عند طلب الحصول على قرض بنكي في أي مكان في العالم، فإنك قد تحتاج لتقديم ضمانات بنكية مثل الذهب أو العقارات. لكن الوضع مختلف قليلا في منطقة “إميليا-رومانيا” في شمال إيطاليا، إذ يتميز بنك “كريديتو إيميليانو” العريق، بقبوله ضمانات بنكية تقليدية، بالإضافة إلى نوع خاص من الضمانات، وهي أقراص جبن البارميزان الأصلي المصنوعة في بارما، أو المعروفة بالإيطالية بـ”بارميجيانو ريجيانو”.
لا تتعجب، فجبن البارميزان الإيطالي له قيمته الكبيرة كسلعة محلية وعالمية، إذ يمكن أن تصل قيمة قرص الجبن الواحد إلى آلاف الدولارات.
البارميزان.. “ملك الأجبان”
في عام 2024، أطلق موقع “تايست أطلس” المتخصص في الأطعمة التقليدية عالميا دليله السنوي لأفضل 100 نوع من الأجبان. وبناء على آراء أبرز النقاد وخبراء الطعام، اختير جبن البارميزان الإيطالي كأفضل جبن عالمي.
لم يصل جبن البارميزان الإيطالي إلى عرش الأجبان عبثا، فصناعته تتطلب العديد من الخطوات والوقت للوصول إلى نكهته الفريدة، وقوامه الصلب الجاف، ومذاقه الحاد الشبيه بنكهة الجوز.
يعود تاريخ صناعة جبن البارميزان إلى القرون الوسطى في إيطاليا، حيث كان ينتج بعناية فائقة من قبل الرهبان في أديرة منطقة بارما. اعتمد الرهبان على مكونات طبيعية محلية متوفرة في المنطقة، وأهمها لبن الأبقار المرباة في المراعي الطبيعية، والتي لا تأكل سوى العشب والقش، دون أي أعلاف مصنعة أو إضافات حيوانية محظورة، وفقا لقواعد اتحاد البارميزان.
يُستخدم اللبن الخام غير المبستر، ومن ثم يتم تسخينه وإضافة المنفحة -وهي إنزيم يستخرج من معدة العجول ويساعد على تخمير اللبن وتخسره- وبعد الحصول على القوام المطلوب للجبن وتشكيله في القوالب، يُغمر في محلول ملحي من المياه وأملاح البحر المتوسط لمدة 20 يوما للحصول على المذاق المرغوب، وبعد ذلك يتم تخزين أقراص الجبن في غرف إنضاج كبيرة، حيث يتم التحكم في درجة الحرارة والرطوبة بداخلها، ويُحفظ الجبن لمدة لا تقل عن 12 شهرا. ولضمان نضج الجبن بشكل مثالي، يتم تقليب أقراص الجبن وفحصها بشكل دوري.
وبعد انتهاء فترة الإنضاج، يتم اختبار كل قرص بارميزان على حدة، فتحصل الأقراص التي تنجح في الاختبار على ختم “بارميجيانو ريجيانو” الحقيقي، أما الأقراص التي لا تتوافق مع المعايير، فيتم بيعها كنوع أقل جودة.
أثر جبن البارميزان بشكل كبير في المطبخ الإيطالي والمطابخ الأوروبية، حيث يتم استخدامها بشكل واسع في تحضير الأطباق الشهيرة مثل الباستا (المعكرونة) والريزوتو (الأرز الإيطالي). ومع انتشار الثقافة الإيطالية حول العالم، انتشر جبن البارميزان، وأصبحت جزءا لا يتجزأ من المطابخ العالمية، حيث يستخدم في تحضير مجموعة متنوعة من الأطباق لإضافة نكهة فريدة ومميزة.
وبالإضافة إلى الطعم الغني القوي، تتميز جبن البارميزان بخصائص فريدة تجعلها مميزة عن غيرها من الأصناف. تحتوي على نسبة عالية من البروتين والكالسيوم، مما يجعلها مفيدة لصحة العظام والأسنان. ورغم كونها غنية بالدهون، فإنها تعتبر منخفضة السعرات الحرارية، مما يجعلها خيارا مثاليا للأشخاص الذين يتبعون نظاما غذائيا متوازنا، كما أنها مصدر رائع لفيتامين ب12 وفيتامين أ وفيتامين د.
ولكن كل هذه الخصائص الصحية والغذائية لا يمكن الحصول عليها إلا في جبن البارميزان الحقيقة المصنوعة بالمكونات الطبيعية فقط.
هل ما نأكله حقا بارميزان؟
في كتابه “طعام حقيقي، طعام مزيف” (Real Food, Fake Food) الصادر عام 2016 يتحدث الكاتب والصحفي لاري أولمستيد المتخصص في مجالات السفر والترفيه والطعام عن الجبن البارميزان فيقول:
البارميزان جبن طبيعي جدا وصحي جدا ولذيذ جدا ومتماسك جدا. ورائع في حد ذاته، سواء كان في صورة قطع، أو حلقات أو مبشورة في الأطعمة، مطبوخة أو غير مطبوخة. حتى إنها اكتسبت لقب “ملك الجبن” في صناعة الألبان، ولكن هناك مشكلة واحدة كبيرة. على الرغم من جودة الجبن وشهرته، فإنك نادرا ما تأكله، حتى عندما تعتقد أنك تفعل.
تعد جبن البارميزان واحدة من أكثر أنواع الجبن المقلدة في العالم، إذ لا يُعتبر الجبن البارميزان الحقيقي إلا إذا تم صُنعه في بلدة بارما، المعروفة كمركز رئيسي لإنتاجها، وذلك بعد خضوعها لعدة اختبارات ومعايير جودة دقيقة جدا. تلك المعايير تشمل نوعية الغذاء الذي تتناوله الأبقار المنتجة للحليب، ويمتد الاهتمام بهذه المعايير ليشمل كافة مراحل صناعة الجبن، حتى يتسنى لها الحصول على ختم اتحاد جبن “بارميجيانو ريجيانو” الإيطالي.
على مر القرون، لم تتغير طريقة إنتاج جبن البارميزان، فاليوم، كما في العصور الوسطى، يتم تصنيعه بطريقة طبيعية خالية من الإضافات. في عام 1934، اتفق ممثلو شركات الألبان في بارما وريجيو إميليا على ضرورة الموافقة على علامة المنشأ الخاصة بجبنهم.
وبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، وتحديدا في عام 1954، صدر القانون الإيطالي الذي ينص على تسميات المنشأ، وتحول الاتحاد الأول إلى الهيئة الحالية للحماية، وهو اتحاد جبن بارميجيانو ريجيانو. وقد فُرضت رقابة قانونية على جبن البارميزان بهدف حماية جودتها وسمعتها، حيث وضُعت قوانين وقواعد صارمة لصناعتها وتسميتها، ويُحظر بموجبها استخدام اسم “بارميزان” على أي جبن لا تصنع في منطقة بارما.
وفي عام 1996، تم الاعتراف بجبن البارميزان كأحد المنتجات الإنمائية المحمية في الاتحاد الأوروبي، وتم حظر استخدام اسم “بارميجيانو ريجيانو” على أي أجبان تصنع خارج منطقة بارما، ولم تحصل على ختم اتحاد جبن بارميجيانو ريجيانو.
صراع البارميزان
ومع كل تلك الإجراءات وقوانين الحماية الأوربية فإن النسبة الأكبر من الأجبان التي تباع على أنها جبن بارميزان ريجانو، ما هي إلا أجبان لم تصنع في بارما ولا تخضع لمعايير اتحاد البارميجيانو ريجانو. وللهروب من الملاحقة القانونية، فإنها تلجأ لأسماء مختلفة مثل البارميزان، والبارميجانا، والبارميزانا، والبارميزانو، وغيرها من الأسماء.
بالإضافة إلى أن دولا مثل الولايات المتحدة لا تخضع لقوانين الاتحاد الأوروبي ويمكن أن تجد في محلات البقالة الأميركية جبنا يحمل اسم بارميجيانو ريجانو مصنعا في المكسيك أو الأرجنتين.
ويضع الاتحاد الأوروبي قضية الحفاظ على المنتجات الأوربية ذات المنشأ الجغرافي المحدد في قمة أولياته في كل اتفاقية تجارية مع الولايات المتحدة على رأس تلك المنتجات الأجبان الأوروبية.
ويسعى الاتحاد الأوروبي لمنع الشركات الأميركية من استخدام أسماء منتجات الأجبان الأوروبية، لكنه يلقى معارضة أميركية، لأن تطبيق هذه القوانين سيمنع الشركات الأميركية من استخدام أسماء المنتجات الشائعة في السوق المحلي مثل الفيتا والبارميزان، وهو ما يؤثر على نسبة تقترب من 14% من سوق الأجبان الأميركي الذي تبلغ قيمته 4.2 مليارات دولار.
كما يرى منتجو الأجبان الأميركيون أن الاتحاد الأوروبي يسعى للسيطرة على سوق الأجبان الأميركي الذي بنوه دون أي مساعدة أوروبية.
ومع كل تلك النزاعات، يظل جبن البارميزان رمزا للتقاليد والجودة في عالم صناعة الجبن، تستمر في جذب الانتباه والإعجاب بنكهتها الرائعة وتأثيرها الكبير على المطبخ العالمي. يجسد البارميزان فن الصناعة والعناية الشديدة بالتفاصيل، وهو يستحق بالجدارة لقب أفضل جبن في العالم.