رغم أن عبدالله حمود هو عمدة ديمقراطي لمدينة ديربورن التي يزيد عدد سكانها قليلا عن 100 ألف نسمة، أغلبهم أصولهم عربية، فقد اتخذ قرارا من شأنه أن ينقله من رئيس بلدية غير معروف إلى شخصية وطنية، إذ رفض الاجتماع مع حملة جو بايدن الانتخابية وأعلن رفضه دعم الإدارة الأميركية غير المشروط لإسرائيل.
فعندما كانت جولي تشافيز رودريغيز، مديرة حملة بايدن قادمة إلى المدينة في أواخر يناير الماضي، قرر حمود عدم الاجتماع بها، بعد أن كان قد سمع قصصا من معاناة سكان مدينته الذين فقدوا العديد من أقاربهم في الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة.
وقال حمود في مقابلة أجرتها معه صحيفة “واشنطن بوست”: “عندما تلقيت الدعوة، شعرت أنها كانت بمثابة خديعة. لقد كانت مشاركة فقط من أجل القلق بشأن ما سيحدث في الانتخابات المقبلة، وليس من أجل القلق بشأن ما يحدث بالفعل للناس على الأرض ولأصدقاء وعائلات الناس في مدينتي”.
وبعد رفضه الاجتماع مع رودريغيز، أوضح حمود أنه لن يجتمع إلا مع صناع القرار السياسي، وليس مع نشطاء الحملة الانتخابية.
وبعد أسبوعين، أرسل البيت الأبيض وفدا رفيع المستوى إلى ديربورن ضم جون فاينر، نائب مستشار الأمن القومي لبايدن، وسامانثا باور، مديرة الوكالة الأميركية للتنمية الدولية.
وعلى مدار الأشهر القليلة الماضية، أصبح حمود، أول عمدة عربي ومسلم لديربورن، صوتا بارزا للناخبين العرب الأميركيين والمسلمين، ليس فقط في مدينته ولكن في جميع أنحاء البلاد، الذين يقولون إن بايدن خانهم وجردهم من إنسانيتهم.
وبالرغم من أن الحرب في غزة في ظاهرها، قضية تتعلق بالسياسة الخارجية على بعد آلاف الأميال من مدينة متوسطة الحجم في ميشيغان، فإنها تحتل مساحة فريدة من نوعها في ديربورن، حيث أصبحت في جوهرها قضية محلية، وتأخذ الكثير من النقاشات في المجتمع منذ أكثر من ستة أشهر.
تقع المدينة التي تبلغ فيها نسبة العرب الأميركيين أكثر من 50 في المئة بقليل، في ولاية متأرجحة تعتبر حاسمة لمسار بايدن إلى فترة ولاية ثانية.
تعد ولاية ميشيغان موطنا لأكبر عدد من السكان العرب الأميركيين والمسلمين في البلاد، بـ300 ألف شخص ينحدرون من الشرق الأوسط أو شمال أفريقيا، وقد دعم هذا المجتمع بايدن بأغلبية ساحقة في عام 2020.
وفاز بايدن بولاية ميشيغان بفارق 154 ألف صوت في عام 2020، ومن المتوقع أن يواجه بايدن. منافسة قوية أخرى هذا العام ضد الرئيس السابق دونالد ترامب.
ونظم السكان عشرات من الاحتجاجات وجمعوا التبرعات منذ السابع من أكتوبر، عندما اجتاح مسلحو حركة حماس السياج الحدودي بين إسرائيل وغزة ما أدى إلى مقتل 1200 شخص معظمهم من المدنيين، واحتجزوا 253 آخرين كرهائن في غزة، وفقا للسلطات الإسرائيلية.
رداً على ذلك، شنت إسرائيل هجوما عسكريا انتقاميا أدى إلى مقتل أكثر من 34 ألف فلسطيني، غالبيتهم من النساء والأطفال، وفقا لوزارة الصحة في غزة. كما أدى الحصار الإسرائيلي للقطاع إلى كارثة إنسانية حيث انهار النظام الصحي في غزة ويواجه سكانها المجاعة.
وخلال الانتخابات التمهيدية في ولاية ميشيغان، التي تضم أكبر تجمع للأميركيين العرب في البلاد، اجتذب التصويت الاحتجاجي “غير ملتزم” أكثر من 100 ألف صوت، أي نحو 13.4 في المئة من الأصوات، وفقا لبيانات ذكرتها صحيفة نيويورك تايمز الأميركية، في تطور لفت انتباه حملة بايدن.
واستطاعت حركة “غير ملتزم” إفساد الفوز الذي حققه الرئيس الديمقراطي في الانتخابات التمهيدية في الولاية وفي ولايات أخرى انتقلت إليها أيضا الحملة، مثل مينيسوتا التي تضم عددا كبيرا من المسلمين، وأفراد الجالية الصومالية، والليبراليين الساخطين على بايدن.
وفي رود آيلاند، اختار 14.9 في المئة من الناخبين خيار “غير ملتزم “، وهو ما يمثل حوالي 3750 صوتا، وكانت النسبة 12 في المئة في ولاية كونيتيكت.
وفي ولاية ويسكونسن، المتأرجحة الحاسمة، صوت حوالي 8 في المئة على هذا الخيار، وهو ما يمثل نحو 48 ألف صوت، وهي نسبة أكبر من ضعف هامش فوز بايدن بالولاية، عام 2020.
ومؤخرا، تصاعدت حدة الاحتجاجات في الجامعات الأميركية في جميع أنحاء البلاد.
ضغوط من مختلف الاتجاهات
وفي ظل هذه الخلفية المشحونة للغاية، يواجه حمود ضغوطا من جميع الاتجاهات، إذ يرى العديد من الأميركيين العرب والمسلمين أن الاجتماعات مع بايدن أو كبار مساعديه لا معنى لها أو حتى خيانة.
وفي المقابل يعتقد العديد من الديمقراطيين، رغم تعاطفهم مع غضب المجتمع، أن حمود يتحمل مسؤولية المساعدة في إقناع ناخبيه في مدينته وكذلك في جميع أنحاء البلاد بالتصويت لصالح بايدن ومنع ترامب من العودة إلى البيت الأبيض.
ومع كل هذه الضغوط، يتعين على حمود البالغ من العمر 34 عاماً أن يركز اهتمامه على الوظيفة التي تم انتخابه للقيام بها، وهي الإشراف على مدينة ديربورن.
يقضي حمود ساعات في مناقشة السياسة الخارجية والتداعيات السياسية لدعم بايدن لإسرائيل، لكن أيامه مليئة أيضا بالاجتماعات حول الميزانيات والفيضانات والحدائق العامة وأحداث المدينة.
ويقول حمود: “لقد ترشحت لمنصب الرئاسة على فكرة أن أضمن جمع القمامة في الوقت المحدد”.
تلقى حمود العديد من الدعوات لحفلات العشاء وإلقاء خطابات تتعلق بالحرب في غزة، لكنه رفض معظمها “أحاول أن أقول للناس إنني ما زلت عمدة مدينة ديربورن، وهذا هو تركيزي الأساسي”.
وتقول صحيفة “واشنطن بوست” إنه غالبا ما يكون لرؤساء بلديات المدن الكبيرة البارزة مثل نيويورك ولوس أنجلوس ملامح وطنية، ولكن من النادر أن يحصل عمدة مدينة صغيرة أو متوسطة الحجم على هذا النوع من التقدير، ناهيك عن قضية تتعلق بالسياسة الخارجية”.
سياسات من وحي المعاناة
ولم يكن حمود يحلم بالحياة السياسية. ولد لمهاجرين لبنانيين في ديربورن، وكان هو الثاني بين خمسة أطفال في أسرة فقيرة.
تركت والدته المدرسة الثانوية في سن السابعة عشرة بعد أن تزوجت ثم حملت، وقضى والده معظم طفولة حمود كسائق شاحنة ينقل الصلب لشركات السيارات.
حصل حمود على فرصة للترشح لمقعد في مجلس النواب، وكان والداه ضد فكرة دخوله السياسة على اعتبار أنها “سبب دمار لبنان”، بالإضافة إلى كونه مسلما وعربيا مما يعقد حصوله على منصب في الولايات المتحدة من خلال الانتخابات.
رغم كل ذلك، فاز حمود بالفعل، وأصبح وهو في سن الـ26 من عمره أول أميركي عربي مسلم يُنتخب لتمثيل الدائرة الخامسة عشرة في ميشيغان. وبعد بضع سنوات، شعر حمود أنه يمكن أن يكون له تأثير أكبر. وفي النهاية تغلب على خمسة مرشحين آخرين وتولى منصب عمدة مدينة ديربورن في يناير 2022.
ساهمت نشأة حمود في ظل فقر أسرته في تشكيل سياساته كعمدة للمدينة، فقام على سبيل المثال بتوفير حمامات السباحة العامة مجانا للأطفال الذين تبلغ أعمارهم أقل من 13 عاما، حيث يتذكر كيف لم يتمكن هو وإخوته من دفع رسوم الدخول إلى حمام السباحة المحلي البالغة خمسة دولارات.
ومع تركيزه على التفاصيل الدقيقة في مدينته، مثل مشكلة الفيضانات، لم يكن يتوقع حمود أبدا أن يصبح صوتا رائدا على مستوى الولايات المتحدة في حرب خارجية تبعد عنه آلاف الأميال.
يشعر حمود وزوجته فاطمة بقلق من الاهتمام الذي يأتي مع شهرة حمود، خاصة بعد أن نشرت صحيفة “وول ستريت جورنال” مقالا في فبراير الماضي بعنوان “مرحبا بكم في ديربورن، عاصمة الجهاد في أميركا” وجه فيه المدير التنفيذي لمعهد بحوث إعلام الشرق الأوسط، ستيفن ستالنسكي، أصابع الاتهام لمدينة ديربورن بولاية ميشيغان، ووصفه رئيس بلديتها بأنه “متعصب”.
وندد بايدن، بالخطاب المعادي للعرب عقب مقال الرأي، معتبرا أنه من الخطأ إلقاء اللوم على “مجموعة من الأفراد بناء على حديث قلة قليلة منهم”.
وقال: “هذا بالضبط ما يمكن أن يؤدي إلى التخويف من الإسلام وكراهية العرب، ينبغي ألا يحدث ذلك لسكان ديربورن أو أي مدينة أميركية (أخرى)”.
لكن المقال أدى بالفعل إلى زيادة التهديدات لحمود والمدينة، بما في ذلك شخص هدد بقطع رأس طفليه البالغين من العمر عامين و4 أشهر.
“يجب فعل المزيد”
يعلم حمود أن من المحتمل أن يواجه انتقادات سواء أيد بايدن أو أعلن في النهاية أنه لا يستطيع دعمه. يمكن أن يتأثر العديد من المسلمين والأميركيين العرب، فضلاً عن التقدميين والملونين، بقرار عمدة المدينة. وإذا خسر بايدن ميشيغان يخشى حمود من إلقاء اللوم على الأميركيين العرب والمسلمين إذا فاز ترامب بالرئاسة.
ومع ذلك، فإن التصويت لصالح بايدن الآن، بعد دعمه للهجوم العسكري الإسرائيلي في غزة، يبدو غير مستساغ بالنسبة للعديد من الأميركيين العرب.
وفي الوقت الراهن، يسعى حمود إلى تحقيق توازن دقيق.
وأظهرت الاجتماعات بين مسؤولي البيت الأبيض وحملة بايدن، وحمود بالإضافة إلى زعماء آخرين في ميشيغان، عمق غضب المجتمع وتأثيره السياسي، بحسب مسؤول في البيت الأبيض تحدث بشرط عدم الكشف عن هويته.
بعدها، بدأ بايدن في تغيير خطابه، واصفًا الرد العسكري الإسرائيلي في غزة بأنه “مبالغ فيه”. واعترف بشكل مباشر بمعاناة الفلسطينيين، وقال لإسرائيل إنه لا توجد “أعذار” لعدم السماح بدخول مزيد من المساعدات.
نجح حمود حتى الآن في الحفاظ على مدينته، وبقت المجتمعات العربية والمسلمة خارج ديربورن، متحدة إلى حد كبير خلفه. لقد دافع عن سكانه، وسعى إلى أن ينقل إلى البيت الأبيض شعور الخيانة الذي يشعر به العديد من الأميركيين العرب والمسلمين، وفقا للصحيفة.
وقال حمود إنه يدرك التحول في لهجة بايدن تجاه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو، لكنه أصر على أنه يجب على الرئيس أن يفعل المزيد.