بينما كان رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي ينعم بالمجاملة الأميركية في 22 يونيو الماضي، بهدف تعزيز العلاقات مع قوة صاعدة وشريك محتمل ضد الصين، كان ضابط في جهاز المخابرات الهندي ينقل التعليمات النهائية إلى فريق اغتيال مستأجر لقتل أحد أشد المعارضين الهنود في الولايات المتحدة.
كان الضابط في وكالة التجسس الهندية (راو) فيكرام ياداف قد كتب لرؤسائه أن “الاغتيال يمثل أولوية الآن”، وأرسل تفاصيل بشأن الهدف وهو الناشط السيخي جورباتوانت سينغ بانون، المحامي المؤسس للمنظمة الأميركية “سيخ من أجل العدالة” التي تطالب بدولة مستقلّة للسيخ في شمال الهند.
الإعلان عن هوية ياداف وانتمائه لأول مرة، قدم الدليل الأكثر وضوحًا حتى الآن على أن خطة الاغتيال التي أحبطتها السلطات الأميركية في النهاية كانت موجهة من داخل وكالة التجسس الهندية.
وقدرت وكالات المخابرات الأميركية أن العملية التي استهدفت بانون وافق عليها رئيس الوكالة الهندية في ذلك الوقت، سامانت جويل.
“موجة واسعة من الاغتيالات”
ويشير تحقيق مطول لصحيفة “واشنطن بوست” إلى أن مؤامرات الاغتيال التي تنفذها الهند في الولايات المتحدة وكندا تعد جزءا من موجة واسعة من استهداف الجماعات المعارضة أو المنشقة التي تسعى إلى الحماية في بلدان أخرى، وأن الهند تتجاهل سيادة تلك الدول وترسل عملاء عبر الحدود لإخضاع الأعداء السياسيين.
وتزامنت المؤامرة في الولايات المتحدة مع مقتل الناشط السيخي هارديب سينغ نيجار بالرصاص في 18 يونيو في بريطانيا، وهي عملية مرتبطة أيضا بالناشط ياداف، وفقا لمسؤولين غربيين.
ووقعت كلتا المؤامرتين وسط موجة من العنف في باكستان، حيث قُتل ما لا يقل عن 11 انفصاليًا من السيخ أو الكشميريين الذين يعيشون في المنفى والذين صنفتهم حكومة مودي إرهابيين خلال العامين الماضيين.
وفي فبراير الماضي، استُهدف منزل إنديرجيت سينغ غوسال، وهو ناشط انفصالي من السيخ في كندا بأعيرة نارية، وفق ما أعلنت الشرطة المحلية، بعد أقل من عام على مقتل زعيم هذه الجالية في كندا. واتهمت أوتاوا المخابرات الهندية باغتياله.
وفي يونيو العام الماضي، قتل المواطن الكندي هارديب سينغ نيجار الذي أعلنت الهند أنه إرهابي مطلوب، بإطلاق نار في إحدى ضواحي فانكوفر حيث يقطن عدد كبير من السيخ، وتوفي متأثرا بجراحه على الفور.
وفي سبتمبر، اتهم رئيس الوزراء الكندي جاستن ترودو علناً أجهزة الاستخبارات الهندية بمقتل الزعيم الانفصالي، ووصفت نيودلهي الاتهامات بأنها “سخيفة”.
والهند، التي تفوقت على الصين العام الماضي كأكبر دولة في العالم من حيث عدد السكان، هي جزء من قائمة موسعة تضم عشرات الدول التي تستخدم الآن مثل هذه تكتيكات العنف والمضايقة والمراقبة ضد المعارضين. ونتيجة لذلك، فإن الملاذ الذي تلجأ إليه الجماعات المنشقة يتقلص في كل قارة تقريبا.
وقالت الصحيفة إنها أجرت عشرات المقابلات مع مسؤولين وخبراء وأفراد مستهدفين في نيودلهي وواشنطن وأوتاوا ولندن وبراغ وبرلين.
وفي خضم القوى الجيوسياسية المتغيرة، كافحت الولايات المتحدة والحكومات الغربية الأخرى لوقف هذا المد من القمع، بحسب الصحيفة.
لكن الهند لم تواجه عواقب تذكر لاستخدامها العنف والترهيب ضد الجماعات المنشقة، “ويرجع ذلك جزئيا إلى رغبة الولايات المتحدة وحلفائها في توثيق العلاقات مع الهند في عصر جديد من المنافسة مع الصين”.
وتنقل الصحيفة عن مسؤولين أن جهاز المخابرات الهندي كثف مراقبته ومضايقته للسيخ وغيرهم من الجماعات في الخارج، التي يُنظر إليها على أنها غير موالية لحكومة مودي.
وقد واجه ضباط وعملاء “راو” الاعتقال والطرد والتوبيخ في دول من بينها أستراليا وألمانيا وبريطانيا، وفقا لمسؤولين قدموا تفاصيل لـ”واشنطن بوست” لم يتم نشرها من قبل.
وأدرج تقرير حديث صادر عن منظمة “فريدوم هاوس” الهند ضمن الدول التي تمارس “القمع العابر للحدود الوطنية”، وهو مصطلح يشير إلى استخدام الحكومات للترهيب أو العنف ضد مواطنيها المنشقين والناشطين والصحفيين في دول أخرى.
“استهداف النشطاء في عهد مودي”
لعقود من الزمن، كان يُنظر إلى جهاز “راو” الهندي كلاعب إقليمي، منشغل بالحروب بالوكالة مع وكالة التجسس الباكستانية.
لكن في عهد مودي، تم استخدام الجهاز كسلاح ضد المنشقين في الشتات الهندي الضخم حول العالم، وفقا لمسؤولين أميركيين وهنود حاليين وسابقين.
وبالعودة إلى “مؤامرة” الاغتيال الهندية على الأراضي الأميركية، أشارت “واشنطن بوست” إلى أن إدارة الرئيس الأميركية جو بايدن اتخذت خطوات لاحتواء التداعيات.
التهم الأميركية الوحيدة التي تم الإعلان عنها حتى الآن هي ضد وسيط مزعوم، نيخيل جوبتا، الذي تم وصفه في لائحة الاتهام بأنه مهرب مخدرات وأسلحة هندي تم تجنيده لتوظيف قاتل مأجور. واعتقل غوبتا، وهو مواطن هندي في دولة التشيك نفى هذه الاتهامات، في 30 يونيو ولا يزال في السجن. وينتظر حكم المحكمة في براغ بشأن طلب الولايات المتحدة بتسليمه.
وتصف الإفادة الخطية الأميركية ياداف بأنه “شريك” لغوبتا الذي حصل على مساعدة تاجر المخدرات المزعوم من خلال الترتيب لإسقاط التهم الجنائية التي واجهها في الهند.
كان لدى غوبتا تاريخ من التعاون مع أجهزة الأمن الهندية في العمليات في أفغانستان ودول أخرى، وفقًا لشخص مطلع على خلفيته، لكنه لم يتم استخدامه مطلقا في مهمات في الغرب.
وأمضى ياداف وغوبتا أسابيع في تداول النصوص المشفرة حول مؤامرة قتل بانون، وفقا لإفادة خطية قدمتها الولايات المتحدة لدعم طلب تسليم غوبتا.
في المقابل، عمل المسؤولون في الولايات المتحدة على تعريف غوبتا بقاتل مفترض كان في الواقع عميلا سريا، وفقا لملفات المحكمة.
أما ياداف، فقد نُقل إلى قوة الشرطة الاحتياطية المركزية بعد كشف مؤامرة بانون، بحسب مسؤول أمني هندي سابق.
تشير صحيفة “واشتطن بوست” إلى السمعة السيئة التي يتمتع بها رئيس “راو” الحالي، حيث تم ربط قوات الشرطة تحت قيادة جويل في أوائل التسعينيات بأكثر من 120 حالة قتل خارج نطاق القضاء أو اختفاء قسري أو تعذيب، وفقا لقاعدة بيانات تحتفظ بها إنصاف، وهي مجموعة هندية لحقوق الإنسان مقرها الولايات المتحدة.
وكان جويل مرتبطا بشكل وثيق بالحملة الوحشية لدرجة أنه أصبح هدفا للاغتيال، وفقا لزملاء له قالوا إنه كان يتنقل في سيارة مضادة للرصاص.
وقال مسؤولون هنود سابقون إن جويل لم يكن ليشرع في مؤامرات الاغتيال في أميركا الشمالية دون موافقة مودي.
فمنذ وصوله إلى السلطة في عام 2014، نجح مودي في تنمية هالة الرجل الهندوسي القوي، حيث قام بسجن المعارضين، ونشر صورا لنفسه وهو يركب الدبابات ويطير بالطائرات المقاتلة، وتفاخر بإصدار أمر بشن غارة جوية في عام 2019 ضد باكستان المسلحة نوويا.
وقالت “واشنطن بوست” إن وزارة الشؤون الخارجية الهندية رفضت الرد على الأسئلة التفصيلية التي قدمتها الصحيفة أو تقديم تعليق على التحقيق.
إجراءات غربية
في أستراليا، طُرد اثنان من ضباط جهاز “راو” في عام 2020 بعد أن قامت السلطات بتفكيك ما وصفه مايك بيرجيس، رئيس جهاز المخابرات الأسترالي، بـ”عش الجواسيس”.
وفي ألمانيا، قامت الشرطة الفيدرالية باعتقالات في السنوات الأخيرة لاستئصال العملاء الذين قام جهاز “راو” بتجنيدهم داخل مجتمعات السيخ.
وطردت أوتاوا دبلوماسيا وصفته بأنه يقود الاستخبارات الخارجية الهندية في كندا على خلفية قضية مقتل نيجار، ما دفع نيودلهي إلى الرد عبر إصدار أمر لدبلوماسي كندي بالمغادرة.
وتضم كندا أكبر جالية للسيخ خارج الهند على مستوى العالم، ولطالما أبدت نيودلهي عدم رضاها عن طريقة تعاطي أوتاوا مع أنشطة السيخ الانفصالية.
وقد أثار سجل نشاط “راو” في بريطانيا الشكوك حول تورط الوكالة في وفاة الناشط السيخي أفتار سينغ خاندا، الذي توفي في برمنغهام العام الماضي.
ويطالب الانفصاليون السيخ باقامة دولة لهم في “خالصتان” او “بلاد الانقياء”. ويعتبرون أن “السيخ هم الشعب الاصلي في البنجاب” الولاية الهندية الواقعة على مقربة من الحدود مع باكستان.
لكن تعامل الولايات المتحدة كان على النقيض من تعاملها مع ضباط المخابرات الروسية والإيرانية في مؤامرات مزعومة على الأراضي الأميركية، بحسب مسؤولين تحدثوا لـ”واشنطن بوست”، حيث تم السماح بصفقة لبيع ما يصل إلى 4 مليارات دولار من الطائرات المسلحة الأميركية بدون طيار للهند، واختار مسؤولو وزارة العدل حتى الآن على الأقل عدم توجيه اتهامات ضد ياداف.
لكنهم أشاروا إلى أنها تعكس الطريقة التي تعاملت بها الولايات المتحدة مع السعودية بعد مقتل الصحفي جمال خاشقجي في قنصلية بلاده في إسطنبول.
وبعد عام تقريبا من الاحتفاء به في البيت الأبيض، يستعد رئيس الوزراء الهندي للفوز بفترة ولاية ثالثة في الانتخابات الوطنية التي بدأت هذا الشهر.
ويرى العديد من المحللين أن إعادة انتخاب مودي نتيجة حتمية، ويرجع ذلك جزئيا إلى صدى سياساته القومية الهندوسية الحازمة لدى الأغلبية الدينية في البلاد.
وفي تجمع انتخابي عقد مؤخرا في ولاية راجاستان، قال مودي لآلاف من أنصاره المبتهجين: “اليوم، حتى أعداء الهند يعلمون.. هذا مودي، هذه هي الهند الجديدة”.