مع دخول الحرب شهرها الثاني، يواصل فلسطينيون النزوح من شمال قطاع غزة إلى جنوبه، قاطعين شارع صلاح الدين سيرا أو على عربات تجرها الدواب، في ظل استمرار القصف الجوي وتقسيم القوات الإسرائيلية للقطاع بعد تطويق شماله.
والثلاثاء، سار المئات من سكان غزة جنوبا، وظهر بعضهم في مقاطع فيديو منتشرة، رافعين أيديهم أو مُلوّحين بأعلام بيضاء في رحلة نزوح شاقة، هربا من الأوضاع الإنسانية الصعبة بشمال القطاع الذي يعرف اقتتالا متصاعدا يهدد أمنهم وسلامتهم.
شهادات الرحلة الخطيرة
وفي ظل الحصار الذي شحت فيه الأغذية والمياه والطاقة، لم يجد الأهالي بدا من الفرار صوب الجنوب على وجه السرعة بعد أن فتح الجيش الإسرائيلي نافذة عبور جديدة لإخلاء شمال غزة، الثلاثاء، بين العاشرة صباحا والثانية بعد الزوال بالتوقيت المحلي.
يصف “أ.ب”، الذي طلب عدم الكشف عن هويته الكاملة، أنه غادر مدينة غزة عبر ممر صلاح الدين مشيا في رحلة وصفها بـ”الخطيرة”، مضيفا: “سرت مع أفراد عائلتي لحوالي 3 إلى 5 كيلومتر في مسيرة قاسية، اضطررنا خلالها، في منطقة معينة المشي رافعين أيدينا لمدة تقارب نصف ساعة”.
ويضيف أ.ب في تصريح لموقع “الحرة”، بعد تجاوز مدرعات القوات الإسرائيلية والوصول إلى منطقة مأهولة “كانت وجدنا سيارات لنقلنا إلى جنوب القطاع”.
من جهته، يقول علي الغلبان، نازح من شمال القطاع، للحرة، إن “غالبية الناس تركوا أرضهم.. لأن الحصار أصبح مطبقا على غزة”، مشيرا إلى “غياب المياه والكهرباء والطحين.. منذ 3 أيام، كانت خبزة صغيرة كل طعامنا”.
ومع توغل القوات البرية الإسرائيلية شمالا مدعومة بغارات جوية متواصلة، يقول نازح آخر للحرة، إن “لا وجود لأي أكل ولا شرب ولا أدري ماذا أفعل..”.
وفي وصفها لرحلة نزوحها إلى الجنوب، تحدثت، علا الغول، عن “الخوف”، كاشفة لفرانس برس “لم نر جنودا، رأينا الدبابات (الإسرائيلية) على جانبي الطريق”.
وأضافت “مشينا أسرابا رافعين أيدينا، حاملين رايات بيضاء”.
“سيطرة على حركة التنقل”
ومنذ بداية الحرب، حث الجيش الإسرائيلي المدنيين الفلسطينيين على إخلاء شمال القطاع، ما اضطر نحو 1.5 مليون نسمة، وفق تقديرات أممية، للنزوح داخل القطاع، سواء نحو الجنوب أو بين أحياء مدينة غزة.
الصحفي الفلسطيني، رائد اللافي، يشير إلى أن الجيش الإسرائيلي سمح للمرة الثامنة، لسكان مدينة غزة وشمالها بالعبور إلى الجنوب، وذلك يوم الثلاثاء.
ويوضح اللافي في تصريح لموقع “الحرة”، أن التعداد السكاني لسكان مدينة غزة ومعها بلدات بيت حانون وبيت لاهيا ومخيم جباليا وقرية أم النصر، يصل إلى مليون و100 ألف نسمة، استجاب منهم الآلاف للدعوات الإسرائيلية بالنزوح جنوبا، فيما قررت الغالبية البقاء.
وتجري أشرس المواجهات على الأرض في شمال القطاع، حيث مدينة غزة التي باتت القوات الإسرائيلية تطوقها، قائلة إنها تضم المراكز القيادية التابعة لحماس.
وأعلن الجيش الإسرائيلي أيضا أن القطاع بات مقسما إلى شطرين جنوبي وشمالي، مشددا في أكثر من مرة على استهدافه المسلحين فقط ومتهما حماس باستخدامهم دروعا بشرية وإخفاء الأسلحة ومواقع العمليات في المناطق السكنية.
في هذا السياق، يكشف اللافي أن تطويق شمال غزة أصبح كاملا، بحيث جرى فصله عن جنوبه، مشيرا إلى أن دبابات وآليات عسكرية إسرائيلية، تتواجد فعليا على الأرض على مستوى مفترق الشهداء، بشارع صلاح الدين، الذي يعد أحد الشارعين الرئيسيين اللذين يربطان شمال القطاع بجنوبه.
ويوضح الصحفي الفلسطيني، أن إسرائيل تسيطر فعليا على حركة التنقل بين الجانبين، مبرزا أنها تعلن شارع صلاح الدين ممراً آمنا في أوقات محددة تعلنها، كما تسيطر أيضا على الشارع الآخر “شارع الرشيد” بقوة النيران.
ويكشف المتحدث لموقع الحرة أن القوات الإسرائيلية طوقت المنطقة بدبابات وآليات عسكرية، كاشفا عدم وجود جنود على الأرض، مضيفا نقلا عن شهود ميدانيين: “انتشارهم وتمركزهم في أسطح بنايات مرتفعة بمحيط المكان”.
ونقل الصحفي الفلسطيني عن عدد من النازحين الذين عبروا من الشمال نحو الجنوب، رصدهم لـ”جثث منتشرة وملقاة على جنبات الطرق”، وتأكيدهم على أن القوات الإسرائيلية لا تسمح بمرور السيارات بل يقتصر العبور فقط على المشي.
وتؤكد، أميرة السكني، هذه المشاهد لفرانس برس، قائلة إنه خلال سيرهم من وسط القطاع باتجاه الجنوب “رأينا جثثا، أشلاء، شهداء، الناس تترك دوابها وتكمل طريقها مشيا”.
وأضافت الشابة التي كانت تحمل طفلها وعبوة مياه “لم أتخيل المسافة التي قطعناها، حصلنا على مياه من الجيران”.
معاناة مستمرة
وبحسب تقديرات الأمم المتحدة، نزح 600 ألف فلسطيني من مدينة غزة إلى جنوب القطاع، جراء الحرب الدائرة مع حركة حماس، رضوخا لتحذيرات الجيش الإسرائيلي الذي دعاهم إلى الانتقال جنوبا “حرصا على سلامتهم”.
غير أن معاناة سكان غزة بنزوحهم من الشمال نحو المناطق الوسطى أو الجنوبية حيث يعيش أكثر من 550 ألف شخص في 92 منشأة تابعة لوكالة الأونروا لم تنته، فالبنية التحتية والمرافق في حالة مزرية والأمراض منتشرة، وفقا لرويترز.
عما إذا كانت أوضاعه جنوبا أفضل من بالشمال، يقول “أ.ب” إنها “صعبة في كل مكان بالقطاع في ظل غياب الأمن والغذاء والمياه”، مشيرا إلى أن “حتى المساعدات التي تصل الجنوب لا تكفي كل الناس كلهم”.
ويكشف المتحدث ذاته أنه “ترك كل ممتلكاته وكل شيء خلفه، ووصل إلى الجنوب بالملابس التي يرتديها فقط”، مشيرا “لحسن حظي أن لدي أفراد عائلة هنا، فيما تضطر النسبة الأكبر من النازحين للجوء إلى مراكز الإيواء الإنسانية”.
عن مصير النازحين جنوبا، يكشف اللافي أن أغلبهم يقيمون في منازل أقاربهم وأصدقائهم، أو في مراكز إيواء ومدارس تابعة للأونروا، غير مؤهلة لاستقبال هذه الأعداد الغفيرة والاستجابة لحاجياتها الأساسية.
ويوضح اللافي أنه “لا يوجد منزل في جنوب القطاع مقتصر على أصحابه الأصليين، بل كل البيوت تستضيف نازحين من مدن شمال غزة”، مضيفا أن مراكز الإيواء التابعة للأونروا “فاضت بمن أوى إليها من النازحين، حيث تعرف توافدا متزايدا، خلال الأيام الأخيرة”.
واندلعت الحرب بين إسرائيل وحماس بعد هجوم مباغت شنته الحركة على مواقع عسكرية ومناطق سكنية محاذية لقطاع غزة في السابع من أكتوبر، أدى إلى مقتل 1400 شخص غالبيتهم من المدنيين وبينهم نساء وأطفال، سقطوا بمعظمهم في اليوم الأول للهجوم، وتم اختطاف أكثر من 240 شخصا، بحسب السلطات الإسرائيلية.
ومنذ ذلك الحين، ترد إسرائيل بقصف جوي وبحري وبري مكثف على القطاع المحاصر، أتبعته بعملية برية لا تزال متواصلة، وقتل 10569، من بينهم 4324 طفلا، و2823 سيدة، و649 مسنا وإصابة 26475، ويقدر أن آلافا آخرين في عداد المفقودين، حسبما أعلنت وزارة الصحة في غزة، الأربعاء.