غادر أكثر من 10 ملايين منازلهم إثر اندلاع الحرب في السودان في أبريل/نيسان 2023 ونزحوا داخل البلاد وخارجها. وبحكم الجيرة شكلت مصر إحدى المحطات الأولى للفارين من القتال.
بحسب إحصاءات الأمم المتحدة، لجأ إلى مصر نحو 460 ألف نازح من السودان، ويرتفع الرقم إلى أكثر من مليون في بيانات المجلس الأعلى للجالية السودانية في مصر، التي تذكر أن أعداد أفراد الجالية يصل إلى 4 ملايين.
وقد حرمت الحرب وأهوالها أغلب النازحين من الاندماج مع طقوس الشهر الكريم، وحاليا يعيش النازحون رمضانهم الثاني، الذي يلمح فيه بعضهم اختلافات بين رمضان في مصر وفي السودان، ويتذكرون تفاصيل ارتبطت بشهر الصوم في بلادهم.
إلى حدود السماء
لرمضان السودان طقوس خاصة تبدأ قبل بداية الشهر بأسابيع، بحسب نهى رضا في حديثها للجزيرة نت.
تقول السيدة الأربعينية إنه مع بداية شهر شعبان تنبعث من المنازل السودانية رائحة جميلة تصل إلى حدود السماء، وهي رائحة “الأبري” أو “الحلو مر”، وهو بمثابة المشروب الوطني على مائدة الإفطار في السودان.
تقول نهى إن تحضير “الحلو مر” يحتاج إلى أسابيع، وهو عبارة عن خليط من التوابل ونوع معين من العجينة وخليط من دقيق الذرة المخمرة وبعض الأعشاب.
بجانب “الحلو مر” هناك أنواع أخرى من العصائر السودانية مثل “العرديب” وهو مقابل عصير “التمر هندي” المصري، وكذلك عصير “التبلدي أو الجونجليز”، لكن نهى تؤكد أن العصير الأساسي الذي لا يمكن الاستغناء عنه طوال الـ30 يوما، هو عصير “الحلو مر”.
تقول نهى، إن من أشكال الاستعداد لرمضان في السودان، أيضا، “تجفيف البصل والبامية واللحم بطريقة معينة لعمل أكلات تقليدية خلال الشهر الفضيل”.
ووجدت نهى صعوبات في الحصول على المواد الأساسية لصنع عصائر وأكلات سودانية، وتقول: “بحثت كثيرا وتعبت، حتى وصلت إلى تاجر سوداني يبيع العجين والتوابل وكل الأشياء المخصوصة بطعامنا والعصائر السودانية”.
أطباق مميزة
تختلف مائدة الإفطار السودانية عن المصرية. وفي الوقت الذي تذكر فيه نهى أن الإفطار المصري يعتمد بصورة أكبر على اللحوم والدجاج والطبخ، فإن المائدة السودانية مميزة بأكلات لا تفارقها طوال شهر رمضان.
تقول نهى: “الفول والطعمية أطباق أساسية على مائدة الإفطار السودانية، في حين أن المصريين يتناولونهما في السحور، ومن المستحيل أن يتناولوهما في الإفطار”.
وتذكر نهى أشهر الأكلات السودانية على مائدة الإفطار، منها “العصيدة” التي توجد على مدار 30 يوما على المائدة، وتؤكل بـالـ”ملاحات” وهي أنواع من “الصلصة”. “ملاح النعيمية” أو “ملاح التقيلية” وهو عبارة عن لحم مفروم وبامية مجففة ومسحوقة مع صلصة الطماطم والبصل، و”ملاح الروب” يصنع من الزبادي والبصل والتوابل.
وتكمل نهى: “يجب أن يوجد أيضا اللحم أو الدجاج، والدمعة السودانية سواء كانت باللحم أو الدجاج وتطبخ بالبصل والطماطم والثوم والكزبرة”.
كما تعد “البليلة” طبق رئيسي على مائدة الإفطار، ورغم تشابه اسمها مع “البليلة” المصرية المصنوعة من القمح المجروش، فإن “البليلة السودانية” هي فاصوليا حمراء ويطبخ معها الذرة و”التورة” أي الخبز الجاف والشمار والملح والليمون.
“القراصة” أيضا، طبق رئيسي على المائدة السودانية، وهو نوع من الخبز يصنع بعجينة تشبه عجينة “القطايف” لكنها أقل سمكا منها، إضافة إلى الحساء.
وبعد الإفطار بـ4 أو 5 ساعات يتناول السودانيون العشاء، تقول نهى: “قبل الساعة 12 مساء، نتناول العشاء وعادة ما يكون الطعام الفائض من مائدة الإفطار. وقبل الفجر نتسحر رقاق ولبن فقط”.
في مواجهة الغربة
على الرغم من افتقاد نهى، التي تسكن في حي التجمع الخامس بالقاهرة، الاجتماع بالأهل والجيران كما اعتادت في السودان، “لأن بعد الحرب تفرقت العائلة والأصدقاء إلى دول كثيرة، فصعبت علينا اللمة الحلوة التي كانت تميزنا في السودان”، فإنها تجد في مصر عوضا وتقاربا لم يشعرها بالغربة.
تقول: “رمضان في مصر جميل وفيه روحانيات عالية، أشياء كثيرة فيه تذكرنا بالسودان، مثل موائد الرحمن، والحقيبة الرمضانية لمساعدة الأسر المتعففة، وكذلك، مساعدة المساكين بالصدقات وأعمال الخير موجودة في مصر، وكذلك الفرحة والاحتفالات بقدوم رمضان من زينة معلقة على البيوت وفي الشوارع تذكرنا بالسودان، لكن زينة رمضان في مصر أحلى ومتنوعة أكثر”.
وحتى تشعر المواطنة السودانية أنها تقضي رمضان في بلدها، تتناول الإفطار معظم الأيام مع أسرتها وأصدقائها الذين وصلوا إلى مصر، وتضيف: “بعد الإفطار نتجمع معا ونذهب إلى المسجد مع الأطفال نصلي العشاء والتراويح ونذكر النبي محمد عليه الصلاة والسلام كما كنا نفعل في حلقات الذكر في الجوامع في السودان”.
وتتابع: “نفتقد السودان بشدة، لكننا نشعر أننا في بلدنا الثاني ونحاول نعوض ذلك من خلال تقديم المساعدات، والتراويح ولمة الأهل”.
“البرش”.. إفطار الجيران والأهل
مائدة الرحمن، عنصر أساسي في رمضان مصر ورمضان السودان، على حد سواء. وهي عبارة عن مائدة إفطار تقام في الشوارع والميادين لإفطار العابرين والفقراء. لكن عبد العزيز هارون، تاجر أربعيني، يفتقد “البرش” الذي اعتادها في السودان.
يقول هارون، الذي يسكن في حي الرحاب في محافظة القاهرة، إن أكثر ما يفتقده هو الإفطار مع الأهل والجيران في “البرش”، ويحكي لـ”الجزيرة نت” أن “البرش” هو افتراش الأرض أمام البيوت بـ”السجاجيد” الكبيرة التي تصل بيت بآخر، حيث يتجمع الجيران والأهل للإفطار معا طوال شهر رمضان، و”في مصر التجمع محدود على نطاق الأسر الصغيرة أو الأقارب فقط”.
ويذكر المواطن السوداني نهار رمضان في بلاده، وكيف يقصد الشباب ضفاف الأنهار، خصوصا قرب ملتقى النيلين عند جزيرة توتي التي تتوسط مدن العاصمة السودانية في الخرطوم وأمدرمان، للتخفيف من حرارة الطقس، “لكن الطقس في مصر بارد”.
أما “المسيد” الذي يوجد طول العام، فيكون له نشاط أكبر في رمضان. ويصف هارون “المسيد” بأنه عبارة عن قطعة أرض كبيرة في أكثر من منطقة، تضم مسجدا، وفصولا للطلبة لتحفيظ القرآن وتعلم أمور الدين، ومضيفة للزوار، إضافة إلى “التكية”، وهي مطبخ كبير لصنع الطعام للوافدين والزوار والدارسين والشيوخ.
ويقول: “في شهر رمضان يكثر مدح النبي والذكر، ويقام في المسيد احتفاليات حفظ القرآن ومسابقات دينية وإطعام، فكان هو وجهتنا بعد الإفطار حتى صلاة التراويح”.
ورغم افتقاد عبد العزيز قضاء رمضان في السودان التي يتمنى أن تستقر فيها الأوضاع حتى يعود مع أسرته، فإنه يصف رمضان مصر بـ”الغني، فالشوارع مستيقظة طوال اليوم، والإضاءات والزينة في كل مكان، حتى البرامج التلفزيونية والدراما المصرية أكثر بكثير من السودانية. رغم بعض الاختلافات، لكن رمضان في مصر شبيه برمضان السودان إلى حد كبير، يجعلك تشعر بالألفة حتى لو بعيدا عن الجيران والأصدقاء”.