يرتفع الاقتراض الخارجي لمصر باستمرار منذ سنوات، في إطار برامج من صندوق النقد والبنك الدوليين، وهو ما يطرح تساؤلات عن جدوى هذه الأموال، فيما إذا كانت “ضرورة ملحة” للاقتصاد المصري، أم أنها “عبء ثقيل” على الأجيال المقبلة؟
وارتفع الدين الخارجي المستحق على مصر خلال السنوات الأربع الماضية، بنسبة 74 في المئة تقريبا، ليصل في نهاية العام الماضي، إلى مستوى قياسي يقترب من 170 مليار دولار.
وحسب بيانات البنك المركزي المصري، زاد إجمالي الديون الخارجية في نهاية 2023، إلى نحو 168 مليار دولار، من بينها 29.5 مليار دولار ديون قصيرة الأجل ونحو 138.5 مليار دولار ديون طويلة الأجل، مقابل إجمالي عند 96.6 مليار دولار في نهاية عام 2019.
ومنذ مارس الماضي، يتدفق التمويل الأجنبي على مصر المثقلة بالديون، بعد الاتفاق مع صندوق النقد الدولي، لاستئناف برنامج الإصلاح الاقتصادي الذي تم التوافق بشأنه في ديسمبر 2022.
واتفقت مصر مع صندوق النقد الدولي، قبل 3 أشهر، على زيادة حجم التمويلات ضمن برنامج يستمر حتى خريف 2026، من 3 مليارات دولار إلى 8 مليارات.
وبموجب هذا البرنامج حصلت مصر في مارس الماضي، على 820 مليون دولار، ومن المقرر أن يتم صرف شريحة تمويل جديدة بقيمة 820 مليون دولار، ليصل إجمالي ما حصلت عليه منذ نهاية 2022 نحو ملياري دولار.
والاثنين، أعلن البنك الدولي، عن تقديم تمويل بقيمة 700 مليون دولار لدعم الموازنة المصرية ضمن برنامج مدته 3 سنوات، وأعلن سابقا عن تمويل بقيمة 6 مليارات دولار في مارس الماضي أيضا، بهدف تحفيز نمو القطاع الخاص وتوفير فرص العمل، وتعزيز نواتج رأس المال البشري، والقدرة على الصمود في وجه تغير المناخ، بالإضافة إلى تعزيز الإدارة الاقتصادية.
أعوام عديدة مقبلة لمصر مع صندوق النقد.. هل يتحمل المواطن “ثمن الإصلاحات”؟
في السادس من مارس الماضي، سمح البنك المركزي المصري بانخفاض قيمة الجنيه بأكثر من 60 بالمئة، لتنفيذ إصلاح اقتصادي لطالما طالب به صندوق النقد الدولي القاهرة، منذ الاتفاق على برنامج تمويلي قبل عام ونصف العام تقريبا.
بين “الضرورة والإنقاذ”
وتتباين آراء عدة خبراء بشأن التمويلات الجديدة والارتفاع المضطرد في الدين الخارجي وجدوى هذه القروض وتأثيرها على الأجيال الحالية والمقبلة، خصوصا مع توقعات سدادها على المدى الطويل، حيث تشير بيانات البنك المركزي المصري إلى أن آخر دفعة من هذه الديون ستستحق عام 2071.
ويحذر الخبير الاقتصادي، مدحت نافع، من “استمرار الحكومة في الاقتراض بنفس المعدلات السابقة”، إذ يقول لموقع “الحرة” إن مصر “في الوقت الحالي ليست بحاجة إلى مواصلة الاقتراض الخارجي عند نفس المعدلات السابقة، ولا حتى القريبة منها”.
ويضيف نافع، الذي كان يشغل سابقا منصب مساعد وزير التموين والتجارة المصري: “دائما ما كنت أنصح بضرورة إبطاء معدلات الاقتراض من الخارج، قبل أن نصل إلى هذا المستوى الذي نحن عليه الآن”.
ويؤكد نافع أن الاقتراض الخارجي ضرورة لكل دول العالم، لكن “يجب أن يكون بمعدلات يمكن للدولة سدادها، وليس الاقتراض لمجرد القدرة على الاقتراض”، حيث يعتبر خلال حديثه أن بلاده “في حاجة إلى الاقتراض عندما تكون قادرة على السداد. والاستطاعة هنا مشروطة بتوظيف القروض بشكل جيد لتحقيق عائد يسهم في السداد”.
وتعهد الاتحاد الأوروبي، في مارس الماضي، بتمويلات بقيمة 7.4 مليار يورو (8 مليارات دولار) لصالح مصر على مدار 4 سنوات، تشمل قروضا ومساعدات واستثمارات في قطاعات مختلفة.
كما تحسنت التدفقات الدولارية إلى البلاد، بعد اتفاق الحكومة مع شركة (إيه.دي.كيو) – صندوق سيادي تابع لحكومة أبوظبي – لضخ استثمارات بنحو 35 مليار دولار، لتنمية منطقة “رأس الحكمة” على البحر المتوسط بشمال غرب البلاد.
بدوره، يرى الخبير الاقتصادي، وائل النحاس، أن التمويلات الجديدة من المؤسسات الدولية لصالح مصر، تأتي في إطار “إنقاذ الاقتصاد”، بعد أن كان خلال السنوات القليلة الماضية في “مرحلة الإصلاح”.
ويضيف في اتصال هاتفي مع موقع “الحرة”: “منذ عام 2016، وحتى قبل أكثر من عام، كان الاقتصاد المصري يمر بمرحلة إصلاح في إطار ما تم الاتفاق عليه مع مؤسسات دولية، حتى بداية الأزمة قبل عامين”.
وكانت مصر قبل أكثر من عامين، تعاني من نقص حاد في العملات الأجنبية، مما أسهم في تفاقم الأزمة الاقتصادية وأدى إلى انتعاش السوق الموازية للعملات الأجنبية حتى مطلع عام 2024، وهو الأمر الذي يقول مسؤولون في أكثر من مناسبة إنه كان يرجع إلى “الأزمات العالمية.. من جائحة كورونا والحرب في أوكرانيا وصولا إلى الحرب في قطاع غزة”.
ومع ذلك، يقول النحاس إنه “لا يمكن إلقاء اللوم على الحرب الروسية الأوكرانية أو الحرب في غزة، حيث أن مصر شهدت في عام 2022 ارتفاعا كبيرا في إيرادات العملات الأجنبية من المصادر المختلفة بما في ذلك تحويلات العاملين بالخارج وقناة السويس والسياحة، لهذا الأمر برمته يرتبط بقصور في إدارة هذه الموارد وما سبقها من اقتراض بمعدلات كبيرة”.
ويشير النحاس إلى أن “الاقتراض الخارجي في الوقت الراهن أصبح شرا لابد منه، حيث أن الحكومة تسير وفق خطط اتفقت عليها مع مؤسسات دولية، بما يشمل أيضا الحصول على قروض، بهدف إنقاذ الاقتصاد في الوقت الراهن”.
في المقابل يعتبر الخبير الاقتصادي، السيد خضر، أن الاقتراض الخارجي كان ضروريا للاقتصاد المصري في المرحلة الماضية، حيث ساعد على تمويل عجز الموازنة وتنمية البنية التحتية والمشروعات الاستثمارية.
ومع ذلك، عاد ليكرر التخوفات من أن “الاعتماد المفرط على الاقتراض الخارجي قد يؤدي إلى تداعيات سلبية على الاقتصاد على المدى الطويل”.
“الأموال الساخنة” تتدفق على مصر مجددا.. هل تشكل خطرا؟
عادت استثمارات الأجانب في أدوات الدين الحكومي أو ما يعرف بـ”الأموال الساخنة”، في التدفق إلى مصر من جديد، لتبلغ مستوى قياسي غير مسبوق متجاوزة 30 مليار دولار في مارس الماضي.
“أزمة الأجيال”
وفق تقرير “الموقف الخارجي للاقتصاد المصري” الصادر عن البنك المركزي، فإن مصر ستسدد آخر دفعة من الديون الخارجية المتوسطة وطويلة الأجل في النصف الثاني من عام 2071، حال عدم الحصول على قروض جديدة خلال السنوات القليلة المقبلة.
وتواجه مصر استحقاقات خارجية ضخمة خلال السنوات الثلاث المقبلة، حيث يتوقع البنك المركزي سداد أكثر من 60 مليار دولار خلال الفترة من 2025 إلى 2027.
لهذا يرى نافع أن “القروض الخارجية التي حصلت عليها مصر خلال السنوات القليلة الماضية، لم تأخذ في الاعتبار تفاوت آجال سدادها، حيث حصلت الحكومة على قروض قصيرة الأجل لتمويل مشروعات طويلة الأجل، وهو ما سيشكل أزمة كبيرة على الأجيال الحالية التي باتت تتحمل جزء من الفاتورة، وكذلك الأجيال المقبلة”.
ويضيف: “الحكومة مطالبة حاليا بسداد أقساط صندوق النقد الدولي فيما يتعلق بالقروض القائمة التي حصلت عليها في السابق بخلاف التمويل الأخير، خلال العامين القادمين، والتي تتراوح بين 10 و13 مليار دولار. وهذا يعني أنها أكبر من الـ8 مليارات دولار حجم التمويل الجديد”.
وتعتبر مصر، ثاني أكثر دولة اقتراضا من صندوق النقد الدولي، بنحو 14.7 مليار دولار، خلف الأرجنتين (نحو 40.9 مليار دولار).
ويقول نافع: “ستتحمل الأجيال الحالية والمقبلة فواتير اقتراض كبيرة جدا، في صورة ديون وارتفاع بأسعار السلع والخدمات وتردي في مستوى المعيشة، واعتماد مفرط على الاستيراد نتيجة ضعف الإنتاج، والذي يرتبط بشكل كبير بزيادة الديون الخارجية والداخلية، حيث تزاحم الحكومة القطاع الخاص في الحصول على التمويل اللازم لسداد هذه القروض”.
وتسعى مصر، التي يعيش ثلثي سكانها تحت خط الفقر أو فوقه بقليل، لخفض فاتورة الدعم منذ توقيع الاتفاق مع صندوق النقد الدولي، حيث رفعت الحكومة أسعار مجموعة واسعة من السلع منذ بداية العام، بما في ذلك الوقود والخبز المدعوم.
ويؤكد النحاس أن “الاقتراض الخارجي في الوقت الحالي لا يعتبر خيارا أمام الحكومة، على الأقل خلال العامين المقبلين، بل هو التزام بما جاء في الاتفاقات مع مؤسسات دولية للعبور من الأزمة الاقتصادية الخانقة”.
ويضيف: “نعم الأجيال الحالية تأثرت بشكل كبير جراء الاقتراض الخارجي وارتفاع معدلات الفقر والتضخم، لكن من الضرورة إعادة النظر في السياسات الحكومية خلال الأشهر المقبلة لتفادي الأزمة وتأثيرها على الأجيال المقبلة”.
ويؤكد النحاس، أن القاهرة “تحتاج إلى خطط واضحة فيما يتعلق بإدارة الدين الخارجي خصوصا من الحكومة الجديدة التي من المقرر الإعلان عن تشكيلها خلال أيام”.
وفي مطلع يونيو الجاري، قدم رئيس الوزراء المصري، مصطفى مدبولي، استقالة الحكومة للرئيس، عبد الفتاح السيسي، الذي بدوره قبلها، وكلف مدبولي نفسه بتشكيل حكومة جديدة.
وجاء في بيان للرئاسة المصرية، أن السيسي كلف مدبولي “بتشكيل حكومة جديدة من ذوي الكفاءات والخبرات والقدرات المتميزة، تعمل على تحقيق عدد من الأهداف، على رأسها الحفاظ على محددات الأمن القومي المصري في ضوء التحديات الإقليمية والدولية”.
بدوره، يشير خضر أيضا، إلى المخاوف المشروعة من إرث الديون للأجيال المقبلة، “حيث أن تمديد جداول السداد حتى عام 2071 يعني أن الأجيال المقبلة ستكون مسؤولة عن سداد هذه الديون”.
ومع ذلك، “يجب مراعاة أن بعض هذه الديون وُجهت لتمويل مشروعات تنموية واستثمارية طويلة الأجل ستعود بالفائدة على الأجيال المقبلة”، وفق خضر، الذي يشدد على “ضرورة تحقيق توازن بين احتياجات التنمية الحالية وتحمل المسؤولية تجاه المستقبل”.
ويبلغ متوسط نصيب الفرد في مصر من الدين الخارجي نحو 1444 دولارا في نهاية ديسمبر الماضي، مرتفعا من مستوى 1013 دولارا في نهاية 2019، وفقا لبيانات البنك المركزي.
“معركة الدولار والجنيه”.. ثلاثة سيناريوهات لأزمة النقد الأجنبي في مصر
رغم التدفقات المليارية الدولارية التي دخلت مصر خلال الفترة الماضية، وتوحيد سعر صرف الجنيه أمام الدولار في السوق الرسمية والموازية، تتوقع مؤسسة اقتصادية دولية “تراجع قيمة العملة المصرية أمام نظيرتها الأميركية مرة أخرى”، فهل يمكن أن يحدث ذلك؟ ولماذا؟ وما تداعيات ذلك السيناريو؟
ما الحل؟
تستهدف الحكومة المصرية، خفض الدين العام الخارجي والداخلي إلى أقل من 80 في المئة كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي، وفقا لتصريحات سابقة لرئيس الوزراء المصري.
وحسب بيانات البنك المركزي، فإن الدين الخارجي يمثل 43 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي في نهاية ديسمبر الماضي.
بينما يمثل الدين العام المحلي نسبة 77.1 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي البالغ 4.4 تريليون جنيه في يونيو 2020 (275 مليار دولار بأسعار الصرف في نهاية يونيو 2020)، وذلك وفق آخر بيانات نشرها البنك المركزي المصري للدين العام المحلي قبل أعوام.
وفيما يتعلق بالحلول، يرى نافع أن “جميع الحلول تستغرق وقتا طويلا، ولكن من الضروري في البداية وقف عملية الاقتراض لتمويل المشروعات الكبرى، خاصة تلك التي تحتوي على مكونات أجنبية كبيرة”.
ودعا صندوق النقد الدولي، السلطات في مصر منذ مارس، لإبطاء الإنفاق على البنية التحتية بما في ذلك المشروعات التي تعمل حتى الآن خارج إطار عمليات الرقابة المعتادة على الموازنة العامة، للحد من التضخم، والمحافظة على استدامة القدرة على تحمل الديون، وتعزيز بيئة تمكن القطاع الخاص من ممارسة نشاطه.
ويؤكد ذلك نافع إذ يقول: “من الضروري تأجيل معظم المشروعات القائمة دون استثناء، وجميعها تقريبا تتضمن مكونات أجنبية كبيرة”.
بدوره يقول النحاس: “لا يمكن أن نستمر في المشروعات الإنشائية فقط ونقول إننا نعاني من ديون بملايين الدولارات. يجب أن نبدأ بعملية إعادة تدوير الأصول وإدارة الأموال بشكل أكثر كفاءة، بدلا من الاعتماد على طرق تقليدية للبيع والشراء”.
ويضيف: “نحن بحاجة إلى أفكار جديدة ومبتكرة، كما هو الحال في الاقتصاد الأميركي الذي يعتمد على شركات تكنولوجية مبتكرة وليس فقط على البناء والزراعة التقليدية”.
ويتابع: “يجب أن نركز على توليد أفكار قادرة على تعزيز عوائد الدولة المصرية، بدلا من الاعتماد فقط على موارد قناة السويس والسياحة والتحويلات الخارجية، حيث حتى الآن، نعتمد على موارد تقليدية، في حين أن الديون تتزايد والأوضاع الاقتصادية تزداد سوءا”.
بدوره، يؤكد خضر، على ضرورة تعزيز الإيرادات المحلية عبر زيادة الإيرادات الضريبية، وتوسيع القاعدة الضريبية، وتحسين الامتثال الضريبي، وتطوير وتنويع مصادر الإيرادات غير الضريبية، ومحاربة التهرب الضريبي والفساد المالي.
ويضيف: “يجب ترشيد الإنفاق الحكومي من خلال إعادة النظر في أولويات الإنفاق العام وتعزيز الرقابة والمساءلة (…) واستخدام الموارد العامة بكفاءة. مع تحسين إدارة ومراقبة الديون الحكومية الخارجية والداخلية، وإعادة هيكلة الديون القائمة بشروط أكثر ملاءمة، والتنويع في مصادر التمويل لتخفيف الاعتماد على الاقتراض الخارجي”.
فيما يضيف نافع أن “الحكومة بحاجة إلى الانسحاب التدريجي من النشاط الاقتصادي لتقليل التزاماتها المالية، مما يدفعها إلى الاقتراض بشكل أقل”، حيث يعتبر أن “القطاع الخاص قاطرة الاقتصاد”، وهو ما يطالب به أيضا صندوق النقد الدولي.
وفي بيان صدر في الأول من أبريل الماضي، عقب الموافقة على زيادة التمويل لمصر، تقول مديرة صندوق النقد، كريستالينا غورغييفا، إن “تخارج الدولة والمؤسسة العسكرية من النشاط الاقتصادي وضمان تكافؤ الفرص بين القطاعين العام والخاص، يُعد أمرا أساسيا لجذب الاستثمار الأجنبي واستثمارات القطاع الخاص المحلي في مصر”.
ويعتبر نافع أن “الإصلاحات الهيكلية والمؤسسية المختلفة، تعد ضرورية لأي حكومة، وليس فقط للحكومة المثقلة بالديون”، حيث يختتم حديثه بالقول: “الأولوية الأولى الآن بالنسبة للحكومة هي التعامل مع مستويات الدين المرتفعة التي وصلت إليها”.