في أول حديث رسمي عن “مستقبل غزة”، قال الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان إن بلاده “مستعدة لتولي المسؤولية مع دول أخرى في الهيكل الأمني الجديد، الذي سيتم إنشاؤه (بعد انتهاء الحرب في غزة)، بما في ذلك آلية الضامنين”، ورغم أنه أشار إلى “آلية الضامنين” التي اقترحتها أنقرة قبل شهر، بدا موقفه معاكسا لذاك الذي اتخذته دول إقليمية وعربية.
وحتى الآن ترفض الدول العربية وأبرزها مصر والأردن الخوض في سيناريوهات “غزة ما بعد الحرب”، وكذلك الأمر بالنسبة لحركة حماس، لكن وفي المقابل لطالما تطرق المسؤولون الإسرائيليون إلى هذه القضية وكذلك الأمر بالنسبة لنظرائهم الأميركيين، من دون أن يرسموا صورة دقيقة لما سيكون عليه القطاع مستقبلا.
ولم يكشف الرئيس التركي عن ماهية الدور الأمني الذي تستعد أنقرة للعبه والدول التي قد تشاركها فيه، ويرى مراقبون تحدثوا لموقع “الحرة” أن ما طرحه إردوغان، الأربعاء، خلال مشاركته في قمة زعماء مجموعة العشرين “ينسجم مع نظرة أنقرة إلى دورها الجديد في الشرق الأوسط كوسيط للسلام والقوة”.
كما ينسجم مع الموقف الذي سار عليها المسؤولون الأتراك، على رأسهم إردوغان، إزاء ما يجري في غزة. سواء عندما اتخذوا موقفا متوازنا في بداية الحرب، أو بعدما تحولوا على صعيد الخطاب والمسار الدبلوماسي، بسبب تضاعف أعداد الضحايا، جراء تكثيف الحملة الإسرائيلية.
“لعبة وساطة وضمانات”
وكانت تركيا قد عززت في السنوات الأخيرة لعبتها في مجال الوساطة والضمانات، واضطلعت بدور الضامن لقبرص وبشكل غير رسمي لأذربيجان في صراع إقليم ناغوني قره باغ، بينما توسطت أيضا في مبادرة الحبوب في الحرب الأوكرانية-الروسية.
ولذلك لا ينفصل العرض الحالي الذي كشف عنه إردوغان عما سبق، كما تقول الصحفية التركية، ديلارا أصلان، وهي مديرة مكتب “ديلي صباح” في أنقرة.
وتوضح أصلان لموقع “الحرة” أن “حجة تركيا هي أن قرارات الأمم المتحدة الحالية ليست كافية لإجبار إسرائيل على حل الدولتين، ولا لمنع الهجمات أو تهجير المدنيين الفلسطينيين ولذلك اقترحت آلية جديدة”.
وأطلق على هذه الآلية اسم “نموذج ضمانة”، وتنص أن يكون لكل من إسرائيل وفلسطين دول ضامنة، ومن شأن هؤلاء الضامنين أن يمنعوا أي تصعيد، ويمنعوا أي طرف من خرق الاتفاقات الحالية.
وأبدت تركيا لأكثر من مرة استعدادها للعب مثل هذا الدور، وذلك “لأنها تتمتع بعلاقات وثيقة مع كل من حماس والسلطة الفلسطينية ولديها خبرة في الصراعات”، وفق أصلان.
لكنها تشير إلى أن “الاقتراح يحتاج إلى دعم منظمة التعاون الإسلامي والجامعة العربية، اللتين فشلتا لفترة طويلة في الاتحاد واتخاذ موقف قوي ضد الولايات المتحدة وإسرائيل”.
كما أن “واشنطن ستكون المرشح الأفضل كضامن لإسرائيل، لأن الدول الأخرى لن تكون قوية بما يكفي لكبح جماح إسرائيل”، وتتابع أصلان: “بعد إنشاء آلية الضمانة، ستضطر الدول الضامنة تدريجيا إلى إجبار الجانبين على الجلوس على الطاولة للتفاوض على تسوية سلمية دائمة وحل للقضية الفلسطينية”.
“دور جديد”
ورغم أن أنقرة قالت إنها عرضت “نموذج الضمانة” على الدول التي تواصلت معها وغالبيتها عربية مثل مصر والسعودية ولبنان والأردن لم تلق التفاصيل التي تضمنتها والبنود التي تنصف عليها أي استجابة حتى الآن.
ولم يقتصر عدم الاستجابة على إسرائيل والولايات المتحدة الأميركية فحسب، بل على الأطراف الفلسطينية، إن كانت حركة حماس أو السلطة.
ويرى الباحث والمحلل السياسي التركي، محمود علوش، أن “تركيا تسعى للعب دور محوري في جهود إنهاء الحرب، من خلال عرض خدماتها كوسيط سلام بين إسرائيل وحماس”.
وتسعى أيضا إلى إبداء استعدادها للانخراط في الترتيبات الأمنية المستقبلية في غزة بعد الحرب، وكل ذلك “ينسجم مع نظرتها إلى دورها الجديد في الشرق الأوسط، كوسيط للسلام والقوة”، كما يقول علوش.
كما تُحاول أنقرة أن تكون واقعية في مقاربة مستقبل الحرب، لأنها ترى استحالة عودة الوضع في غزة إلى ما كان عليه قبل السابع من أكتوبر.
فمن جانب، يضيف علوش لموقع “الحرة” أن إسرائيل تبدو مُصممة على إنهاء حكم حماس في غزة”. ومن جانب آخر، تسعى الولايات المتحدة إلى الوصول إلى هذه النتيجة من خلال المزج بين تأمين الغطاء لإسرائيل لمواصلة هذه الحرب، بالتوازي مع إيجاد ترتيب أمني لمستقبل غزة عبر إشراك القوى الفاعلة في المنطقة فيه.
“جذب اهتمام مزدوج”
وتُحاول تركيا من خلال إظهار الدعم الصريح لحماس وتجنب انهيار العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل أن تحظى بموافقة الطرفين، على أن يكون لها دور أمني في غزة بعد الحرب.
ومع ذلك يعتقد علوش أن “تحقيق فكرة إنشاء هيكل أمني في غزة على غرار قوات حفظ سلام أممية مرهون قبل كل شيء بمدى استعداد حركة حماس لتقبل هذه الفكرة، لأنها لا تزال تُراهن على أنها قادرة على الصمود في الحرب لفترة طويلة”.
ومنذ بدء الحرب وحتى الآن يخيم مشهدٌ عسكري على حماس، سواء فيما يتعلق بالقرارات التي تتخذها أو بالتحركات التي تعلن عنها، والتي ترتبط في غالبيتها بالميدان.
ونادرا ما تطرقت الحركة إلى مسارات الإدارة الخاصة بها في القطاع، خلال أيام الحرب الماضية، أو عندما طرحت هذه القضية ضمن سيناريوهات ما بعد الحرب، والتي لم يحجز فيها أي اسم للحركة، بينما أعطت خيارات عن الجهة التي ستكون بديلة عنها.
ولم تظهر الدول العربية في العلن حتى الآن أي استعداد لأن يكون لها دور أمني في غزة بعد الحرب، على عكس ما أبدته تركيا على لسان الرئيس التركي، الأربعاء.
ويرى الباحث علوش أن فكرة تبني دور أمني لتركيا في غزة ما بعد الحرب يرتبط من جانب بمحاولة “جذب الاهتمام الأمريكي والإسرائيلي بدور أنقرة المحتمل لإنهاء الصراع”.
وفي المقابل “يريد إردوغان أن يقول لإسرائيل والولايات المتحدة إن دور بلاده لا غنى عنها في نهاية المطاف”، حسب الباحث.
أين تقف تركيا الآن؟
وكان موقف تركيا متوازنا في بداية الحرب الإسرائيلية، كون ما حصل جاء ضمن فترة التطبيع بين أنقرة مع إسرائيل بعد سنوات من التوترات، وسعي الجانبين لاستكشاف مجالات التعاون مثل السياحة والطاقة والاقتصاد.
ومع ذلك، في أعقاب الهجوم على مستشفى الشفاء وتزايد أعداد القتلى من المدنيين، غيّر أردوغان خطابه.
وتوضح الصحفية أصلان أنه “وإلى جانب المآسي المدنية في غزة أجبرت الاحتجاجات المناهضة لإسرائيل التي حدثت في جميع أنحاء تركيا إردوغان على الاستجابة لنداءات الشعب التركي وتبني موقف أكثر صرامة”.
ومع الأخذ في الاعتبار أن تركيا ستخوض الانتخابات المحلية في مارس 2024، كان من المستحيل تجاهل هذه الدعوات.
وتضيف أصلان أن “موقف تركيا الآن هو التوصل إلى وقف كامل لإطلاق النار في أقرب وقت ممكن من أجل دخول المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزة وإرساء الأساس للمفاوضات التي يمكن أن تؤدي إلى تسوية سلمية”.
وتشير أصلان إلى أن “تركيا لم تقطع علاقاتها مع إسرائيل بشكل كامل، فالاتصالات مستمرة والتجارة كذلك، ومشاريع الطاقة لم تلغ بل توقفت فقط”.
وفي حين أن تركيا استدعت سفيرها للتشاور فقط وليس كتحرك دبلوماسي ضد إسرائيل، تظهر هذه الخطوة على أن “أنقرة مستعدة لاستئناف العلاقات مع إسرائيل بعد تسوية الصراع”، وفق أصلان.
وعلى عكس القوى العربية البارزة التي تسعى لاستعراض مكانتها الإقليمية في جهود إنهاء الحرب في غزة، فإن تركيا تمتلك ميزة أساسية لا تتوفر للفاعلين الإقليميين الآخرين للعب دور أكبر في هذه الجهود، وهي علاقاتها المتناقضة مع كل من إسرائيل وحركة حماس، كما يقول الباحث علوش.
وتظهر أنقرة اهتماما قويا بالانخراط في تحديد مستقبل غزة بعد الحرب من خلال إبداء رغبتها في أن يكون لها دور في إعادة إعمار قطاع غزة، وربما المشاركة في مشروع نشر قوات لحفظ السلام في القطاع في حال التوصل إلى ترتيب من هذا القبيل.
وسبق وأن شاركت تركيا بفعالية ضمن حلف الناتو في عمليات حفظ السلام في كل من أفغانستان وكوسوفو.
كما لديها قوات ضمن بعثة حفظ السلام الأممية في جنوب لبنان، الأمر الذي “يجعل من دورها في مثل هذا الترتيب حيويا”.
ويعتقد علوش أنه “لن يكون بمقدور بايدن أن يجعل الدبلوماسية الأميركية في الحرب مؤثرة بقدر أكبر إذا لم يجعل تركيا جزءا محوريا فيها”.
“بالنظر إلى المخاطر المحيطة بالعلاقات الجديدة بين تركيا وإسرائيل، فإن إحدى أولويات واشنطن في الحرب تتمثل في منع انهيار جديد في العلاقات بين حليفين رئيسيين بالنسبة لها في المنطقة”، ويعتبر علوش أن “الطريقة الأفضل للحد من هذه المخاطر تتمثل بإشراك تركيا بفعالية في الجهود الأمريكية لاحتواء الصراع”.