على ركام منزله المنهار، وقف أحمد رزوق، يرمق المكان بنظرات تائهة بعد أن كانت الكارثة على وشك أن تحلّ فوق رأسه وعائلته، لولا أنه غادر المبنى المنهار قبل ربع ساعة فقط.
لم يكن رزوق يتوقع ما حصل، الاثنين، بل جلّ ما في الأمر أنه كان يريد قضاء بعض الوقت مع أسرته في المبنى المجاور، الكائن في منطقة الشويفات بمحافظة جبل لبنان.
يشير رزوق إلى دماء جاره، الفتى البالغ من العمر 13 سنة، الذي لفظ آخر أنفاسه على الفور، أمام عيني والدته التي كانت ممددة إلى جانبه تصرخ من بين الركام، “ساعدني على الخروج، أنا اختنق وابني هُرِس رأسه بالصخور”، هكذا يصف الكارثة التي حلّت باللاجئين السوريين في المبنى المنهار.
حاول رزوق إبعاد الركام لإنقاذهما، لكن دون جدوى. وبعدها وصلت فرق الإنقاذ، فسحبت 4 جثث و4 جرحى، اثنان منهم فارقا الحياة لاحقاً، كما يقول.
لم تكن الكارثة في أساسات المبنى المؤلف من 3 طوابق الذي تسكنه عائلات سورية، بل في الجبل الملاصق له، الذي سبق أن انهار جزء منه قبل 5 سنوات، إذ دعمته البلدية بحائط بدأ بالانهيار مجدداً قبل سنتين، ثم انكسر قبل شهر ونصف الشهر.
أبلغ السكان صاحب المبنى بخطر الانهيار، لكنه بحسب رزوق “لم يهتم، بل طلب ممن لا يعجبه الأمر الرحيل. وبالفعل حاولنا البحث عن مأوى آمن لكن ارتفاع بدلات الإيجار حال دون ذلك”.
لحظات عصيبة
عاشت عائلة زيدان لحظات عصيبة كأنها دهر، منتظرة بفارغ الصبر معرفة مصير طفليها اللذين كانا وحدهما في المنزل حين حلت الكارثة.
قبل عشر دقائق فقط، خرج الوالد عمر مع زوجته وطفلته الصغيرة لقضاء بعض الوقت في الخارج، وفي الطريق، سمعوا صوتاً مدوّياً هزّ الأرض.
سارع عمر إلى مكان الحادث ليجد المبنى الذي يقطنه قد تحوّل إلى ركام. ظنّ في البداية أن ولديه فارقا الحياة، خاصة أنهما كانا في الطابق الأول من المبنى. عاش لحظات من الرعب والانتظار، قبل أن يطمئن قلبه بالعثور على طفليه سالمين.
منذ 3 سنوات ونصف السنة، يسكن عمر وعائلته في ذلك المبنى، مقابل بدل إيجار لا يتجاوز 100 دولار. كانت الأمور تسير على ما يرام، إلى أن لاحظ قبل الحادث بوقت قصير بدء تفتّت الجدار الجبلي الملاصق للمبنى. أبلغ زيدان صاحب المبنى بالأمر، فطمأنه كما يقول بأنه “سيرسل خبراء لتقييم الوضع، لكنه لم يفعل”.
ورغم خسارته المادية الكبيرة، إلا أن زيدان يحمد الله أن الأضرار اقتصرت على ذلك ولم يفقد أياً من أفراد أسرته.
أرجع رئيس مجلس إدارة بلدية الشويفات، سعيد السوقي، انهيار المبنى إلى سقوط صخور من الجبل الملاصق له على الأساسات، مذكّراً بأن صخوراً كانت قد وقعت على مبنى مجاور قبل 5 سنوات، فتم إرسال خبير لإجراء الإصلاحات اللازمة، بما في ذلك بناء حائط دعم.
وأشار السوقي في حديث لموقع “الحرة” إلى أن ” تغير المناخ وما تسبب به من كميات أمطار غزيرة هطلت خلال هذه السنة في لبنان، أدى إلى زحزحة التربة في عدة أماكن في المنطقة، مما يشكل خطراً على سلامة المباني”، مطالباً بدعم من السلطات لحل هذه المشكلة.
حوادث مشابهه
ويأتي حادث انهيار المبنى في الشويفات بحي العين، بعد أيام من انهيار مبنى مؤلف من خمسة طوابق في صحراء الشويفات، عقب حوالي 10 دقائق من إخلائه إثر سماع سكانه أصوات تنبئ بسقوطه.
وفي شمال لبنان، انهار حائط الطريق العام في بلدة السفيرة، الاثنين، “بسبب كثافة الأمطار خلال فصل الشتاء، مما أدى إلى عزل ست قرى وتحويلها إلى أماكن منكوبة”، بحسب ما أكدت بلديتها في بيان، الثلاثاء.
وقبل أيام، انهار جزء من مبنى مؤلف من طبقتين، في منطقة الرحاب في الضاحية الجنوبية لبيروت، واقتصرت الأضرار على الماديات.
وبعد الحادث، أوضح رئيس بلدية الغبيري، معن خليل، أن المبنى شيّد بالتعدي على أملاك الغير، وأن “الشخص الذي قام ببنائه يستخدمه مثل أبنية أخرى مشابهة في الاستثمار، من خلال تأجير العقارات للعمال السوريين، وبأنه كاد أن يتسبب بمجزرة في حق هؤلاء العمال، لأن تلك الأبنية بنيت بشكل تجاري على ألواح التنك”.
وفي شهر نوفمبر الماضي، قضى الشاب السوري إبراهيم عبد الله إثر انهيار مبنى سكني قديم في مدينة صيدا جنوب البلاد، وقبل ذلك بشهر، انهار مبنى في منطقة المنصورية، مؤلّف من خمسة طوابق، كشفت التحقيقات أنه تصدّع في انفجار المرفأ ورُمم على الفور بصورة غير صحيحة، وقد نتج عن انهياره سقوط 8 ضحايا.
ومنذ أشهر، انهار مبنى سكني في طرابلس، كانت البلدية عملت على إخلائه من السكان من جراء المخاطر التي تحدق به.
وفي الأشهر الستة الأخيرة وحدها، قُتل 8 أشخاص في لبنان بعد انهيار الأبنية التي يسكنون فيها، كما ذكرت منظمة العفو الدولية، الثلاثاء.
هذه الحوادث أعادت إلى الواجهة ملف سلامة الأبنية الذي يعتبر واحداً من الملفات التي يجب إيلائها الاهتمام في أي مجتمع، كونه يؤثر بشكل مباشر على حياة الناس وسلامتهم.
تحذير.. واتهام
وذكرت منظمة العفو الدولية الثلاثاء أن آلاف الأشخاص في مدينة طرابلس بشمالي لبنان يعيشون في أبنية غير آمنة تشكل خطراً على حقهم في سكن لائق وحقهم في الحياة وسط لا مبالاة الحكومة، بعد مضي أكثر من سنة على وقوع الزلازل المدمرة التي هدّمت أجزاء واسعة من تركيا وسوريا وألحقت أضرارًا بأبنية في لبنان.
المباني في جميع أنحاء #لبنان تنهار وتودي بحياة السكان. وجد بحث جديد أجريناه وركز على #طرابلس أن الآلاف يعيشون في مبانٍ غير آمنة تشكل خطرًا على حقوقهم في السكن الملائم والحياة وسط لامبالاة الحكومة. pic.twitter.com/35e3WIBD1g
— منظمة العفو الدولية (@AmnestyAR) February 20, 2024
وفي تقرير حمل عنوان لبنان “لسنا بأمان هنا”، أشارت إلى أن “الحكومة تخذل سكّان المباني الآيلة للسقوط في طرابلس”.
وتبين للمنظمة أنه حتى قبل وقوع الزلازل، كان السكان في طرابلس قد دقوا ناقوس الخطر بشأن حالة مساكنهم المروّعة، الناجمة عن عقود من الإهمال، وعدم تقيّد المقاولين بأنظمة السلامة.
وتفاقمت أوضاع هذه المباني بفعل الأزمة الاقتصادية القاسية التي سلبت السكان قدرة تحمل كلفة إجراء الإصلاحات أو الانتقال إلى مساكن بديلة.
وقالت سحر مندور، الباحثة في الشؤون اللبنانية في منظمة العفو الدولية، إن “الحكومة اللبنانية لم تتحمل مسؤوليتها في حماية الحق بالسكن الآمن، فلم تعدّ خطة واضحة لإصلاح الأبنية المتضررة، ولم تُبدِ حرصاً جدياً على تقديم الدعم للسكان، ومن ضمن ذلك التعويض والسكن البديل حيثما ينطبق ذلك، على الرغم من أن المسوح الميدانية البلدية، الجزئية وغير المكتملة، أوضحت أن الأبنية غير آمنة بالفعل ويمكن أن تنهار في أي لحظة”.
وفي مسح ميداني أُجري عام 2022، خلصت بلدية طرابلس بحسب المنظمة الدولية، إلى أن هناك 236 مبنىً مهددًا بالانهيار. وفي أغسطس 2023، بعد مرور ستة أشهر على وقوع الزلزال، قالت البلدية إنها حددت 800-1000 مبنى مهدد، وهذا أعلى بأربعة أضعاف من عددها قبل وقوع الزلازل.
جدران الرعب
تعيش آلاف العائلات في لبنان في مبان قديمة تحتاج إلى صيانة وترميم، من بينها عائلة رائدة الصلح التي تسكن في منطقة الناعمة، في محافظة جبل لبنان، تحت رحمة جدران منزل متهالك يهدد سلامتهم في كل لحظة.
ولا يغادر الخوف عيني رائدة، فطوال الوقت تخشى على وحيدتها من مسكن يفترض أن يكون مصدر أمان لها، إلا أنه تحوّل إلى “عدو” يتربص بهم جميعاً لا سيما في فصل الشتاء، إذ تشبهه بسفينة تتأرجح بهم ببطء في مياه الأمطار من دون أن تعلم متى تغرق.
وتقول رائدة لموقع “الحرة” “لا أجرؤ على الخروج إلى الشرفة بسبب التصدعات والشقوق التي نخرتها، أما سقف المطبخ فقد سبق أن حذرني عامل بناء من دخوله حين يكون الطقس عاصفاً”.
تشققات الجدران والأسقف في منزل رائدة “كخريطة رسمت في حبر الإهمال، تتفاوت في الحجم والعمق وبعضها يهدد بانهيار المبنى بأكمله، حالها كحال مساكن جيرانها التي تتهاوى منها حجارة بين الحين والآخر”.
ومع كل خبر عن انهيار مبنى جديد، تشعر رائدة أن الدور اقترب من المبنى الذي تقطنه، وتقول “بت أقلق من أصوات البرق والرعد والرياح، أسارع إلى احتضان ابنتي كي لا يتمكّن الموت من أن يفرقنا عن بعضنا البعض”.
منذ سنوات ورائدة تطلب من مالكة المنزل ترميمه، إلا أنها ترفض، وفوق هذا “تصرّ على رفع بدل الإيجار من 100 دولار إلى 250 دولار، في وقت بالكاد يصل مدخول زوجي إلى 300 دولار، ولو لم تكن إمكانياتنا المادية محدودة لما بقينا في هذا المنزل دقيقة واحدة، وأخشى أن يكلفني أي تأخير في الانتقال منه حياتي وحياة ابنتي وزوجي”.
ناقوس الخطر
يواجه المستأجرون في لبنان صعوبات جمة في ظل الأزمة الاقتصادية الخانقة التي يمرّ بها البلد، فهذه الفئة هي الأكثر ضرراً من هذه الأزمة، كما تقول المستشارة القانونية للجنة الأهلية للمستأجرين، المحامية مايا جعارة، وذلك “نظراً لغياب امتياز الملكية، وفقدانهم لمدخراتهم في المصارف، التي كان بإمكانهم استخدامها كدفعة أولى لشراء منزل”.
إضافة إلى “تدنّي مداخيلهم بسبب انهيار العملة، وارتفاع بدلات الإيجارات بشكل جنوني، إذ بات المستأجرون مرغمين على البقاء في ظل رحمة قانون الإيجار الحرّ الذي يخلو من الضوابط ويعتبر ظالماً بحقهم، مع العلم أن الإيجارات في لبنان تعد من الأغلى مقارنة مع الحد الأدنى للأجور والخدمات المتوفرة في المأجور”.
وفيما يخص المستأجرين القدامى، تقول جعارة لموقع “الحرة” إن “عددا لا يستهان به منهم من الفئات الأكثر هشاشة في المجتمع، ومن الضروري إيجاد حلول لهم وعدم نزع السقف الذي يحميهم ويحمي ما تبقى من كرامتهم الإنسانية.”
ومنذ سنوات تدق الهيئة الوطنية للعقارات ناقوس الخطر بشأن المباني المهددة بالسقوط في لبنان.
وفي حديث مع موقع “الحرة” تعبّر رئيسة الهيئة، أنديرا الزهيري، عن قلقها من تزايد أعداد هذه المباني المنتشرة في جميع الأراضي اللبنانية”، وتقول ” لا إحصاءات رسمية لعدد المباني المهددة بالسقوط، إنما تجميع لعدة جهات فنية وجمعيات من خلال مبادرات فردية تمكنت من تجميع هذه البيانات التي باءت شبه مؤكدة وهي تشير إلى أن العدد يتراوح بين 16260 و18 ألفاً مبنى موزعين على كامل الأراضي اللبنانية”.
والنسبة الأعلى من المباني المهددة بالسقوط تقع “في محافظة بيروت وعددها حوالي 10460 مبنى، من دون تعداد منطقة المرفأ ومحيطها بعد كارثة الرابع من أغسطس، إذ إن الوحدات المتضررة في المرفأ ومحيطه بحسب المسح الجزئي الدقيق الذي قام فيه الجيش اللبناني بالتعاون مع نقابتي المهندسين في بيروت والشمال نتجت عنه أرقاماً لأعداد الأبنية المتضررة، التي بلغت 85744 وحدة من شقق سكنية وتراثية ومكاتب ومؤسسات تربوية وتجارية وغيرها”.
وتشير الإحصاءات إلى وجود “180 ألف مستأجر وفق القانون القديم، بينما تشير أخرى إلى وجود عدد أكبر من المستأجرين وفق القانون الحرّ، لكن هذه البيانات المتاحة قديمة مما يؤدي إلى صعوبة تقييم الوضع الحالي بشكل دقيق”، بحسب جعارة.
وتضيف جعارة “تظهر دراسة أجرتها UN Habitat والاتحاد الأوروبي والمفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين في بيروت أنّ نسبة المستأجرين والمالكين متقاربة، إذ بلغت نسبة المالكين 43% ونسبة المستأجرين 49%”.
“عدو” مستجد
تتضافر عوامل متعددة، بشرية وطبيعية، لتدهور حالة المباني، وتشرح الزهيري “البناء يبقى صالح للسكن بين 30 الى 50 عاماً بحسب كل منطقة وبيئتها، لكن الصيانة الدورية له تطيل من هذه المدة”.
وتضيف: “تضم بعض المدن القديمة مثل بيروت وطرابلس، أحياء شعبية متلاصقة لا يقل عمر البناء فيها بين 50 و 85 سنة، أي أنها شيّدت قبل مرسوم 2005 للسلامة العامة المعتمد، مما يعني أن معظمها يفتقر إلى معايير السلامة العامة لجهة بنائها ومقاومتها لعامل الزمن والزلازل”.
كما “أثقلت بدلات الإيجار شبه المجانية كاهل مالكي العقارات القديمة، وعجزوا عن صيانة عقاراتهم، في وقت لم تتخذ السلطات المعنية خطوات كافية للتصدي للمخالفات التي تضرّ بالبنى التحتية وتصريف مياه الصرف الصحي، مما يسمح بانحرافها عن مجراها وتصل إلى أساسات المباني”.
وذلك “عدا عن القيود المفروضة على مالكي العقارات التراثية وارتفاع تكلفة ترميمها وتدعيمها نتيجة الشروط الصارمة التي تفرضها وزارة الثقافة والمديرية العامة للآثار”.
وكذلك “استخدام مواد منتهية الصلاحية وفاسدة أو مغشوشة بالإضافة إلى رخص المحسوبيات وغير المدروسة في أماكن لا يصلح تشييد أبنية او تعديات على أملاك الغير من عامة وخاصة خارج عن الرقابة والكشف”.
أما العامل المستجد الذي يساهم في ارتفاع عدد المباني المهددة بالسقوط، بحسب الزهيري، فيتمثل “بتغير المناخ، الذي أدى إلى ارتفاع نسبة منسوب المياه على غير العادة المتعارف عليها في المنطقة التي تسربت إلى الأساسات بشكل متكرر وخصوصاً في الأبنية قديمة العهد، وشكلت رطوبة وتخثر للخرسانة واهتراء في حديد الأساس والداعم للبناء”.
وذلك عدا عن “التغير المفاجئ في درجات الحرارة بين انخفاض وارتفاع بشكل محيّر، مما يسبب في تمدد وتقلص الحديد وانكماشه، ما ينعكس على الأسمنت بحسب الفنيين والمهندسين في الهيئة”، كما أن “معظم الأبنية تعرضت لأضرار خلال فترة الحرب ولم يتم معالجتها بشكل دقيق”.
تداعيات تغير المناخ
كلام الزهيري يؤكده رئيس “شبكة سلامة المباني” يوسف عزام بالقول “لتغير المناخ الذي لمسناه في لبنان عبر ازدياد كمية الأمطار المتساقطة في وقت قصير، تداعيات خطيرة على واقع المباني في المدن الساحلية”.
ويُقدّم عزام، في حديث لموقع “الحرة”، تحليلاً علمياً لآثار تغير المناخ على سلامة المباني، مشيراً إلى دراسة أجريت العام الماضي في بيروت أظهرت ارتفاع نسبة الملوحة والمواد الصلبة الذائبة في المياه الجوفية، من 150 ملغرام/لتر إلى 37,500 ملغرام/لتر، و”هذا الارتفاع يدل على انخفاض حاد في منسوب المياه العذبة، مما يُعرف بـ “water table.
ويضيف: “تعمل كميه الأمطار الغزيرة التي تساقطت خلال هذا الموسم والفيضانات التي شهدناها، على إعادة ضخ المياه العذبة إلى الآبار الجوفية عبر الممرات الطبيعية الجوفية”.
لكن كمية المياه الضخمة والضغط الهيدروليكي الناتج عنها يتسببان، بحسب ما يقوله “بضغط في الطبقات الأرضية المحيطة بـ water table مما يسبب توسعات وانكماشات جوفية بنسب بسيطة، ومع ذلك تؤدي إلى تحرك أساسات المباني والأرض المحيطة بها بشكل تدريجي، وينتج عن ذلك تشققات في أساسات تلك المباني تؤثر على الأداء البنيوي طويل المدى لهياكلها ومتانتها مما يشكل خطراً عليها”.
ويشدد على أن “الخطر الأكبر يُهدد سلامة المباني في المدن الساحلية ذات الأرض الأكثر ليونة القريبة من البحر، فهذه المدن تستقبل كمية أكبر من المتساقطات، خاصة من الجبال”.
وبحسب عزام، فإنه يمكن احتواء تأثير التغير المناخي “عبر اتباع سياسات الموارد المائية التي تستند إلى ضبط كميات المياه من خلال السدود وتوسعة مجاري الأنهر إضافة إلى التشدد في الدراسات الجيولوجية قبل تشييد المباني”.
على من تقع المسؤولية؟
تختلف مسؤولية الصيانة والترميم بين عقود الإيجار الحرّ وعقود الإيجارات القديمة في لبنان، بحسب ما تقوله جعارة، وتشرح أنه “في عقود الإيجار الحر، تقع المسؤولية على عاتق المؤّجر، أما في عقود الإيجارات القديمة، المعقودة قبل 23 يوليو 1992، فيُحمّل قانون (2/2017) المستأجر مسؤولية 80% من تكاليف الإصلاحات الكبرى والصغرى، بينما كان في السابق يتحمّل الاصلاحات الصغرى فقط”.
وتعرب جعارة عن رفضها تحميل المستأجر القديم مسؤولية الإصلاحات الكبرى الداخلية والخارجية، مبرّرة ذلك بارتفاع بدل الإيجار في ظل القانون الجديد، وكون المستأجر غير مالك، بل يشغل العقار لفترة محدودة، مقترحة أن تقتصر مسؤوليته على الإصلاحات داخل الشقة والخدمات المشتركة العادية.
أما المستشار القانوني لنقابة مالكي العقارات والأبنية المؤجرة، المحامي شربل شرفان فيشدد في حديث لموقع “الحرة” على أن “قانون البناء وقانون الموجبات والعقود وقانون الإيجارات، تحمّل المالك مسؤولية الترميم والصيانة، لكن تطبيق هذه القوانين يجب أن يكون في ظل الظروف العادية، أي عندما يكون بدل الإيجار محرراً بالفعل وليس شبه مجاني”.
وتنص المادة 46 من قانون الإيجارات على أنه “يتحمّل المالك نسبة 20% من نفقات الخدمات المشتركة والصيانة شرط أن لا تتجاوز مساهمته 5% من مجموع بدلات إيجار الأمكنة التي تستفيد من هذه الخدمات، ويوزع الباقي على الوحدات التي يتألف منها البناء سواء كانت شاغرة أو مشغولة من المالك أو سواه”.
وتضيف هذه المادة “تترتب نفقات تجديد المظهر الخارجي للبناء والأقسام المشتركة أو ما هو بحكمها إذا فرضت الادارة المختصة إجراءها. تؤخذ بالاعتبار مساحة كل مأجور عند توزيع حصص المساهمة بين الشاغلين”.
لكن على أرض الواقع لا يطبق أغلب المستأجرين، بحسب شرفان “هذه المادة، مما يضطر المالكون للجوء إلى القضاء وما يعنيه ذلك من تكاليف باهظة، إضافة إلى الانتظار لمدة طويلة للبت في القضايا في ظل الإضرابات القضائية”.
شرفان يشدد على أنه “انتهت السنة التاسعة لإقرار قانون الإيجار السكني، الصادر في 9 مايو 2014، المعدل بموجب القانون 2/2017، وانتهت فترة التمديد لغير المستفيدين من صندوق المساعدات الذي نص عليه القانون في المادة الثالثة منه”.
ويهدف الصندوق إلى “مساعدة جميع المستأجرين المعنيين بهذا القانون الذين لا يتجاوز معدل دخلهم الشهري 3 أضعاف الحد الادنى للأجور، وذلك عن طريق المساهمة في دفع الزيادات، كلياً أو جزئياً حسب الحالة، التي تطرأ على بدلات ايجاراتهم تنفيذاً لأحكام هذا القانون”.
ورغم نفاذ القانون إلا أنه بحسب شرفان “لا زال الكثير من المستأجرين يرفضون تطبيقه، مما اضطر المالكين إلى تقديم دعاوى قضائية بحثقهم، أما المستفيدون من الصندوق فيمنحهم القانون 3 سنوات إضافية تستحق في آخر سنة 2026.”
وكانت نقابة مالكي العقارات الأبنية المؤجرة، حمّلت حكومة تصريف الأعمال برئاسة نجيب ميقاتي مسؤولية أي انهيارات للمباني، رافضة تحميل المالكين أي مسؤولية، ومطالبة بقانون يرفع عنهم أي مسؤولية في هذا الأمر، حتى يصار إلى تحرير جميع الأملاك المؤجرة للسكن وغير السكن، وتمكين المالكين من ترميم هذه المباني، حفاظا على سلامة السكان.
مشاورات استباقية
إذا كانت مسؤولية ترميم المباني القديمة المستأجرة تقع على عاتق المالك، فإن “مسؤولية تزايد أعداد المباني المهددة بالسقوط تقع على عاتق السلطة المقصّرة عن لعب دورها في الحفاظ على الأمن السكني والسلامة العامة”، تقول جعارة.
أما شرفان، فيكشف أن اجتماعاً عقدته النقابة مع محافظ بيروت القاضي مروان عبود يوم أمس الاثنين، لمناقشة مسح الأبنية القديمة، وقد تم التسليم “بعدم قدرة مالكي هذه الأبنية على صيانتها بسبب تدني بدلات الايجارات التي يتلقونها من المستأجرين، وقد أبدى تفهمه للوضع والواقع على الأرض، وتم الاتفاق على وضع آلية لحلّ هذه المشكلة، تضمن حقوق ساكني المباني وحقوق المالكين”.
يذكر أن المادة 74 من قانون البلديات تنيط برئيس السلطة التنفيذية في البلدية صلاحية هدم المباني المتداعية وإصلاحها على نفقة أصحابها وفقاً لأحكام قانون البناء الذي تمنح المادة 18 منه البلديات صلاحية السهر على ضمان متانة المباني، وعندما يكون مبنى أو جدران أو خلافه، ينذر بالانهيار ولا يبادر المالك إلى القيام بواجباته بعد إنذاره، إما لأنه لا يستطيع إجراء أعمال التقوية اللازمة، أو لأنه يمتنع عن ذلك، يقتضي حينذاك هدمه، ويمكن للبلدية المعنية إخلاء البناء من شاغليه.
المطلوب، بحسب ما تؤكد جعارة “حثّ المالك على إجراء الإصلاحات، وإلزامه بإجراء الضرورية منها، واتخاذ تدابير رادعة بحقّه إذا أهمل الصيانة الدورية لعقاره، مع تفعيل أجهزة الرقابة لتنظيم عملية الكشف على الأبنية للتأكد من متانتها وسلامتها”.
وفي حال تعذّر على المالك إجراء الإصلاحات، على الجهات الرسمية كما تقول جعارة “أن تقوم بذلك على أن تسترد المال منه، وأن تعمل على مساعدة المالكين غير المقتدرين، من خلال توفير مواد البناء والمساعدة في أعمال الصيانة والترميم بأسعار مدروسة، وذلك بعد تشكيل لجنة مختصة لدراسة كل حالة على حدة وتقديم الحلول المناسبة”.
كما يمكن أن “تتكفل منظمات ومؤسسات اجتماعية بأعمال الترميم، لمساعدة المالكين غير المقتدرين شرط إلزامهم بطرح شققهم في سوق الايجارات”.
خطوات الوقاية
“تشكل المباني القديمة قنابل موقوتة أكثر فتكاً من قنابل الحروب، إذ أن خطرها يُهدد حياة جميع المواطنين، سواء في المناطق الآمنة أو غيرها” كما تصف الزهيري ” ولضمان السلامة العامة وسلامة الأبنية، يجب على السلطات اللبنانية القيام بمسح شامل للمباني القديمة، لتقييم حالتها واتخاذ الإجراءات اللازمة لضمان سلامتها، مع اتباع المعايير الدولية في عملية ترميمها”.
كما يقع على عاتق السلطات “تشجيع المالكين القدامى على ترميم عقاراتهم، وذلك من خلال توفير حوافز كالإعفاءات الضريبية والرسوم، وقروض ميّسرة ومساعدات مالية، مع توفير الدعم التقني والهندسي لهم وعدم تحميلهم تبعات انهيار المباني وفقاً للقانون”.
ولابد كذلك من “مكافحة الفساد والمحسوبيات فيما يتعلق بإصدار الرخص العشوائية للمباني الحديثة وتطبيق معايير السلامة بشكل صارم، وتشديد الرقابة على المخالفات، وتطوير معايير البناء لمقاومة تغيرات المناخ”.
ونظراً لتوالي الأحداث المرتبطة بسلامة المباني، دعا عزام الحكومة إلى “إطلاق حالة طوارئ عاجلة في ملف سلامة المباني”، لافتاً إلى أنه “على السلطات المحلية وبمؤازرة الوزارات المعنية الشروع في المسوحات الميدانية لتحديد المباني التي تتطلب التدخل السريع في عملية التدعيم المؤقت في المرحلة الأولى، حفاظاً على أرواح وسلامة المواطنين وهذه الخطوة لا تكلف السلطات فلساً واحداً حيث يمكن الاستعانة بمتطوعين مختصين”.
وكان “تجمع مالكي الأبنية المؤجرة” دعا إلى ضرورة تفعيل القوانين والقيام بالمسح الجدي، تفادياً لوقوع ضحايا ولإيجاد الحوافز التي ترفع المسؤولية عن المالكين القدامى وتحميلها لكل من استفاد وشارك في إزهاق حق المالك القديم وتقويض حقه بالتصرف”.
أما نقيب المهندسين في بيروت، عارف ياسين، فاعتبر بعد سقوط المبنى في الشويفات في 11 من الشهر الجاري أن ما حدث يؤكد “ضرورة التزام كل الجهات المعنيّة بالبناء بالسلامة العامة، وبوجود مهندسين مختصّين في أي منشأة”.
وأضاف ياسين في حديث صحفي، أن “البناء العشوائي الذي يفتقر للمعايير السليمة، خطر على السلامة العامة”، مشدداً على أنه “لا وجود لمسح شامل اليوم لكل الأبنية على الأراضي اللبنانية لمعرفة وضعها، فهناك عدد من المباني نُفّذ من دون رخصة ولا يمكن أن نحل مكان الدولة والبلديات في الرقابة”.
ولوضع حد لمسلسل الرعب الذي يعيشه المستأجرون، ناشدت الصلح المسؤولين التحرك سريعاً قبل فوات الأوان، قائلة “لا تنتظروا وقوع كارثة لتتحرّكوا، لا نريد أن نصبح ضحايا الإهمال، نريد العيش وتربية أبنائنا في بيئة آمنة ومستقرة”.