في العاصمة الفنلندية هلسنكي، ومع بداية فصل الشتاء، تتلبد السماء بالغيوم، وتنخفض درجات الحرارة إلى الصفر، يبدو الانتقال في الطريق الجليدي نحو المدرسة أو العمل صعبا، وتصبح ممارسة التمارين الرياضية المعتادة أمرا شاقا، لكن الثقافة المحلية تعرف كيفية التغلب على الأمر، لذا فخلال تلك الشهور، يمكنك أن تجد التجمعات العائلية ذاتها على الشواطئ، كما تجد كثيرين منهم يمارسون الرياضة في الهواء الطلق، فضلا عن أداء مهام اليوم المعتادة الأخرى، إنه مفهوم “السيسو” الذي صبغ حياة الفنلنديين منذ مئات السنين، وصنع ما هو أكثر من التغلب على الشتاء القارس.
قدراتك أكبر مما تتخيل
يعود المفهوم للعصور القديمة، حين كان مجرد البقاء على قيد الحياة في فصل الشتاء، يحتاج للنضال، وقد انتقل هذا المعنى من جيل إلى جيل. من الناحية اللغوية تعني كلمة “سيسو” (Sisu) “داخلي”، لذا فهي تُفسر أحيانا على أنها القوة الداخلية، لكن المفهوم في الثقافة الفنلندية يتسع لأكثر من ذلك، إذ يشير إلى العزيمة والمثابرة والصلابة والشجاعة وقوة الإرادة والتصميم في مواجهة الشدائد، وبذل جهد أكبر في مهمة يبدو إنجازها صعبا أو حتى مستحيلا.
يستخدم الفنلنديون هذه الصفات في العمل، بشكل أساسي، لكن المفهوم قابل للتطبيق في نواحي الحياة المختلفة، في العلاقات وتربية الأطفال والعناية بالصحة العقلية والنفسية، والسعي لتحقيق الأهداف، فلدينا جميعا لحظات نحتاج فيها لبذل جهد دون استسلام لاعتقادنا بأننا لسنا قادرين على تحقيق أهدافنا، بداخلنا قوة أكبر مما نعتقد، تمكننا من التحمل الجسدي والنفسي.
في مقال نشرته مجلة إنترناشيونال “جورنال أوف ويل بينغ” عام 2019، أوضحت إميليا إي لاهتي الباحثة بجامعة آلتو بفنلندا، أن فلسفة السيسو تتضمن معاني ثلاثة، الأول هو المثابرة والبحث عن أقصى طاقاتنا وقدراتنا، ومواصلة العمل حين تعيقنا العقبات، حتى تلك التي يبدو لنا من الصعب التغلب عليها، بحيث يمكننا تحقيق ما لم نتصور أن بإمكاننا تحقيقه.
المعنى الثاني هو عقلية العمل، باتخاذ خطوات متواصلة وشجاعة نحو الهدف الذي يبدو بعيد المنال، بثقة أكبر في قدراتنا والسعي إلى التغلب على صورة كل منا عن قدراته، أما الجانب الثالث فهو الوصول إلى القوة الكامنة والقدرة العميقة داخلنا، إنه إزاحة متواصلة لحدود قدراتنا واستخدامها في ظروف صعبة، لتحقيق ما لم نعهده من قبل.
مفهوم صنع تاريخ فنلندا
خلال القرن الماضي، ظهر مفهوم “سيسو” كثيرا، بحيث يمكن القول إنه أحد المفاهيم التي شكلت تاريخ فنلندا وحاضرها، يفسر هذا المفهوم بداية قدرة الفنلنديين على العمل في بلد إسكندنافي، يواجه أشهرا من الشتاء القارس كل عام، كما يفسر حقبا من تاريخ البلد الذي واجه في عقد الأربعينيات من القرن الماضي، أزمات متعددة استطاع التغلب عليها، حين استقلت فنلندا عن روسيا في عام 1917، كان “سيسو” هو المفهوم الذي صاحب المواطنين من أفراد الأمة الشابة لبناء دولتهم الحديثة، ومثّل لهم معنى أسهم في توحيد الأمة وتعريفها.
وخلال فترة بناء الأمة الجديدة، كان مفهوم سيسو “يفسر فنلندا” على حد وصف صحيفة “نيويورك تايمز” التي نشرت في عام 1940 مقالا بعنوان “السيسو: كلمة تشرح فنلندا”، وخلال عامي 1939 و1940 عندما تعرضت فنلندا لهجوم الجيش السوفييتي كان لهذا المفهوم الفضل في مقاومة الفنلنديين للجيش الروسي، على الرغم مما بدا لهم من فرق هائل في القوة، وهكذا استطاعت فنلندا الحفاظ على استقلالها.
وفي العقود التالية تواصلت إنجازات رياضية غير مسبوقة لعدد من الفنلنديين، بينهم فيكا جوستافسون الذي أصبح في عام 1993 أول فنلندي يتسلق جبل إيفرست، وواصل بعدها بعزيمة تسلق قمم الجبال التي يزيد ارتفاعها عن 8 آلاف متر، وتبلغ 14 قمة حول العالم، كما تسلق أعلى القمم في القارة القطبية الجنوبية، وتحدث الرجل عن السيسو، كمعنى ملهم، حتى إن أحد الجبال التي تسلقها في قارة أنتاركتيكا سُمي “جبل سيسو”.
تحديات صعبة في أسعد دول العالم
تؤكد الكاتبة الفنلندية جوانا نيلوند في كتابها “سيسو: فن الشجاعة الفنلندي” أن مفهوم سيسو يختلف عن غيره من الفلسفات المتبعة في بعض الدول الإسكندنافية، وتشير إلى أن تطبيقه يبدأ برحلات طويلة في فصل الشتاء، ووضع تحديات شخصية صعبة، بينما يدعم مفهوم مثل هيج (Hygge) الدانماركي على سبيل المثال، معنى السعادة ويبحث عن لحظات دافئة في فصل الشتاء الطويل، بتجمعات أسرية ومشروبات دافئة، فإن مفهوم سيسو الفنلندي، يتخلى عن المشروب الدافئ، واللحظات السعيدة، ويدعو إلى صنع التحديات ومواجهتها، على كافة مستوياتها، بداية بحمام بارد، ووصولا إلى أهداف أكبر، أنه سعادة الإنجاز والشعور بالسيطرة على الحياة.
على أن المفهوم الذي شكل على هذا النحو ثقافة البلد وتاريخه، ينطوي على جوانب سلبية، وبين الانتقادات الموجهة إليه أنه لا يدع فرصة لإظهار الضعف البشري، فيبدو طلب المساعدة صعبا أمام ثقافة كتلك، كما أنه يحرمهم من التعاطف أحيانا، ويكاد يفرض العمل الشاق فرضا، هذا ما جعل جاذبية المفهوم تتراجع بين الأجيال الشابة، إنها جوانب سلبية لا يغفل عنها مواطنو البلد الذي طالما ارتبط بمعدلات السعادة، فصنف لـ6 سنوات متتالية أسعد دولة في العالم.
المثابرة سمة إيجابية بالتأكيد، لكنها قد لا تكون الخيار الصحيح دائما، فأحيانا يكون علينا بالفعل التوقف عن السعي في تحقيق هدف ما، والمضي قدما في طريق آخر، كما أن محاولة دفع حدود قدراتنا يجب أن تقترن بالتقدير المناسب لمدى تحملنا، يمكن القول إذن إن تطبيق هذا المفهوم في جوانب حياتنا يجب أن يكون بتوازن يتيح لنا التقدم، التوازن إذن هو السر في أن يكون لتطبيق هذا المفهوم صدى جيدا في حياتنا، إنه يعني بشكل عام أن تدفع نفسك خارج منطقة الراحة، لاكتشاف مزيد من القدرات، والتغلب على الأزمات.