يعد الربيع فصل الازدهار والخضرة والهواء اللطيف، هكذا كان الربيع يأتي دوما بالنسبة لأهل غزة، قبل أن تسلبهم حياة الخيام واللجوء أبسط أمنياتهم بالاستمتاع بهواء عليل ونسمة باردة تخفف عنهم ويلات ارتفاع الحرارة.
كان الربيع مختلفا باحتفالاته وطعامه وطقوسه التي عاشها الغزاويون على أرضهم قبل أن يضطروا لمغادرتها، وبرغم أن “شم النسيم” عادة مصرية فرعونية، فإن بين الغزيين والمصريين تاريخًا وتراثًا بل ومطبخا مشتركا؛ أبرز معالمه الرنجة والفسيخ الغزاوي.
النزوح الغزاوي إلى مصر، حمل معه الكثير من إرث الطعام الفلسطيني، فبرع الكثير من أهل غزة في مصر في الحفاظ على طرقهم التقليدية في الاحتفال بالمناسبات المختلفة، لا سيما الأعياد واحتفال شم النسيم الذي بدأ منذ الجمعة الأخيرة من شهر أبريل/نيسان.
الفسيخ الفلسطيني ينافس المصري في أعياد الربيع
وبرغم الحزن البادي على وجوه أهل غزة في مصر، فإنهم مستمرون بالمقاومة عبر إحياء تراثهم من المأكولات المرتبطة به في فترات الأعياد وشم النسيم.
“الرنجة والفسيخ هي مأكولات مصرية بالأساس لكنها عرفت الطريق إلى غزة منذ سنوات طويلة، وهناك أضفنا لها نكهتنا الخاصة والتي أعطتها مذاقا خاصا يعرفه كل أهل فلسطين”، يحكي أبو أحمد البالغ من العمر 40 عاما، والذي كان يعمل بمجال البناء في غزة، قبل أن يحترف تخليل وبيع الرنجة والفسيخ الغزاوي في مصر.
يقول أبو أحمد للجزيرة نت، إن الاختلاف الرئيسي بين الفسيخ المصري والفسيخ الفلسطيني يكمن في التوابل الغزاوية والكركم التي تضاف للتمليح، بالإضافة إلى أنه يقلى في زيت ساخن قبل تمام نضجه.
وفي الوقت الذي يتم في استخدام أسماك البوري في صنع الفسيخ المصري، يستخدم أهل غزة سمك الجرع، أو ما يعرف بمصر باسم سمك “لون” لكن مع قلته في مصر، استخدم أبو أحمد السمك البوري مع كميات كبيرة من الكركم والعصفر والملح للإنضاج.
وفي غزة، يقدم الفسيخ إما مقليا بعد نضجه في التخليل، أو يقدم مع اليخنة، وهي عبارة عن وضع عصير الطماطم مضافا إليه البصل والثوم في الزيت الذي سبق فيه قلي الفسيخ ويضاف إليها الملح والكمون، وتقدم ساخنة كطبق جانبي مع الفسيخ المقلي.
أما الرنجة الغزاوية، فتختلف أيضا عن مثيلتها المصرية، التي تأتي في الغالب مستوردة، لكن الرنجة الغزاوية تصنع من سمك الماكريل، وهو سمك يأتي من البلدان الإسكندنافية، وعلى عكس الرنجة المصرية التي تباع مغلقة كاملة الأحشاء، ويقبل المصريون على أكل أحشائها أو ما يسمى “البطارخ”، ويرتفع ثمن الرنجة كلما كان “البطروخ” خشنا وليس ناعما.
أما الرنجة الغزاوية، فتباع منظفة الأحشاء ولا تحتوي على البطارخ، كما يقول أبو أحمد “نحن نغسل السمكة وننظفها جيدا ونقوم بنقعها في الملح لحوالي 12 ساعة، ثم نقوم بتدخينها لـ6 ساعات ثم تحفظ في الثلاجات”.
البراد الغزاوي.. مشروب الانتعاش بروح الليمون
وليس بالفسيخ والرنجة فقط يحفظ الغزاوي إرثه من الطعام الفلسطيني، فمع بداية ارتفاع درجات الحرارة، راج على مواقع التواصل الاجتماعي ما يسمى “البراد الفلسطيني”، وهو كيس صغير يحتوي على مكونات مختلفة لصنع عصير منعش مناسب للأجواء الحارة التي تعيشها القاهرة ومحافظات مصر المختلفة.
يتكون العصير الغزاوي الشهير من مكون أساسي يطلق عليه “روح البراد” وهي المادة التي يحويها الكيس الصغير الذي يباع في القاهرة بـ90 جنيها مصريا (1.88 دولار أميركي)، وهي كمية تكفي لحوالي 50 كوبا.
يتكون عصير البراد الغزاوي من حوالي 1.5 لتر من الحليب، و9 حبات من الليمون، وملعقتين من الحليب المجفف، وملعقة كبيرة من النشا، و4 قطرات من روح البراد “المعروف بغزة”، وملعقة صغيرة من لون الزعفران أو صبغة البراد إذا توفرت، شهد بيع البراد الغزاوي إقبالا كبيرا في مصر، من الفلسطينيين والمصريين الذين أقبلوا على تجربة المشروب المنعش الأشهر في غزة.
الزعتر وزيت الزيتون والمسفن “المجدلاوي” الفلسطيني بزيت الزيتون وحبة البركة، هي أيضا من الأطعمة الفلسطينية التي حرص أهل غزة في مصر على استمرارها معهم، فتقول صابرين عبد الله (27 عاما)، التي قدمت مع أسرتها من غزة إلى القاهرة قبل أسبوع من بداية شهر رمضان، إنها حرصت على حمل الزعتر وزيت الزيتون معها من غزة إلى القاهرة، ولم تكن تعلم أنه سيكون مصدر رزقها وعائلتها، لكنها حين حملته لم تفكر سوى في أنه سيكون طعاما متاحا حين تخوى البطون.
وأضافت صابرين للجزيرة نت، “حملته معي إلى مصر، وعندما وصلنا نسينا الجوع بعد أن شملنا أهل مصر برعايتهم، وفكرت في استغلال الكميات التي حملتها معي من غزة لتكون مصدر رزقي، ثم بدأت في صنعه منزليا بعد زيادة الإقبال عليه”.
من الزعتر الجاف والسماق والسمسم والكمون المطحون والكراوية ومعهم زيت الزيتون، تصنع صابرين خلطتها المميزة للزعتر الغزاوي، وتبيعه بـ260 جنيها للكيلوغرام.
ورغم عدم اعتياد المطبخ المصري على الزعتر، فإنه شهد رواجا مؤخرا منذ قدوم السوريين إلى مصر، وانتشار محال الأطعمة السورية التي تقدم المناقيش بالزعتر كجزء من مقبلات الطعام، بالإضافة إلى طبق الضيافة الرئيسي المكون من طبق الزعتر مع زيت الزيتون.
وبرغم أن الأطباق الفلسطينية حديثة العهد في الوصول إلى القاهرة، فإن شهية المصريين لا تزال في انتظار المزيد منها في صورة تعكس امتزاج الثقافتين الفلسطينية والمصرية.