في مشرحة مستشفى ناصر بجنوب قطاع غزة، يقوم العاملون بتكفين جثث القتلى في الغارات الجوية الإسرائيلية بالقماش الأبيض وسط رائحة الموت الكريهة، ويدونون ما يمكنهم تسجيله من حقائق أساسية عن الموتى: الاسم.. رقم بطاقة الهوية.. العمر.. ذكر أم أنثى.
بعض الجثث مشوهة بشدة. فقط أولئك الذين يتم التعرف عليهم أو يطالب أقاربهم بجثثهم يمكن دفنهم وإدراجهم في حصيلة القتلى التي تعلنها وزارة الصحة في غزة خلال الحرب. وتحفظ بقية الجثث في ثلاجة المشرحة ولمدة أسابيع في كثير من الأحيان، وفق تقرير مطول نشرته رويترز.
وبلغ عدد القتلى المسجل نحو 20 ألف شخص، حتى الخميس، وسط دعوات دولية للوصول إلى هدنة جديدة في غزة. وتقول الوزارة إن آلاف القتلى ما زالوا مدفونين تحت الأنقاض. وتشير إلى أن حوالي 70 بالمئة من القتلى هم من النساء والأطفال.
ولفتت أرقام الوزارة الانتباه الدولي إلى العدد الكبير من المدنيين الذين قتلوا في الهجوم العسكري الإسرائيلي الذي بدأ بعد هجوم حركة “حماس” على إسرائيل في السابع من أكتوبر، وهو الأكثر دموية في تاريخ إسرائيل الذي يبلغ 75 عاما.
لكن في ظل توقف معظم المستشفيات في جميع أنحاء غزة عن العمل في الوقت الحالي، ومقتل المئات من الأطباء وغيرهم من العاملين في مجال الصحة، وتعطل الاتصالات بسبب نقص الوقود والكهرباء، فقد أصبح من الصعب بشكل متزايد إحصاء عدد القتلى والجرحى.
يشكل العاملون في مشرحة مستشفى ناصر جزءا من جهد دولي، يضم أطباء ومسؤولين صحيين في غزة بالإضافة إلى أكاديميين وناشطين ومتطوعين من جميع أنحاء العالم، لضمان عدم فقد القدرة على إحصاء عدد القتلى نتيجة للظروف القاسية الآخذة في التزايد في قطاع غزة بسبب الحرب.
وقال حمد حسن النجار لرويترز إن العاملين بالمشرحة، وبعضهم من المتطوعين، ليس لديهم ما يكفي من الطعام أو الماء لأسرهم، لكنهم يواصلون العمل لأن تسجيل عدد القتلى الفلسطينيين يعني الكثير لهم.
وأضاف أن الخسائر النفسية للعمل هائلة. وقال الرجل البالغ من العمر 42 عاما، وهو يحمل ورقة بيضاء تحتوي على معلومات مكتوبة بخط اليد عن أحد القتلى، إنه يشعر بالصدمة في كثير من الأحيان عندما يجد جثة صديق أو قريب أصيبت بأضرار بالغة.
وقال النجار إن جثث مدير المشرحة، سعيد الشوربجي، وعدد من أفراد عائلته وصلت، في أوائل ديسمبر بعد مقتلهم في غارة جوية إسرائيلية.
وتابع وقد بدا على وجهه الحزن والتعب “لقد كان أحد أعمدة هذه المشرحة”. وبالنسبة له فإن تجهيز جثث الأطفال الموتى، وبعضهم قطعت رؤوسهم أو أطرافهم، هو المهمة الأكثر إيلاما، وقال: “تجلس ساعات ربما حتى تستعيد نفسيتك وتذهب آثار هذه الصدمة”.
وعبّر الجيش الإسرائيلي عن أسفه لمقتل مدنيين، لكنه حمّل حركة حماس التي تدير قطاع غزة المسؤولية واتهمها بالاحتماء في مناطق مكتظة بالسكان. وقتل مسلحو حماس 1200 شخص في هجوم السابع من أكتوبر معظمهم من المدنيين واحتجزوا نحو 240 رهينة.
وتقول إسرائيل إنها ستواصل هجومها حتى يتم القضاء على حماس وإعادة الرهائن وإنهاء التهديد بشن هجمات مستقبلية على إسرائيل.
الأمم المتحدة تجزم بصحة البيانات
يتم جمع البيانات التي يسجلها النجار وزملاؤه من قبل العاملين في مركز المعلومات الذي أنشأته وزارة الصحة في مستشفى ناصر في مدينة خان يونس. وفرّ موظفو الوزارة من مكاتبهم في مستشفى الشفاء في شمال غزة بعد أن دخلته القوات الإسرائيلية، في منتصف نوفمبر.
ويعلن أشرف القدرة، المتحدث باسم الوزارة، وهو طبيب يبلغ من العمر 50 عاما، الأرقام في المؤتمرات الصحفية أو ينشرها على منصات التواصل الاجتماعي في حالة تعطل الاتصالات بسبب الأعمال العدائية. ولم يستجب رئيس المركز الإعلامي بالوزارة لطلبات رويترز للتعليق.
ومنذ أوائل ديسمبر، قالت الوزارة إنها غير قادرة على جمع تقارير منتظمة من المشارح في مستشفيات شمال قطاع غزة، في ظل انهيار خدمات الاتصالات والبنية التحتية الأخرى في غزة بسبب الهجوم الإسرائيلي.
ووفقا لمنظمة الصحة العالمية، فإن ستة فقط من مستشفيات غزة البالغ عددها 36 كانت تستقبل المصابين حتى الأربعاء، وجميعها في الجنوب.
واستشهدت منظمة الصحة العالمية بهذا كأحد الأسباب التي تجعلها تعتقد أن إحصاء الوزارة قد يكون أقل من الواقع. ولا تشمل هذه الحصيلة أيضا القتلى الذين لم يتم نقلهم مطلقا إلى المستشفيات أو الذين لم يتم انتشال جثثهم من تحت الأنقاض.
وقالت منظمة الصحة العالمية وخبراء آخرون إنه من غير الممكن في الوقت الحالي تحديد مدى أي نقص في العدد.
وأصدرت وزارة الصحة في غزة، في 26 أكتوبر، تقريرا من 212 صفحة يسجل بيانات 7028 شخصا قتلوا في الصراع حتى 26 أكتوبر، بما في ذلك بطاقات الهوية والأسماء والعمر والجنس. ومنذ ذلك الحين، لم تنشر الوزارة مثل هذه البيانات التفصيلية، مما يجعل من الصعب على الباحثين التأكد من أحدث الأرقام.
ومع ذلك، فإن الأمم المتحدة، التي لديها تعاون طويل الأمد مع السلطات الصحية الفلسطينية، تواصل الجزم بصحة البيانات.
وأشارت منظمة الصحة العالمية إلى أنه مقارنة بالصراعات السابقة في غزة، تظهر الأرقام أن المزيد من المدنيين قتلوا، بما في ذلك نسبة أكبر من النساء والأطفال.
وقال مسؤولون إسرائيليون، هذا الشهر، إنهم يعتقدون أن البيانات التي تم نشرها حتى الآن دقيقة إلى حد كبير. وقدروا أن ثلث القتلى في غزة هم من المسلحين الأعداء، دون تقديم أرقام مفصلة.
وقالت وزارة الصحة الفلسطينية، التي يقع مقرها في الضفة الغربية المحتلة وتدفع رواتب العاملين في الوزارة في غزة، إنها فقدت كل اتصالاتها تقريبا في الآونة الأخيرة مع المستشفيات في القطاع. وأضافت أنه ليس لديها أي معلومات عن مصير عدة مئات من العاملين في المجال الصحي الذين اعتقلتهم القوات الإسرائيلية.
وردا على سؤال حول الاعتقالات، قال الجيش الإسرائيلي إنه اعتقل بعض العاملين في المستشفيات بناء على معلومات مخابرات تفيد بأن حماس تستخدم المرافق الطبية في عملياتها. وأضافت أنه تم إطلاق سراح الأشخاص الذين لم يشاركوا في هذه الأنشطة بعد استجوابهم، دون الكشف عن عدد المعتقلين.
جهود دولية
ويعمل الأكاديميون والنشطاء والمتطوعون في أنحاء أوروبا والولايات المتحدة والهند على تحليل البيانات التي قدمتها وزارة الصحة في غزة للتأكد من تفاصيل القتلى وتحديد أعداد الضحايا المدنيين.
يعتمد هذا بشكل كبير على قائمة 26 أكتوبر التي تتضمن الأسماء وأرقام بطاقات الهوية وتفاصيل أخرى. وفي الوقت ذاته، يقوم بعض الباحثين الآخرين “بمسح” وسائل التواصل الاجتماعي للحفاظ على الإفادات المنشورة هناك لتحليلها في المستقبل.
وقالت ليزلي روبرتس، الأستاذة الفخرية للسكان وصحة الأسرة في كلية ميلمان للصحة العامة بجامعة كولومبيا إن “عدد الأعين والفاعلين المشاركين في تسجيل الوفيات في غزة أكبر بكثير من العدد الطبيعي، ومن العدد المتواجد في أسوأ الأزمات الأخرى في العالم”.
وشاركت روبرتس في أكثر من 50 دراسة استقصائية للوفيات أثناء الحروب منذ أوائل التسعينيات.
وتستخدم منظمة إيروورز، وهي منظمة غير ربحية تابعة لقسم الإعلام والاتصالات في كلية غولدسميث بجامعة لندن وتحقق في مقتل المدنيين في الصراعات، وسائل التواصل الاجتماعي ووثيقة الوزارة الصادرة في 26 أكتوبر لتجميع سجل مفصَّل للضحايا.
وقالت إميلي تريب، مديرة إيروورز، إن نحو 20 متطوعا يعملون في المشروع جنبا إلى جنب مع الموظفين العاديين، وقد حددت حتى الآن هوية حوالي 900 مدني لاقوا حتفهم في القتال. وأضافت أنه حتى لو توقف القتال، فقد يستغرق الأمر عاما آخر للانتهاء من المسح.
وقالت تريب لرويترز: “ما نراه الآن أيضا هو مقتل مدنيين نزحوا من مناطق أخرى لذا لا يسهل على جيرانهم التعرف عليهم”، مضيفة “هذا يجعل عملية الحصر وتحديد الهوية صعبة للغاية”.
وشاركت زينة جمال الدين، طالبة الدكتوراة في كلية لندن للصحة والطب الاستوائي، في كتابة تحليل الشهر الماضي في مجلة لانسيت الطبية بناء على قائمة وزارة الصحة الصادرة في 26 أكتوبر. وخلصت الدراسة إلى أن أرقام وهويات القتلى كانت مرتبطة بشكل كبير بالعمر، وهو نمط من غير المرجح أن ينشأ عن تلفيق البيانات.
وقالت إن أنظمة السلطات الصحية الفلسطينية لجمع البيانات قد تم اختبارها على مدى حروب متعددة وتمت مراجعتها من خلال الجهود المدعومة من الأمم المتحدة موضحة أنه “رغم عدم توفر بيانات مثالية بنسبة 100 بالمئة، فإن فلسطين لديها بيانات عالية الجودة”.
وأضافت أنه في حين أن خبراء الوفيات المفرطة لديهم أدوات لحساب إجمالي الوفيات بعد انتهاء الصراعات، إلا أن هناك تحديات أمام القيام بذلك، وقد ينتهي الأمر بالحصيلة النهائية بعد الحرب إلى أن تكون غير كاملة ما لم يتم تسجيل الوفيات إلى أقصى حد ممكن في الوقت الحقيقي.
وقالت: “كل اسم في القائمة يمثل شخصا وحياة وقصة. كل اسم يستحق أن نتذكره”.
عائلات قتلت بأكملها
يستخدم الباحثون أساليب مثل الدراسات الاستقصائية لسكان المنازل بعد انتهاء النزاع لتقدير إجمالي الخسائر.
قد تكون المسوحات الأسرية صعبة في أعقاب هذا الصراع، لأنه في بعض الحالات قتلت عائلات بأكملها بسبب القصف في بعض الأحيان عشرات الأفراد، وفقا لقائمة 26 أكتوبر.
ويقول الخبراء إن أكثر من أربعة أخماس سكان غزة قبل الحرب فروا من منازلهم، أي حوالي 1.9 مليون شخص، وفقا لأرقام الأمم المتحدة وربما يكون من الصعب تحديد أماكنهم.
ولكن بالنظر إلى مدى ترابط مجتمع غزة، هناك أمل في إمكانية إجراء مثل هذه الدراسات في نهاية المطاف بطريقة ذات معنى، كما قال حامد داردجان من مشروع إحصاء الجثث في العراق، وهي منظمة تسجل الوفيات العنيفة الناجمة عن الغزو الذي قادته الولايات المتحدة للعراق عام 2003. وقد نشر المشروع بالفعل تحليلا عن العمر والخصائص الأخرى للقتلى في غزة، بناء على بيانات الوزارة في 26 أكتوبر.
وقال داردجان إن “معدل الوفيات بين المدنيين بما لا يقل عن 200 شخص يوميا منذ السابع من أكتوبر، باستثناء الهدنة التي استمرت أسبوعا لم يسبق له مثيل في هذا القرن، ولم نشهده في ذروة غزو العراق”.
وقال الدكتور غلبرت بورنهام، الطبيب والأستاذ بجامعة جونز هوبكنز الذي تعامل منذ السبعينيات مع المشاكل الصحية الإنسانية في الحروب، إن الأمر سيستغرق سنوات لانتشال رفات الأشخاص من تحت الأنقاض، ولن تؤدي العملية الفنية المكلفة إلى التعرف على هوية كل جثة.
وبالإضافة إلى القتلى، تقول الوزارة إن هناك أكثر من 52500 شخص أصيبوا في الصراع. وتشير منظمة الصحة العالمية إلى تزايد خطر الإصابة بالأمراض بسبب نقص المياه النظيفة والغذاء والرعاية الطبية.
وقال الدكتور غسان أبو ستة، وهو جراح بريطاني من أصل فلسطيني تطوع في مستشفيين في شمال غزة خلال الأسابيع الستة الأولى من الحرب، إن بعض الناس يموتون بسبب عدم علاج الجروح المفتوحة.
دراسة إسرائيلية: أكثر من 60% من القتلى في الضربات على غزة من المدنيين
كشفت دراسة إسرائيلية نشرتها صحيفة هآرتس أن “حملة القصف الجوي التي تشنها إسرائيل على قطاع غزة هي الأكثر عشوائية من حيث سقوط ضحايا مدنيين في السنوات الأخيرة”.
وقالت الدكتورة آني سبارو، طبيبة الأطفال التي عملت مع الأطباء الذين يعالجون جرحى الحرب الأهلية السورية لأكثر من عقد من الزمان، وهي أستاذة مشاركة في الصحة العالمية في كلية إيكان للطب في ماونت سيناي بمدينة نيويورك إن “عدد القتلى هو مؤشر ضعيف على المعاناة الإنسانية”.
لكن عبد الرزاق التكريتي، الأستاذ المشارك في التاريخ العربي الحديث في جامعة رايس في تكساس، قال إن استخدام السجلات لمحاربة الخوف من المحو، متأصل في الثقافة الفلسطينية. واقتبس من قصيدة للشاعر الفلسطيني البارز محمود درويش قوله: “تُنسى كأنك لم تكن”.
وقال التكريتي إن العديد من الفلسطينيين يعتبرون حرب غزة جزءا من تاريخ من الصراع والتهجير على يد القوات الإسرائيلية يعود تاريخه إلى “النكبة” عندما فر أكثر من 700 ألف فلسطيني أو طردوا من منازلهم.
وقال التكريتي: “من أجل الحاضر والمستقبل والماضي، نحتاج إلى عرض دقيق للأرقام”.