لم يتصور طبيب الأسنان الفلسطيني عمرو نعمان موسى أن صورة قديمة لوثيقة زواج جده وجدته نشرها عام 2019 على حسابه الشخصي عبر فيسبوك، وأعاد نشرها قبل أيام، سوف تتحول إلى حديث منصات التواصل الاجتماعي، لتنهال عليه طلبات الإضافة والرسائل، ومشاركة الصورة، التي تحمل توقيعا غير متوقع، حيث تظهر الورقة التي تعود إلى عام 1928، أن المأذون الذي قام بعقد الزواج، ووقع على الوثيقة، التي نتج عنها 7 أبناء و32 حفيدا، هو عز الدين القسام نفسه، العالم والداعية والمجاهد والقائد.
تواصلت الجزيرة نت مع الحفيد، ليحكي عن قصة وثيقة الزواج التاريخية، التي لا تشير فقط إلى عائلة تفرق أفرادها بفعل الاحتلال، والتهجير، ولكن أيضا تحكي قصص بلدات أبيدت، ومدن لم يعد لها وجود.
مهر بالجنيه الفلسطيني
عام 2019، تلقى طبيب الأسنان عمرو نعمان كامل علي محمد الطاهر موسى، المقيم بين كندا والأردن، رسالة من ابن عمه المقيم في جنين بفلسطين، إلكترونيا، وفيها صورة ضوئية لوثيقة زواج الجد والجدة، وحين أمعن طبيب الأسنان في قراءة المكتوب بالوثيقة، شعر بالمفاجأة، حيث كانت تلك هي المرة الأولى التي يكتشف فيها أن من عقد قران جده كامل علي محمد الطاهر موسى، المقيم وقتها في حيفا، على جدته عفيفة عبد الهادي الصالح المقيمة بحيفا أيضا، الرجل نفسه الذي تحمل اسمه كتائب المقاومة حتى اليوم.
مهر بلغ وقتها 100 جنيه فلسطيني، ومأذون هو شخصية تاريخية، ورجل وامرأة، صارا لاحقا بذرة لعائلة جابت العالم، يقول عمرو “مرت 4 سنوات على المنشور، إلا أنه مع تكرار الأحداث أعدت نشره، لكنني لم أتوقع أنه سوف يتنشر بهذه الطريقة، حيث آلاف المرات من المشاركات، وطلبات الإضافة، والتعليقات، وهو ما دفعني لسؤال أهلي في فلسطين لجمع كل الأوراق التي تتحدث عن تاريخنا هناك”.
حياة سعيدة في بلدات أبيدت
لم يعاصر الدكتور عمرو موسى، البالغ من العمر 49 عاما، جده، فقد توفي الأخير في ستينيات القرن الماضي، لكنه يعرف قصته جيدا، فقد رواها له والده غير مرة. يحكي الحفيد قصة الجد من البداية: “ولد جدي كامل في العام 1902، ولما أصبح عمره 12 عاما، توفي والده، فتعلم حتى الصف الثالث الابتدائي فقط، ثم ترك الدراسة، وبدأت رحلته مع العمل، واختار وقتها أن يذهب إلى حيفا، وكانت ميناء مهمة، يأتيها الفلسطينيون والعرب من كل البلاد للعمل. وكانت مدينة فلسطينية مزدهرة، وقد عمل جدي بأكثر من وظيفة هناك، تارة كاتبا في الجمرك، لأنه يعرف القراءة والكتابة، وتارة طباخا في الميناء حيث كان يجيد الطهي، وسكن في منطقة وادي الصليب”.
بحسب كتاب “حيفا في الذاكرة الشفوية: أحياء وبيوت الناس” للكاتبة روضة غنايم فإن حي وادي الصليب يقع في المنطقة السفلية للمنحدر الشمالي الشرقي لجبل الكرمل، وسُمي وادي الصليب بهذا الاسم بسبب تقاطع واديين في مكان واحد، وهو ما يشكل صورة الصليب، وقد تأسس بالقرب من أسوار المدينة القديمة في العام 1761، بعد وقت قصير من إنشاء حيفا الحديثة.
يستكمل عمرو حديثه قائلا: “سكن جدي لاحقا في بيت ببلدة الشيخ، حيث كان مسجد الاستقلال، يقع قريبا من بيت الجد كامل، وكان إمام المسجد وخطيبه في ذلك الوقت هو الشيخ عز الدين القسام، الرجل الذي كان يعرف المنطقة كلها بحكم المساحة، ويحفز أهل البلدة على الجهاد ضد الانتداب البريطاني، ويحذرهم من خطر بريطانيا والصهيونية، ووعد بلفور، وقد عقد قران جدي عام 1928 بحكم قرب بيته للمسجد، وقرب الناس من بعضها في هذا الوقت، ولأنه كان المأذون الشرعي، وبقي الأمر على ما هو عليه حتى اندلعت الحرب العالمية الثانية عام 1939، حينها استأجر جدي بيتا في بلدته الأصلية جنين، بينما واصل عمله في حيفا حتى وقعت النكبة عام 1948، وأبيدت قرية بلدة الشيخ، وانتهى وجود جدي في حيفا”.
وفي كتابه “تاريخ الدماء” يوثق الكاتب أحمد عادل داود مجزرة بلد الشيخ في فلسطين، والتي وقعت في 12 يونيو/حزيران عام 1939، حين هاجمت عصابة الهاغاناه الإرهابية اليهودية قرية بلد الشيخ الواقعة في الجنوب الشرقي لمدينة حيفا.
وقد تكررت المجازر مرة بعد أخرى في بلدة الشيخ التي ما تزال تحمل قبر عز الدين القسام، والذي تعرض للتخريب والاعتداء مرارا من قبل المتطرفين اليهود الذين حطموا شاهد القبر ورسموا نجمة داود عليه عام 2014، لكن قبر الرجل ظل قائما في القرية التي استوطنها المهاجرون الصهيونيون سنة 1949، وأطلقوا عليها اسم تل حنان؛ نسبة إلى حنان زلينجر أحد عناصر الهاغناه الذي قتل خلال الهجوم على القرية وتنفيذ المجزرة في الأول يناير/كانون الثاني 1948. ومنذ عام 1952 أصبح موقع القرية وحي تل حنان جزءا من مدينة نيشر، ويقام حاليا بالقرب من القبر ملعب كرة قدم لنيشر.
أسرة حول العالم
عاد الجد إلى جنين في الضفة الغربية، وكانت تحت الحكم الأردني، حتى تم احتلالها عام 1967، ولكنه توفي قبل النكسة، في جنين، بعد أن أنجب 4 أولاد و3 بنات، علي، ونزيه، ونبيه، ونعمان، وعنان، وعائدة، وهيفاء ولد منهم 4 في حيفا، و3 في جنين.
لم يحظ الأبناء جميعا بالفرص ذاتها في الخروج من فلسطين أو البقاء فيها، حيث رسمت الظروف مستقبلهم، فخرج 3 منهم قبل النكسة للتعلم خارج البلد، منهم والد عمرو، ولكنهم لم يستطيعوا العودة فتفرقوا، منهم من عمل بالخليج، ومنهم من سافر إلى الخارج، وبقي 4 في جنين، البنات الثلاث، وشقيق لهم، يقول عمرو: ” لهذا نحن موزعون بين الأردن والخليج وفلسطين وأميركا وكندا”.
توفي 4 من أبناء الجد كامل، ولم يبق إلا ولدان أعمارهم و82 و90 عاما، بينما الابنة الصغرى عمرها الآن 79 عاما، ما زالت في جنين.
القسيمة التي أعادت الذاكرة
أعادت الورقة التي تعود إلى 95 عاما مضت بعضا من ذاكرة الأسرة للأبناء والأحفاد، الذين يستخدم بعضهم اسم الطاهر، ويستخدم بعضهم الآخر اسم الموسى، ومنهم عمرو الذي أطلق على عيادته اسم “الموسى كلينكس”.
عمرو الذي ولد بالسعودية، وعاش بين الأردن وكندا، أنجب ولدا وابنتين، يدرس اثنين منهما بالجامعة، بينما ما تزال الصغيرة في مرحلة الثانوية. ولا يملكون في موضعهم البعيد في كندا، سوى المقاطعة، والمشاركة بالمظاهرات الداعمة للقضية الفلسطينية، ومشاركة الأحداث في محيطهم عبر صفحاتهم بمواقع التواصل الاجتماعي، والبحث في تاريخهم مع أمنيات متواصلة بأن يعود الحق يوما ما لأصحابه.