بعد نحو عامين من تخلف شركة “إيفرغراند” الصينية، أكبر مطور عقاري في الصين، عن السداد في عام 2021، توجهت الأنظار نحو لاعب رئيسي آخر في هذا السوق، شركة “كانتري غاردن” التي باتت في وضع مماثل.
وتباطأ سوق العقارات في الصين بشكل كبير في الأشهر الستة الأولى من العام، إذ شهدت البلاد حالات تخلف عن السداد جديدة ما يعكس أزمة القطاع العقاري الذي يعاني بالأساس من تبعات تفشي فيروس كورونا بسبب قيود الإغلاق وتباطؤ الاقتصاد.
وسوق العقارات هو العمود الفقري للاقتصاد الصيني، ومصدر الاستثمار الرئيسي للعديد من الأسر الصينية، لذلك فإن أي مشكلة يعاني منها القطاع تؤثر على المجتمع بأكمله وربما العالم.
ماذا حدث؟
وتشرح نيويورك تايمز أنه على مدى العقود الثلاثة الماضية، ومع ارتفاع عدد سكان الصين وتدفق سكانها على المدن بحثا عن الفرص الاقتصادية، حدثت طفرة في سوق العقارات وفرت ملايين الوظائف والمدخرات للأسر، واليوم، يمثل هذا القطاع أكثر من ربع إجمالي النشاط الاقتصادي تقريبا.
ومنذ تكشفت أزمة ديون القطاع في منتصف عام 2021، أدى ذلك إلى وجود العديد من المنازل غير المكتملة، وعدم دفع مستحقات الدائنين، الذين هم ليسوا مؤسسات مالية فحسب، بل هم أيضا أشخاص عاديون.
وتقول نيويورك تايمز إن الأزمة حدثت بعد سنوات من الاقتراض المفرط وطفرة البناء، فقد سمحت الهيئات التنظيمية للمطورين بالاقتراض دون حدود لعقود من الزمن، ثم تدخلت الحكومة فجأة في عام 2020 لتقييد وصول أكبر الشركات العقارية إلى الأموال، ما أدى إلى نقص السيولة لدى هذه الشركات.
وتقول “سي أن بي سي” إن الحكومة وضعت أكثر من 100 لائحة تنظم عمل الشركات التي جمعت أموالا ضخمة عبر صناديق الأسهم والاقتراض والاكتتابات العامة، ووضعت هذه القوانين سقفا صارما للاقتراض.
وبدأت الشركات في الانهيار الواحدة تلو الأخرى، لأنها لم تتمكن من دفع فواتيرها. وقد تخلف أكثر من 50 مطورا عن السداد أو فشلوا في سداد أقساط الديون في السنوات الثلاث الماضية، وفقا لوكالة التصنيف الائتماني ستاندرد آند بورز.
ومنذ ظهور أزمة ديون القطاع في منتصف عام 2021، تعثرت الشركات التي تمثل 40 في المئة من مبيعات المنازل الصينية، ومعظمها من شركات تطوير العقارات الخاصة، وفقا لرويترز.
وكانت إيفرغراند واحدة من أكثر الشركات تضررا، إذ اقترضت ما يزيد عن 300 مليار دولار، من بينها 19 مليار دولار من السندات الخارجية المقومة بالدولار الأميركي.
وأثارت هذه التطورات مخاوف مشتري المنازل، وفي يوليو، انخفضت مبيعات المنازل الجديدة لدى أكبر 100 شركة تطوير في الصين بنسبة 33 في المئة مقارنة بالعام السابق.
وانخفضت مبيعات الشقق غير المكتملة لشركة “كانتري غاردن” بأكثر من 50 في المئة في شهري يونيو ويوليو، وهو ضعف معدل الانخفاض في الأشهر الخمسة السابقة.
وفي أغسطس الماضي، تخلفت الشركة عن سداد مدفوعات الفائدة، ما يشير إلى أنها أيضا معرضة لخطر الانهيار المالي، مع ديون بقيمة 187 مليار دولار.
وتخلف المجموعة عن السداد سيكون له وقع الصدمة في الأسواق. وفي حين أن إجمالي التزامات الشركة البالغة 1.4 تريليون يوان (191.7 مليار دولار) لا يتجاوز 59 في المئة من التزامات شركة إيفرغراند، إلا أنها تمتلك 3121 مشروعا في جميع مقاطعات الصين، مقارنة بحوالي 800 مشروع لشركة إيفرغراند.
وفي أواخر الشهر الماضي، تراجعت أسهم إيفرغراند بنسبة 80 في المئة تقريبا. والشهر الماضي، نشرت الشركة أرباحها لعامي 2021 و2022 وأظهرت خسارة صافية تزيد عن 113 مليار دولار خلال فترة العامين.
تداعيات في الداخل
في عام 2022، شكلت صناعة العقارات 13 في المئة من إجمالي الإنتاج، ووظفت بشكل مباشر 11 في المئة من العاملين، وفق يورومونيتور إنترناشونال نقلا عن بيانات رسمية.
وتشير البيانات إلى انخفاض الاستثمار العقاري في الصين بنسبة 8.5 في المئة خلال الفترة من يناير إلى يوليو 2023، في حين انخفضت عمليات البناء الجديدة بنسبة 25 في المئة تقريبا.
وانخفض الطلب على شراء العقارات، حيث تظهر بيانات بنك الشعب الصيني أن حجم القروض الصادرة للأسر، والتي تتكون في الغالب من الرهون العقارية، انخفض بمقدار 200.7 مليار يوان صيني في يوليو 2023.
وتراجع إنفاق المستهلكين يعود جزئيا إلى انخفاض أسعار المساكن الذي أثر على مدخراتهم، ويرتبط معظمها بالعقارات.
والوظائف المرتبطة بالإسكان والتي كانت متوفرة بكثرة في السابق مثل البناء، وتنسيق الحدائق، والطلاء، بدأت في التلاشي أيضا، وفق نيويورك تايمز.
ومع الضعف الشديد لمبيعات المنازل، فإن أزمة الديون قد تؤخر تعافي كل من سوق العقارات والاقتصاد الصيني الأوسع، إذ تشكل العقارات ركيزة أساسية له، وفق نيويورك تايمز.
وإزاء هذه الأزمة، اضطرت الحكومات المحلية، التي تعتمد على أرباح مبيعات الأراضي للمطورين إلى تقليص الخدمات العامة.
وبات مشترو المنازل أكثر حذرا تجاه العلامات التجارية الخاصة، وقد تتعرض أسعار المنازل في العديد من المناطق لضغوط أكبر إذا لجأت “كانتري غاردن” إلى البيع بسعر بخس لجمع الأموال.
وفي ظل هذا الوضع، أقرت الصين بأن تعافي ثاني أكبر اقتصاد عالمي في مرحلة ما بعد الجائحة سيكون “صعبا”، وحددت النمو المستهدف لاقتصاد البلاد هذا العام بنحو 5 في المئة.
وقال المكتب السياسي للحزب الشيوعي برئاسة، شي جين بينغ، أواخر يوليو إن “العملية الاقتصادية الراهنة تواجه صعوبات وتحديات جديدة، تعود بشكل رئيسي إلى الطلب المحلي غير الكافي، والصعوبات التشغيلية لبعض الشركات، والمخاطر المرتفعة والأخطار المخفية في قطاعات أساسية، وبيئة خارجية معقّدة وحادّة”، وفق محطة “سي سي تي في” العامة.
ويأمل العديد من المحللين أن تطرح بكين إجراءات جذرية لوقف دوامة الهبوط. ومع ذلك، يشكك بعض المحللين في الأدوات التي يمكن أن تستخدمها بكين مع رغبتها في التوازن بين تقديم الدعم لسوق الإسكان ومراقبة الديون، وفق رويترز.
تداعيات على العالم
ويمثل قطاع العقارات في الصين أكثر من نصف مبيعات المنازل الجديدة وبناء المنازل على مستوى العالم، وهو أكبر فئة من الأصول في العالم، حيث تقدر قيمته السوقية بنحو 62 تريليون دولار.
لكن خبراء السوق عموما لا يعتقدون أن الصين على حافة حدوث أزمة مالية على غرار تلك التي شهدها الاقتصاد الأميركي عندما تحولت أزمة بنك الاستثمار ليمان براذرز، في عام 2008، إلى أسوأ أزمة اقتصادية في العالم وتردد صداها لسنوات.
وقالت وول ستريت جورنال في تقرير سابق إن محللين يخشون من أن “لحظة ليمان براذرز” في الصين تلوح في الأفق”. لكن شياو شي تشانغ، المحللة المالية في شركة جافيكال للأبحاث، قالت إن “اليقظة التنظيمية” لبكين تجعل مثل هذه النتيجة غير محتملة.
وقال باتريك أرتوس، كبير الاقتصاديين في ناتيكسيس لصحيفة لوموند الفرنسية في نسختها الإنكليزية: “لن يكون هناك تأثير ليمان. ستكون هذه خسائر رأسمالية للمستثمرين”، لكنه أقر بأنه من الصعب للغاية معرفة من الذي يتحمل ديون شركة “كانتري غاردن”.
وقدرت دراسة أجراها البنك المركزي الأوروبي في عام 2022 أنه في ظل سياسة السوق المغلقة في الصين، فإن تأثير الصدمة هناك على أسواق الأسهم العالمية سيكون له نصف تأثير الصدمة في الولايات المتحدة.
ومن ناحية أخرى، فإن التأثير سيكون أكبر على أسواق الطاقة والمواد الخام، حيث تستهلك الصين، على سبيل المثال، 56 في المئة من النحاس في العالم.
تباطؤ اقتصاد الصين.. هل يؤثر على بقية العالم؟
لا تزال الصين تعمل على الوفاء بتوقعاتها للنمو الاقتصادي عقب إنهاء قيود الإغلاق الصارمة للحد من تفشي فيروس كورونا والمعروفة باسم “صفر كوفيد”.