في وثائقيه “جاسوس رحيم” (A Compassionate Spy) يكتب المخرج “ستيفن جيمس” فصولا سينمائية من حياة عالم الفيزياء النووية الأمريكي “تيد هول” (1925-1999)، وهو الذي سرّب إلى المخابرات السوفياتية معلومات سرية عن برنامج صناعة القنبلة النووية الأمريكية خلال الحرب العالمية الثانية، تصورا منه أن امتلاك السوفيات لها سوف يخلق توازنا يمنع احتكار الأمريكان لأفظع سلاح عرفته البشرية، وأن هذا سيشكل هذا رادعا نوويا لهم، من شأنه منع نشوب حروب نووية مستقبلا.
يركز الوثائقي الأمريكي على الفترة التي عمل فيها “تيد” في “مشروع مانهاتن” السري لصناعة القنبلة الذرية الأمريكية، ولم يكن إذ ذاك قد تجاوز 19 عاما، ثم يتوسع مسار الفيلم بعد ذلك ليوثق السنوات التي تلتها، وشهدت ملاحقة المخابرات الأمريكية له، وصولا إلى المرحلة الأخيرة من حياته التي قضاها في بريطانيا بعد خروجه من بلده، خوفا على حياته وحياة عائلته.
“ثيودور ألفين هول”.. أصغر خريج من جامعة هارفارد
طيلة مسار الوثائقي تشارك زوجته “جوان هول” في سرد تفاصيل كثيرة عن حياتهما العائلية، وتبين جوانب من شخصية زوجها وأسباب لجوئه إلى نقل معلومات في غاية السرية والخطورة إلى المخابرات السوفياتية، مع علمه بخطورة ما يترتب عليه مثل هذا الأمر الذي قد يقوده في النهاية إلى حبل المشنقة.
ينقل الوثائقي عنها تاريخ علاقتها به أثناء دراستها في جامعة هارفارد، وكان “ثيودور ألفين هول” حينها أصغر طالب جامعي يدرس الفيزياء النووية، وقد تخرج منها وهو ابن 18 عاما. عبر حديثها عن علاقتهما العاطفية قبل الزواج تتطرق إلى المشتركات التي قربتهما، ومن بينها أنهما يهوديان، وينحدران من عائلتين عماليتين يساريتي التوجه، انضم أكثر أفرادهما إلى الحزب الشيوعي الأمريكي، وكان متأثرا حينها بالأفكار الاشتراكية وبالتجربة السوفياتية.
تشير أيضا إلى الصداقة المتينة التي ربطته بعالِم الفيزياء الشاب “ساكس سافي” الذي تشارك معه مغامرته التجسسية وأسرارها، وظل صديقا وفيا له كتوما، خلال كل الظروف الصعبة التي مرا بها.
“مشروع مانهاتن”.. تجنيد العباقرة الصغار في المشروع النووي
ينقل الوثائقي المرحلة التي عمل فيها “تيد هول” في “مشروع مانهاتن” عالمَ فيزياء مساعدا، وانتقاله إلى منطقة لوس ألاموس وهو في سن صغيرة، بسبب توجه الجهات المسؤولة عن البرنامج لتجنيد المواهب العلمية النادرة إليه، وكان من الطبيعي أن يكون “تيد” من بينهم.
وعن أسباب قبوله بالمهمة السرية، يقول إنه قَبِل بها لقناعته بأن توصل الولايات المتحدة لصناعتها وامتلاكها قبل “هتلر” سيكون نصرا للحلفاء، وإفشالا للنازيين الساعين بقوة للحصول على سلاح تدميري قادر على تحقيق مشاريعهم الفاشية.
يبدأ “تيد” عام 1943 العمل في قسم التجارب المتعلقة بجهاز الانفجار الداخلي للقنبلة النووية المسماة “الرجل البدين”، كما عمل على تحديد الكتلة الحرجة لليورانيوم المستخدم في صناعة النوع الثاني من القنابل النووية.
وخلال كل ذلك، لم يفش بسر اشتغاله في المشروع النووي إلا لزوجته وصديقه “سافي”، ولم يتردد في التعبير أمامهما عن إحساسه بخطورة أن يمتلك طرف واحد القدرة على صناعة تلك القنبلة المخيفة.
“العلوم ملك للجميع”.. رسالة للرئيس لمشاركة النصر مع السوفيات
بعد سنة واحدة من عمله في المشروع بدأ “تيد” يفكر بنقل أسراره للسوفيات، يشجعه على ذلك اتفاق عدد من العلماء على الرأي الذي يقول إن العلوم ملك للجميع، وأن مشاركة السوفيات للمعلومات أمر ضروري، لأنهم كانوا حلفاء للأمريكيين خلال الحرب العالمية الثانية، وأن الشعب السوفياتي قدم التضحيات الكبيرة من أجل دحر النازية.
كما أن الدعاية الأمريكية خلال السنوات الأولى من الحرب العالمية الثانية، كانت تبرز الجوانب الإيجابية من التجربة الاشتراكية، وتمجد الزعيم “ستالين”.
ينقل الوثائقي ما يؤكد ذلك التوجه الإعلامي الذي يشجع مجموعة من العلماء العاملين في “مشروع مانهاتن”، لكتابة رسالة إلى الرئيس الأمريكي، يطلبون منه مشاركة السوفيات المعلومات التي لديهم، لكن الجنرال المسؤول عن المشروع لم يوصلها إلى البيت الأبيض، فظلت الرسالة حبيسة أدراج مكتبه.
التجربة الحية.. ميلاد وحش مخيف لا يمكن احتكاره
بعد إتمام الجوانب العملية لصناعة القبلة الذرية، وحلول ساعة إجراء تجارب حية عليها في صحراء لوس ألاموس، يتغير موقف العالم الشاب كثيرا، بعدما رأى بأم عينيه الانفجار المروع الذي حدث، فلم يحتفل مع بقية المشاركين في المشروع لنجاح التجربة، بل ذهب إلى المهجع وحيدا، حزينا مشغولا بالسؤال: كيف سيكون مستقبل البشرية لو ظلت القنبلة بيد الولايات المتحدة الأمريكية وحدها؟
سيدفعه هذا السؤال لاستشارة صديقه الوفي في الفكرة التي شغلت ذهنه حينها، وتتجسد في نقل أسرار المشروع النووي إلى الجانب السوفياتي سرا، ليصنعوا قنبلتهم، وحسب قناعته فإن وحده هذا كفيل بصناعة توازن نووي يجنب البشرية حروبا شنيعة في المستقبل.
يستغل العالِم الشاب العطلة الممنوحة له بمناسبة عيد ميلاده الـ19، فيذهب إلى نيويورك ليقابل صديقه، ويتفق معه على الطريقة التي يستطيعان بها التواصل مع العملاء السوفيات، ثم يبدأ بعد لقائه عددا منهم بنقل ما يملكه من معلومات خطيرة إليهم، كما يقدم قائمة بأسماء العلماء المشاركين في المشروع، بناءً على طلب عالم الفيزياء النووية الروسي “إيغور كورياتوف”، ومن أجل استمرار ضمان سرية التواصل يتفق الصديقان على كلمة سرية لكتابة الرسائل إلى الجهات الروسية.
خلال تلك الفترة من عام 1944، أرسلا إلى موسكو مخططات القنبلة النووية المُراد إسقاطها فوق الأراضي اليابانية، وعلى الخط يبرز اسم العالم الألماني “كلاوس فوكس” الذي سرب للسوفيات أيضا معلومات تفصيلية عن صناعة القنبلة النووية، وعلى ضوئها تأكد لهم صحة المعلومات التي وصلتهم من “تيد”، بعد مقارنتها بالمعلومات الواصلة إليهم منه.
قنبلة اليابان.. مطية أمريكية للهيمنة على العالم
طيلة الفترة التي كان فيها العالم الشاب يزود الروس بالمعلومات، كانت أجهزة الدعاية الأمريكية تغير موقفها من الاتحاد السوفياتي، وبالتدريج جعلته وحشا يخيف العالم، فلم يعد حليفا بل العدو الأول للإدارة الأمريكية، وقد قررت عدم التعاون معه في حقل صناعة القنبلة الذرية، والتوجه للتعاون مع بقية الدول الرأسمالية بدلا منه.
يشخص “هول” هذا التوجه بناء على قناعاته اليسارية التي ترى أن هذا الميل نابع من حماسة أصحاب رؤوس الأموال المتحكمين في “وول ستريت” الذين شجعوا قادة البيت الأبيض على توسيع التجارب النووية، وصنع المزيد من القنابل النووية، من أجل السيطرة الاقتصادية والسياسية الكاملة على العالم بأجمعه.
ينقل الوثائقي المساعي التي بذلها علماء، من أجل ثني قادة البيت الأبيض عن إسقاط القنبلة الذرية على “هيروشيما” و”ناغازاكي”، لكنها باءت بالفشل، لأن الإرادة السياسية كانت متجهة نحو فرض هيمنة مطلقة على العالم، بقدرة السلاح النووي الذي تملكه بيدها.
كما يصور الوثائقي حجم الأكاذيب التي أحاطت قرار الهجوم النووي والذرائع الواهية التي تحجج بها الأمريكان، مع علمهم الكامل أن اليابان كانت في طريقها للاستسلام، ولم تطلب أكثر من إجراء شكلي، لإيقاف الحرب والحفاظ في الوقت نفسه على ماء وجهها.
يقدم “تيد” وزوجته مثالا آخر على ذلك التوجه الاقتصادي المتمثل بالتحرك العسكري السوفياتي على الحدود الإيرانية، للحصول على حصة من النفط الإيراني الذي خططت أمريكا وبقية الدول الصناعية الرأسمالية للاستئثار به وحرمانهم منه.
هدد الرئيس “ترومان” باستخدام القنبلة الذرية، وطلبوا من موسكو سحب قواتها خلال 48 ساعة من الحدود الإيرانية، وقد سحب السوفيات قواتهم خوفا من استخدام الأمريكان القنبلة الذرية ضدهم، لكن هذا الموقف دفعهم لاحقا للمضي بقوة لصنع قنبلة يُخيفون بها حقا الأمريكان، وإلا لظلوا خاضعين لابتزازهم.
“أف بي آي”.. أدلة هشة تحوم حول المتهمين
تزيد الحرب الباردة المتصاعدة بين الأمريكيين والسوفيات نشاط جهاز المخابرات الأمريكي “أف بي آي”، لمعرفة المصدر الذي سرّب المعلومات للطرف الآخر.
وقد وجدوا ضالتهم في العالِم النووي “جوليوس روزنبرغ” وزوجته “إيثل”، بعد أن جمعوا أدلة تؤكد تعاونهما وتجسسهما لصالح السوفيات، وقد أدينا بجريمة خيانة الوطن وحكم عليهما بالموت، بينما حامت الشكوك حول “هول” وصديقه “سافي”، لكنهم لم يجدوا أدلة دامغة ضدهما.
ينقل الوثائقي إجراءاتهما الاحترازية لإبعاد التهمة عنهما، وقد أنكرا في كل التحقيقات التي أجريت معهما وجود أي تعاون لهما مع السوفيات، وبما أن أدلة الاتهام ضدهما كانت هشة، فقد سمح لهما ذلك بالمناورة والتحرك السري، لإخفاء كل ما له شأن بكشف تعاونهما مع المخابرات السوفياتية.
لم تستطع أساليب المراقبة المركزة ولا أجهزة التنصت على مكالماتهما الوصول إلى دليل قاطع على جرمهما، ولم تنفع أساليب التهديد المكارثية (نسبة إلى السيناتور جوزيف مكارثي) في بداية الخمسينيات لتراجعهما عما صرحا به في السابق.
أيام بريطانيا.. ملاذ آمن ينتهي تحت شجرة معمرة
الانكار والاتفاق على الأجوبة المتشابهة سمح لـ”تيد” وزوجته بالانتقال إلى مكان آخر داخل الولايات المتحدة الأمريكية والعمل فيها، لكن المخابرات ظلت تلاحقهما، مما دفعهما للتفكير بالهروب إلى خارج البلد.
بعد حصوله على عمل في مركز تطوير أجهزة الكشف عن مرض السرطان في لندن استطاعا الخروج سالمين مع أطفالهم، وحين لم يجد البريطانيون ما يؤكد شكوك الأمريكان بتعاون العالِم النووي مع المخابرات السوفياتية، تركوا مراقبته والتحقيق معه، فظل يعمل ويقيم في بريطانيا، حتى مات فيها، ودفن رماد جثمانه تحت شجرة معمرة في إحدى حدائقها العامة حسب وصيته.
فيلم “جاسوس رحيم” فيلم مؤثر، وليس ذلك عائدا لكونه يوثق جوانب من حياة شخصية مثيرة للجدل فحسب، بل لأنه يخصص جانبا من مساحته لأطفاله الذين ظلوا فترات طويلة يجهلون أسباب “خيانة” والدهم لوطنه، لكن نشر الوثائق المتعلقة بتسريبات البرنامج النووي ودور والدهم فيها بعد مرور 50 عاما عليها، توضح لهم بجلاء موقفه الشجاع الذي أراد من خلاله إنقاذ العالم من حرب نووية شنيعة تُبيد الوجود البشري برمته.