وتقول هلا: “اتصل بي محمد بلهفة: تعالي بسرعة أحضرت لك هدية، وارتديت ملابسي على عجل، واللهفة والدهشة تملآن قلبي كطفلة صغيرة.. ماذا عساه يهديني؟، ونحن في حرب حرمتنا أبسط الأشياء، فلا ورود ولا ملابس، والناس بالكاد تجد ما يبقيها على قيد الحياة”.

تناول محمد الشنطة، وطالبني أن أغمض عيناي، فماذا سيخرج من شنطة بها كاميرات، هل هي صورة مميزة التقطها ويريد ان يشاركني فرحته بها؟، ولم تطل حيرة هلا حتى فتحت عينيها على ربطة الخبز، وتقول: التقطتها من بين يديه واحتضنتها بـ”دمعة وابتسامة”، وتضيف: “لم يكن حسي الصحفي غائبا عن هذه اللحظة المميزة، وطلبت من محمد أن يلتقط لي صورة مع ربطة الخبز لتوثيقها كأول هدية بعد الخطوبة، والأغلى في زمن الحرب والمجاعة”.

نشرت هلا هذه الصورة مع كلمات مؤثرة عبرت بها عن مشاعرها في تلك اللحظة، وتقول: “للحب في زمن الحرب طقوسه المختلفة، ومحمد يثبت يوما بعد يوم أنه يستحق قلبي وأن يشاركني حياتي، ويؤثرني على نفسه ويشاركني في كل شيء حتى لو كانت تفاحة يحرص أن يتقاسمها معي وقد أوشكت الحرب أن تعد علينا أنفاسنا”.

 

 

هدايا وطقوس حرب

ومن أجل البحث عن الأندومي قطع العريس العشريني عبد الله المصري بضعة كيلومترات من منطقة “خان يونس البلد” وحتى منطقة المواصي غرب المدينة.

يقول عبد الله (27 عاما) عن نفسه: “لست من مدمني أكل الأندومي”، ويضحك قبل أن يواصل حديثه مع الجزيرة نت “العروس نفسها بالأندومي وبحثت عنه لأحقق أمنيتها وأسعدها في ظل هذه الأجواء المأساوية والقاسية من الحرب والحصار”.

ارتبط عبد الله بشريكة حياته ملك أبو شاويش (24 عاما)، في 27 مايو/أيار الماضي، وتزوجها حديثا في حفل زفاف يصفه بأنه “على الضيق”، واقتصر على المقربين من الأهل والأحبة، ويقول: “الحياة لا بد أن تستمر ولكن في الوقت نفسه لا بد من مراعاة مشاعر المكلومين من شعبنا”.

الحصول على ربطة خبز في جنوب قطاع غزة مهمة شبه مستحيلة ومحفوفة بمخاطر جمة-رائد موسى-خان يونس-الجزيرة نت

وتخلى العروسان عن كثير من طقوس الأفراح والزفاف المعهودة، وبعد حفل الزفاف المتواضع انتقلت ملك لتقيم مع عريسها عبد الله في غرفة صغيرة داخل منزل أسرته المدمر جزئيا.

ووسط صنوف من الآلام والمعاناة تعصف بالغزيين، يحاول عبد الله البحث عما يسعد عروسه، ويقول: “لم تبق لنا الحرب خيارات كثيرة، فلا يوجد ورود أو ملابس، أو مطاعم وأماكن للترفيه، جراء التجريف والتدمير، وكذلك الحصار الحاد والخانق”.

ونتيجة تداعيات الحرب والحصار ارتفعت الأسعار على نحو غير مسبوق، واشترى عبد الله “كيس الأندومي” الصغير بـ6 شواكل (الدولار يعادل 3.7 شواكل)، ويقول إن سعره لا يزيد عن شيكل واحد قبل اندلاع الحرب.

وما أغرب هدية تلقيتها في زمن الحرب والمجاعة؟، سؤال طرحته الجزيرة نت على غزيين، وأظهرت الإجابات أن هذه الهدايا كانت من وحي أزمتي المجاعة وشح السلع بالأسواق، كبيضة واحدة (ثمنها حوالي 3 دولارات)، وقهوة (الكيلو بنحو 110 دولارات)، والطحين (سعر الكيلو حوالي 15 دولارا إن توفر)، وأنواع شحيحة من الفواكه أقلها يباع الكيلو منه بنحو 13 دولارا.

إبادة بالتجويع

ويواجه أكثر من مليون و800 ألف فلسطيني من السكان والنازحين في جنوب القطاع تحديات كبيرة من أجل توفير “لقمة العيش”، وسط أزمة حادة في الخبز والطحين، وارتفاع حاد على أسعار السلع والبضائع الشحيحة بالأسواق.

وتفرض إسرائيل قيودا مشددة على دخول المساعدات الإنسانية والبضائع التجارية عبر معبر كرم أبو سالم الخاضع لسيطرتها في أقصى جنوب شرقي القطاع، وتتهمها أوساط محلية ودولية بتسهيل مهمة عصابات مسلحة للسطو على الشاحنات القليلة التي تسمح بدخولها.

وإزاء ذلك أعلن ‏المفوض العام لوكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) فيليب لازاريني عن تعليق إيصال المساعدات عبر معبر كرم أبو سالم، الذي يُعد المنفذ الرئيس للمساعدات الإنسانية للقطاع، وقال إن “‏الطريق من هذا المعبر ليس آمنا منذ شهور”.

الطحين من أغلى هدايا الغزيين في زمن المجاعة والحصار الإسرائيلي الخانق على قطاع غزة-رائد موسى-خان يونس-الجزيرة نت

وقال المسؤول الأممي: “يأتي هذا القرار الصعب في وقت يتفاقم فيه الجوع بسرعة (..) لا ينبغي أن يكون إيصال المساعدات الإنسانية أمرا محفوفا بالمخاطر أو يتحول إلى معاناة”.

وبحسب “مكتب إعلام الأونروا” على منصات التواصل الاجتماعي فقد تعرضت قافلة كبيرة من شاحنات المساعدات للسرقة من قبل عصابات مسلحة في 16 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي.

وقبل يومين، يقول المفوض العام للأونروا: “حاولنا إدخال عدد من شاحنات الغذاء عبر نفس الطريق وتم الاستيلاء عليها جميعا”، وأضاف: “أصبحت العملية الإنسانية مستحيلة بسبب الحصار المستمر، والعقبات من السلطات الإسرائيلية (..) وانعدام الأمان على طرق المساعدات”.

ووفقا للمفوض العام للوكالة الأممية فإن “‏كل ما سبق أدى إلى انهيار في النظام العام”، وقال إن مسؤولية حماية عمال الإغاثة والمساعدات تقع على عاتق دولة إسرائيل كقوة احتلال، ويتعين عليها ضمان تدفق المساعدات إلى غزة بأمان والامتناع عن شن الهجمات على العاملين في المجال الإنساني.

من جانبه، قال نائب المفوض العام للهيئة الفلسطينية المستقلة لحقوق الإنسان أمجد الشوا للجزيرة نت، بسبب التعقيدات الإسرائيلية والاستيلاء على المساعدات فإن “مخازن الأونروا والغذاء العالمي فارغة”، والناس في غزة يواجهون “كارثة إنسانية ومجاعة غير مسبوقة تتهدد حياتهم”.

شارك المقال
اترك تعليقك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *