في الليلة الأخيرة من ذي القعدة ظهر هلال الحج على استحياء في الدول العربية، ثبت قليلا ثم غاب، ليُعلن عن دخول شهر ذي الحجة.
يبدو أن الهلال عرف ما يحل بالمنطقة وأن موسم العيد لهذا العام لن يكون كما غيره مما سلف، فلن تتزين منازل أهل غزة بآيات الحج على جدران بيوت الحجاج، ولن تغني النساء أهازيج “التحنين” التي تلقينها بفرحة واشتياق للحج في وداع حجاجهن “مسعدة يا حاجة يا رايحة المدينة.. مسعدة يا حاجة ونلتي هالحجة”. سيختفي كذلك هذا العام مهرجان الخيول، تلك العادة السنوية لشباب مخيم النصيرات في عيد الأضحى.
وليست فقط الأهازيج والدعوات والمهرجانات هي التي اختفت من أجواء عيد الأضحى في غزة، فـ”لمة الشراك” غابت أيضا.
الشراك
هو خبز الصاج الفلسطيني الذي كانت تعده نساء العائلات الغزاوية قبل يومين أو ثلاثة من وقفة عرفات، كما تروي عايدة شعت (33 عاما) مدرسة الرياضيات القادمة من غزة إلى مصر قبيل رمضان الماضي، رغم كل محاولاتها للتأقلم على الحياة في مصر، إلا أنها لا تزال (تحن إلى خبز أمها).
تحكي عايدة عن الشراك الفلسطيني “هو نوع من الخبز الذي يدخل في إعداد أطباق عيد الأضحى، وكان من عادات العيد لدى أسرتنا أن تجتمع أمي مع قريباتها ونسوة الجيران، لتجهيز خبز الصاج قبل أيام من العيد، وتتعالى أصواتهن بأغاني الحج والإنشاد وفرحة الأطفال بخروف العيد” وأضافت “اختفى كل شيء، لا خبز ولا بهجة ولا عيد”.
وتقول للجزيرة نت “إن الفتة هي الطبق الرئيسي في يوم العيد لدى أهل غزة، بينما يختلف أهل الضفة الغربية، كونهم يفضلون المنسف أول أيام العيد” هذا التقسيم الجغرافي للطبق الرئيسي لعيد الأضحى والذي يتبع بشكل لا إرادي التقسيم الإداري للإقليم الفلسطيني المحرر.
وما بين الفتة المصرية والمنسف الأردني، كان خبز “الشراك” هو الأصل الفلسطيني الذي تحرص نساء غزة على تضمينه على مائدة العيد خاصتهن مع لحم الضأن والأرز المصري.
السماقية وجبة اللحم بالسماق
الشراك الفلسطيني ليس العادة الوحيدة لأهل غزة في عيد الأضحى، بل تتصدر “السماقية” وجبات العيد التراثية التي كانت تشترك في صنعها الغزيات، على مدار يوم كامل أو يومين قبل العيد، وتشرف عليهن إحدى السيدات ذوات الخبرة العمرية بالأكلات القديمة.
وتحكي عايدة للجزيرة نت أن خبز الصاج قد تصنعه هي هذا العام قبل العيد في منزلها بمدينة بدر (شرق القاهرة) لكن يستحيل عليهم صنع السماقية التي تحتاج أشياء خاصة من الصعب توافرها بعيدا عن غزة، حيث تجتمع 10 نسوة على الأقل في منزل إحداهن ويقمن بإعداد السماقية في طناجر كبيرة.
وتتكون السماقية من السماق كمكون رئيسي، والبصل البلدي ونبات السلق، والثوم والطحينة وقطع صغيرة من لحم العجل، وهو “الطبق الذي لا يؤكل على انفراد في غزة” -كما تقول عايدة- فالسماقية ورغم احتوائها على اللحم لكنها تعامل في غزة كما البصارة هنا في مصر، فهي الأكلة التراثية التي لا يخلو بيت في غزة من أحد يتفنن في صنعها.
معلاق الخروف
لا تزال رائحة المعلاق الفلسطيني تملأ أنف محمد يحيي (30 عاما) والقادم من غزة إلى مصر، مع مطلع عام 2024. ويتذكر طبق العلاقي الذي كانت تعده أمه صباح العيد فور ذبح الأضحية، ثم يتشارك مع أخوته تناوله كوجبة فطور شهية غابت عاداتها ورائحتها لا تزال في الذاكرة.
ولا يعرف يحيى على وجه الدقة كيف كانت أمه تعد العلاقي، لكنه يعرف المكونات الرئيسية للطبق الأشهر للإفطار يوم العيد “الكبدة والقلب والكلاوي مع قطع اللحم الصغيرة مضافا إليها البهارات والملح والفلفل وقطع من البصل المفروم وقليل من الثوم، وحبات من الطماطم، وتقلب جميعها مع البصل والطماطم”.
ويعتقد يحيى أن أمه كانت تضع مكونا سريا في كل طعام تقدمه لهم، حتى أنه لم يكن يستسيغ طبخا من غيرها، لكنه بعد فراقه لغزة وقدومه إلى مصر، عرف أن المكون السري لم يكن من صنع أمه لكنه رائحة الوطن.
المفتول الفلسطيني باللحم
ومن تونس، عرف أهل الشام وفلسطين طبق “الكسكسي باللحم” الطعام التونسي الأشهر حول العالم. لكن في فلسطين وبالأخص غزة، تغيرت خصائص الطبق التونسي، وغاب عنه اللحم وبرز الدجاج كعلامة له. ولا تتغير تلك المكونات إلا في عيد الأضحى، فيعود المفتول إلى أصوله بلحم الضأن لكنه يحافظ على القوام السميك عن مثيله التونسي الأكثر نعومة وصغرا لحباته.
والمفتول الفلسطيني في عيد الأضحى من علامات مائدة الضيافة الغزاوية، فهو يضفي الكثير من الهيبة على المائدة خاصة إذا جاورته الفتة ذات الأصول المصرية، وتتنافس الأطباق في سياق شهي بعيدا عن صراع الهويات الذي كان يثير الضحك على مائدة “أم آية” المصرية التي تزوجت في غزة منذ 40 عاما، وأسست عائلتها هناك، ثم اضطرتها ظروف الحرب للعودة إلى القاهرة مرة أخرى بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول من العام الماضي.
تقول “أم آية” (62 عاما) إنها كانت دائما تميل إلى صنع الفتة المصرية بالصلصة الشهيرة، وإضافة مزيج الخل والثوم إليها، فتثير رائحتها شهية جيرانها الغزاويين، ويتبادلون معها أطباقهم للمفتول مع طبقها للفتة المصرية، وسرعان ما أتقنت هي طبخ المفتول، بعد أن عرفت أنه لا يختلف عن الكسكسي المصري فـ”العجينة واحدة، الفارق لدينا نضيف إليه السمن والسكر والمكسرات ليصبح طبقا للحلو، أما في غزة فنصنعه بالمرق واللحم والخضار”.
المقلوبة والمشاوي الفلسطينية
ورغم انتشار المقلوبة الفلسطينية كوجبة طعام شهيرة في مصر، تقدمها العديد من المطاعم، ومطابخ الطعام السورية والفلسطينية. وتعتبر مكوناتها من الأرز طويل الحبة والخضار المقلي المكون من الباذنجان والبطاطس والطماطم، واللحم أو الدجاج، من المكونات الموجودة بسهولة في مصر، إلا أنها لم تلق رواجا كبيرا لدى الذائقة المصرية مقارنة بالكبسة الخليجية التي تتشابه معها نوعا ما.
ورغم أن المقلوبة الفلسطينية من أشهر أطباق عيد الأضحى، خاصة تلك التي تعتمد على اللحم، إلا أنها لا تترك مكانا متسعا للمشاوي الفلسطينية الشهية التي لا تتشابه مع المشاوي الأخرى سواء من مصر أو الخليج. فتقول “أم آية” للجزيرة نت إن المصريين يفضلون كثرة الدهون في المشاوي، وهي بالفعل تمنحها مذاقا خاصا “لكن نحن نعتمد في المشاوي على اللحم قليل الدهن مع أعلى نسبة للخضار مضافا إليه، والبعض يضيف البرغل أيضا لإضافة نكهة فلسطينية لا تقاوم في أصابع الكفتة المشوية. أما الكباب الغزاوي فهو لا يشبه المصري كثير العظام، لكنه لحم صاف وناعم ويعتمد نضجه على مدة بقائه في وصفة التحضير المكونة من البصل مع الزبادي والسماق والبهارات الخاصة بالمشاوي مع إضافة دبس الرمان والصويا لمنحه لونا ومذاقا مختلفا.