ما إن استأنف الجيش الإسرائيلي ضرباته الجوية على غزة بعد انتهاء الهدنة حتى نشر خريطة قسّم من خلالها القطاع من شماله إلى جنوبه إلى “بلوكات” أي مربعات بلغ عددها أكثر من 2300 بلوك صغير وتم إبلاغ السكان المدنيين للانتباه إليها وحفظها كل على حدى لاعتبار يتعلق بـ”متطلبات المرحلة القادمة” من الحرب.
الناطق باسم الجيش الإسرائيلي للإعلام العربي، أفيخاي أدرعي قال لموقع “الحرة” إن الأرقام الموجودة في الخريطة تمثل الأحياء السكنية، وقد يطلب من سكان حي معين إخلاءه والتوجه إلى حي آخر.
وأضاف أن “كل رقم يدل على أحد الأحياء المعروفة لدى سكانها”، مشددا على أن “الهدف من ذلك هو منع حصول إجلاء لمساحات بعيدة، وأن يكون النزوح من حي إلى آخر ولفترات مؤقتة”.
أدرعي أشار أيضا إلى أن “إسرائيل لا تطلب من سكان غزة مغادرة القطاع بل مغادرة الأماكن التي تجري فيها عمليات عسكرية والإخلاء من مناطق القتال يتم من أجل التمييز بين المدنيين والمسلحين”.
واستهدفت الضربات الجوية التي نفذها الجيش الإسرائيلي يوم الجمعة على غزة عدة مناطق في جنوب القطاع، ما أسفر عن مقتل أكثر من 100 شخص غالبيتهم نساء وأطفال، حسب وزارة الصحة التابعة لحماس.
ورغم أن المفاوضات المتعلقة بالهدنة ما تزال قائمة ويجري خوضها من جانب الوسطاء تشي تصريحات المسؤولين الإسرائيليين إلى أن المرحلة الثالثة من الحرب في غزة قد بدأت، وهناك نوايا لبدء عملية عسكرية في جنوب القطاع، بعدما تركزت المرحلة الأولى في شماله.
وعلى رأس المسؤولين رئيس الوزراء، بنيامين نتانياهو، إذ قال عصر الجمعة عبر موقع التواصل “إكس”: “قواتنا تتقدم للأمام. إننا نواصل النضال بكل ما أوتينا من قوة حتى نحقق كل أهدافنا”، معيدا تحديدها بـ”عودة جميع المختطفين لدينا، والقضاء على حماس، والوعد بأن غزة لن تشكل أبدا تهديدا لإسرائيل مرة أخرى”.
لماذا التقسيم بـ”البلوكات”؟
ضمّن البيان الرسمي للجيش الإسرائيلي ربط تقسيم غزة كـ”بلوكات صغيرة” من أجل تحقيق هدف واحد هو الطلب من السكان للانتقال من واحد إلى آخر حسب متطلبات مرحلة الحرب، سواء على الأرض أو من الجو.
ومع ذلك قدم خبراء عسكريون ومسؤولون دفاعيون سابقون وجهات نظر ترتبط بما هو أبعد من ذلك.
المسؤول السابق في وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون)، ديفيد دي روش أوضح أن تقسيم منطقة إلى “بلوكات” هو أشبه لما يسميه الجنود بـ”هندسة ساحة المعركة”.
وتسمح هذه العملية بتخطيط ساحة العمليات بطريقة موحدة ومتماسكة، ويرتبط تطبيقها أيضا من أجل “عمليات الإغاثة في حالات الكوارث”، كما يقول المسؤول العسكري السابق لموقع “الحرة”.
يعود دي روش بالذاكرة إلى أربعينيات القرن الماضي، ويعتقد أن ساحة المعركة للهجوم على مانيلا (عاصمة الفلبين) عام 1945 تشابه إلى حد كبير ما يجري الآن في غزة، وما يحاول الجيش الإسرائيلي تطبيقه.
ويتابع أن “تقسيم البلوكات يسهل التحكم في الحركة وزيادة القوة العاملة والخدمات اللوجستية على الأرض بطريقة محكمة”.
لكن الخبير العسكري والعقيد المتقاعد، خالد حمادة يعتقد أن إسرائيل تحاول القول من خلال “البلوكات” إنها تذهب لنموذج آخر للقتال غير ذاك الذي اتبعته في شمال قطاع غزة، والذي أدى إلى دمار وتغيير التأييد الغربي، بسبب ارتكابها المجازر.
ولا يرى حمادة أن التقسيم إلى قطاعات “فعلي على الأرض”، ويقول لموقع “الحرة” متسائلا: “إذا طلب من المدنيين إخلاء أحد المربعات أين سيذهبون؟ وما هي الطريقة ومن يعطي إشارة إطلاق العملية عندما ينتهي المدنيون من الذهاب لمناطق آمنة؟”.
“الكلام والتقسيم لا قيمة له عمليا ولا إنسانيا”، ويعتبر العقيد المتقاعد أن “إسرائيل تحاول الاستجابة لما طلبته أميركا بأنه وفي حال استأنفت عملياتها يجب أن تأخذ بعين الاعتبار حماية المدنيين وأن تعيّن المنطقة التي ستهاجمها والأهداف التي تريد تحقيقها”.
“على مراحل”
وكان وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن قد التقى نتانياهو في القدس الخميس، وشدد على ضرورة مراعاة الاحتياجات الإنسانية وحماية المدنيين في جنوب القطاع قبل أي عمليات عسكرية هناك.
وقبل وصوله مهدت الكثير من وسائل الإعلام الأميركية إلى تحذيرات كانت أقرب للنصيحة، من بينها ما نقله موقع “أكسيوس” عن مسؤول لم يسمه.
وقال المسؤول الثلاثاء الماضي إن “إدارة بايدن تشعر بالقلق إزاء عملية عسكرية إسرائيلية محتملة في جنوب غزة”، وإنها “أبلغت إسرائيل بأن النزوح الذي قد يحصل على إثرها سيتجاوز قدرة أي شبكة دعم إنساني”.
وفي ذات الوقت أوضحت صحيفة “نيويورك تايمز” أن الولايات المتحدة حذّرت إسرائيل من أنها يجب أن “تقاتل بشكل جراحي (دقيق) في جنوب القطاع وتتجنب المزيد من التهجير الجماعي للفلسطينيين في حربها ضد حماس”.
ويعتقد المسؤول السابق في “البنتاغون” دي روش أن “إسرائيل تخطط لتطهير شمال غزة من حماس، ثم الاحتفاظ بها بأقل قدر من القوة والمضي قدما لتطهير جنوب غزة”، و”لذلك ستكون العمليات على مراحل، وليست متزامنة”.
ويقول أيضا إن “إسرائيل استمعت إلى نصيحة الولايات المتحدة، وتدرك أن الخسائر في صفوف المدنيين تؤدي إلى تآكل الدعم لها”.
لكن العقيد المتقاعد حمادة يعتبر أن “إسرائيل ماضية في نفس الوحشية، ولا يعني تقسيم القطاعات هنا أو هناك أنها ستغير سياستها”.
و”لن تستطيع أن تخرج من الخيار العسكري التدميري، وبذات الوقت لا تملك شجاعة استخدام القوات البرية”، ويضيف حمادة: “كما أنها لا تدرك شكل المقاومة الفلسطينية وطريقة العمل لديها.. هي مأزومة وتحاول أن تقدم شيئا جديدا”.
لكن في المقابل يرى الدكتور مئير مصري وهو أستاذ العلوم السياسية بالجامعة العبرية في القدس وعضو اللجنة المركزية لحزب “العمل” المشهد القائم على عكس ما يقوله حمادة.
ويقول في حديث لموقع “الحرة”: “إذا استمرت حماس في سياسة العناد غير المفهوم ورفض الاستسلام سوف تستمر العمليات العسكرية بنفس الوتيرة التي عهدناها قبل وقف إطلاق النار”.
كما يضيف أن “الهدف من الحرب هو إنهاء حكم حماس في القطاع لا أكثر ولا أقل”، وأنه “طالما بقيت قرية واحدة في قبضة حماس فسوف يستمر القتال”، في إشارة منه إلى جنوب القطاع وشماله.
ما النوايا المتوقعة؟
ولا يعرف شكل العملية العسكرية التي ستنفذها إسرائيل في جنوب غزة كما يهدد المسؤولون فيها دائما، وما إذا كانت ستواصل الاستهدافات والتوغلات على جبهتين (شمال القطاع وجنوبه).
ويعتقد ريتشارد ويتر كبير الخبراء العسكريين في معهد “هدسون” بواشنطن أن “إسرائيل قادرة على فتح جبهتين في الوقت نفسه في غزة أو حتى على طول الحدود اللبنانية”.
وفيما يتعلق بما سيجري على الأرض يوضح الخبير العسكري أن “الأمور ستختلف في المرحلة المقبلة لأن القوات البرية الإسرائيلية تسيطر بالفعل على معظم مناطق الشمال”.
وبينما ستحتاج إسرائيل الآن إلى التحرك نحو الجنوب “ربما ستعتمد في المرحلة الأخيرة على عدد أقل من الضربات الجوية والمزيد من القوات البرية”، وفق حديث ويتز لموقع “الحرة”.
وبوجهة نظر الخبير “كان يتعين على إسرائيل أن تستأنف القتال، لأنه في حال توقفت الحرب ستكون حماس قد انتصرت”.
لكن المسؤول السابق في “البنتاغون” دي روش يعتبر أن “حماس هي المستفيدة من عودة القتال”، قائلا: “طالما بقيت حماس على قيد الحياة فإنها ستنتصر، وإسرائيل هي التي تتحمل المسؤولية عن سقوط ضحايا من المدنيين، وليس حماس”.
“لا خيارات كثيرة”
وعلى مدى سبعة أيام سمحت الهدنة التي بدأت في 24 نوفمبر وتم تمديدها مرتين بتبادل عشرات الرهائن المحتجزين في غزة بمئات السجناء الفلسطينيين وتيسير دخول المساعدات الإنسانية إلى القطاع الساحلي.
وبعد انتهائها صباح الجمعة اتهمت إسرائيل حماس بانتهاكها، فيما ألقت الحركة المصنفة إرهابية في الولايات المتحدة ودول أخرى، باللوم على إسرائيل قائلة إنها رفضت عروضا بإطلاق سراح المزيد من الرهائن.
بالنسبة لإسرائيل، وخاصة نتانياهو فإن هجوم حماس في السابع من أكتوبر يمثل “أزمة وجودية”، و”كان وحشيا ومهينا وناجحا إلى الحد الذي جعل الرد العسكري الشامل للقضاء على الحركة أو على الأقل إضعافها يعتبر الخيار الوحيد الممكن”، كما يقرأ المشهد نيكولاس ويليامز.
ويقول المسؤول السابق في حلف شمال الأطلسي ووزارة الدفاع البريطانية لموقع “الحرة” إن ابتعاد إسرائيل في الوقت الحالي عن الخيار العسكري “سيجعل حماس وغيرها من المنظمات تشعر بالثقة في شن المزيد من الهجمات”.
ويضيف أن “الأمر الأكثر أهمية هو أن إسرائيل سوف تخسر سمعتها باعتبارها القوة العسكرية العظمى في منطقة مفتتة ومنقسمة”.
وكان من شأن فقدان المصداقية العسكرية الإسرائيلية أن يشجع أعداء إسرائيل الآخرين، ولهذا السبب يعتقد المسؤول السابق أن “حكومة نتانياهو تفضل مواصلة عمليتها العسكرية في جنوب غزة، وحتى الآن تعتقد أنه ليس أمامها خيار سوى الاستمرار”.
لكن تبرز الكثير من التحديات في جنوب قطاع غزة، على رأسها الكثافة السكانية هناك.
ويوضح ويليامز أن “التفوق التكنولوجي الإسرائيلي لن يضمن النصر على حماس في مثل هذه المنطقة المكتظة بالسكان”.
وعلاوة على ذلك، فإن “مواصلة عمليتها العسكرية في الجنوب من شأنه أن يؤدي إلى سقوط عدد أكبر بكثير من الضحايا والقتلى الإسرائيليين والفلسطينيين على حد سواء”.
ويتابع: “وإذا واصلت إسرائيل عمليتها في الجنوب ولم تسمح مصر للاجئين الفلسطينيين بدخول أراضيها فإن العواقب الإنسانية المترتبة على استمرار العمل العسكري الإسرائيلي ستكون أكثر كارثية مما كانت عليه حتى الآن”.
وقد لا تتمكن إسرائيل من مواجهة الصعوبات العسكرية القائمة من خلال مواصلة الحملة بذات الكثافة التي كانت عليها في جنوب غزة، وبنفس القدر من الأهمية كما يشير ويليامز فإنها “ستواجه ضغوطا متزايدة من المتعاطفين معها ومؤيديها من الولايات المتحدة وأوروبا من أجل وقف إطلاق النار لأسباب إنسانية”.
ولذلك ستفكر بناء على الظرف السابقة “بعقلانية” حسب تعبير المسؤول السابق في الدفاع البريطانية ويشير إلى أنها “قد تلجأ لمحاولة إضعاف حماس بوسائل أخرى، على سبيل المثال اتخاذ إجراءات أكثر دقة وتوجيها ضد قيادة الحركة وبنيتها التحتية، ومع عزلها سياسيا ودبلوماسيا”.