مع ساعات الصباح الأولى، تبدأ عربات المترو في نقل الآلاف من العمال من الأحياء الفقيرة بالعاصمة تونس نحو المناطق الصناعية وإلى المؤسسات الحكومية وشركات القطاع الخاص.
وقبل نحو 40 عاما، دخلت أولى العربات المصنعة في مدينة دوسلدورف الألمانية الخدمة على شبكة مترو العاصمة بتونس، وحتى اليوم لا تزال هذه العربات المميزة بألوانها الخضراء تؤدي واجباتها دون توقف، لكنها في حالة استنزاف شديد.
وتُصنف شبكة المترو بأنها أفضل مشروع في قطاع النقل العام للحكومة التونسية في النصف الثاني من القرن الـ20، ومنذ بدء تشغيل أول خط في عام 1985 توسعت الشبكة لتشمل 6 خطوط.
بدايات التأسيس
وتعود بدايات التأسيس لخطوط السكك الحديدية بالعاصمة إلى النصف الثاني من القرن الـ19، لكن التدشين الفعلي لأول خط يربط مدينة تونس بالضاحية الشمالية حلق الوادي كان في عام 1872 تحت حكم البايات. ويعمل هذا الخط حتى اليوم.
استخدمت مدينة تونس لاحقا التراموي بدءا من عام 1886، وظلت تعمل حتى منتصف القرن الـ20 قبل إحالتها على التقاعد نهائيا.
وتفيد معلومات “شركة نقل تونس” بأن الدراسات الخاصة بشكبة المترو بدأت عام 1974، ومن ثم بدأت أشغال وضع الشبكة عام 1980، لينطلق الاستغلال الفعلي لأول خطوط الشبكة في أكتوبر/تشرين الأول 1985.
داخل العربات الألمانية يمكن قراءة مدينة المنشأ دوسلدورف على ملصقات صغيرة، ويعد بداية استخدام هذه العربات ثورة حقيقية لحركة النقل بالعاصمة مع تزايد أعداد السكان والأنشطة الاقتصادية، حيث تضم اليوم أكثر من 3 ملايين ساكن، أي حوالي ربع سكان البلاد.
تقادم الأسطول
لكن منذ نحو عقد دخلت العربات الألمانية مرحلة الاستنزاف القصوى بعد أن شكلت علامة أساسية لحقبة بأكملها من تاريخ العاصمة.
وأثناء مرور المترو على طول السكك الممتدة من حي الانطلاقة غرب العاصمة إلى المحطة المركزية بساحة برشلونة، باتت رؤية أبواب العربات مفتوحة أمرا مألوفا. وفي الداخل تعكس بقايا الزيوت والشحوم السوداء المطلخة في زوايا العربات والأرضية الممزقة عمليات الترقيع المستمرة للعربات.
وقال المدير المركزي في شركة “نقل تونس” شكري بن غانم إن 50% من الأسطول في حالة عطب ولا يستعمل، وإن العربات بدأت تتآكل.
وعلى الرغم من الدفع بعدد من العربات الحديثة المصنعة من شركة “ألستوم” الفرنسية منذ 2010 ضمن خطط الحكومة لتجديد أسطول شبكة المترو، فإن العربات الألمانية لا تزال تسيطر الأسطول المستخدم.
وقال الطاهر الزيدي من نقابة عمال شركة “نقل تونس”: أسطول العربات في وضع سيئ جدا بسبب غياب الصيانة وعجز الشركة عن توفير قطع الغيار وتقادم الأسطول الذي يفوق عمره 37 عاما.
وتواجه الشركة معضلة أخرى وهي عزوف مزودي قطع الغيار عن التعامل معها بسبب شح السيولة وتراكم الديون، مما يجعل خطوط المواصلات تعمل في ظل نقص مستمر لقطع الغيار.
ومثل أغلب المؤسسات العمومية، تعاني شركة “نقل تونس” عجزا ماليا بلغ 235 مليون دينار (75.8 مليون دولار أميركي) في 2022، ليبلغ إجمالي ديونها نحو 627 مليون دولار.
وأدى ذلك في نهاية المطاف إلى اقتصار خدمة شبكة المترو على 26 عربة بدلا من 126، مما تسبب في ضغط شديد في الخدمات لا سيما وقت الذروة.
وضاعفت الحرارة القياسية التي شهدتها البلاد في يوليو/تموز الماضي من الأزمة بسبب الأعطاب المستجدة على بعض العربات في أنظمة التكييف، مما تسبب في اضطراب الرحلات وشلل بالعاصمة.
أزمة عامة للنقل
لا تعد شبكة المترو الطرف الوحيد في معضلة النقل بالعاصمة التونسية، فالأزمة تشمل أغلب المواصلات العمومية، وأولاها الحافلات. وبحسب إحصاءات شركة نقل تونس، فإن حالة “الهرم” والأعطاب تسببت عام 2022 في خسارة حوالي نصف عدد الحافلات المستخدمة منذ عام 2010.
ويمثل هذا الوضع مشكلة حقيقية أمام الحكومة من أجل احتواء الضغط المضاعف على قطاع النقل والزحام الشديد بالتزامن مع بدء الموسم الدراسي والجامعي وذروة التنقل لموظفي القطاع العام في إقليم تونس الكبرى، التي تضم العاصمة والولايات الثلاث المتاخمة لها.
حافلات لمواجهة الأزمة
ولمجابهة هذه الأزمة، استلمت تونس دفعة مكونة من 122 حافلة فرنسية مستعملة للحد من الضغط في قطاع النقل وبكلفة منخفضة في ظل الأزمة التي تعصف بالمالية العامة. وهذه الدفعة جزء من صفقة اقتناء تشمل 300 حافلة وقعتها شركة “نقل تونس” مع “الوكالة المستقلة للنقل بباريس” بكلفة تناهز 1.5 مليون دولار. وتقول الوزارة إن الحافلات تحمل مواصفات إيكولوجية.
وقال وزير النقل ربيع المجيدي إن اقتناء الحافلات الفرنسية هو “حل ظرفي” بسبب “الجاهزية المتدنية للأسطول وندرة قطع الغيار، وبسبب الوضعية المالية الصعبة لشركة نقل تونس، وتعطل صفقات مع مزودين قبل سنوات”.
وسبق لتونس أن وقعت صفقات اقتناء مماثلة لحافلات مع المزود نفسه في أعوام 2015 و2016 و2017.
كما تقول الحكومة إنها تعمل على إقامة شراكات مع ألمانيا من أجل الاستفادة من خبرات هذا البلد في مجال النقل والسكك الحديدية. ويقول المدير المساعد للغرفة التونسية الألمانية للصناعة والتجارة مكرم بن حميدة إن مشروع الشراكة في مجال السكك الحديدية سيكون في إطار التعاون الدولي التونسي الألماني، وهو ممول من وزارة الاقتصاد وحماية المحيط الألمانية.
وفقا للمسؤول بالغرفة، بدأ تنفيذ مشروع الشراكة منذ العام 2019 بمشاركة 12 شركة ألمانية عاملة في السكك الحديدية.