يعرف الجميع مدى التأثير الأمريكي على إسرائيل، فمن ضمن ما يزيد عن 400 ألف مستوطن إسرائيلي في الضفة الغربية يوجد ما يزيد عن 60 ألف يهودي أمريكي، يضاف إلى هذا آلاف من اليهود الأمريكيين الذين ينضمون لجيش الاحتلال الإسرائيلي، وأهم من ذلك كله الدعم السياسي والاقتصادي والإعلامي والدبلوماسي غير المحدود الذي تتلقاه إسرائيل من الولايات المتحدة الأمريكية.
لكن ما مدى تأثير إسرائيل على أمريكا؟ أو بمعنى أدق كيف تحاول إسرائيل الحفاظ على هذا الدعم غير المحدود؟ بل كيف تستمر سيطرة الفكر الصهيوني داخل الولايات المتحدة الأمريكية؟
في الفيلم الوثائقي “العقيدة الإسرائيلية” (Isrealism) الذي أخرجه المخرج الأمريكي اليهودي “إيرين أكلسمان” مع زميله “سام إيلرتسن”، يخبرنا اثنان من الشباب اليهود الأمريكيين عن حكايتهم مع الهوية الإسرائيلية، واكتشافهم حقيقة الدعاية التي تربّوا عليها، إلى أن قادتهم رحلة الحقيقة في النهاية لصورة مغايرة عن أهل فلسطين.
“إسرائيل هي اليهودية واليهودية هي إسرائيل”
يسرد الفيلم في نصفه الأول طريقة تربية الأطفال والشباب في المجتمع اليهودي الأمريكي على أن يروا إسرائيل مكانا مثاليا، وتخبرنا “سيمون زيمرمان” و”إيتان” أن زيارة إسرائيل مثلت لهم -وهم شباب وأطفال- جزءا رئيسيا من هويتهم، وقد لقّنوا أن هذه الزيارة مهمة كصلواتهم.
فتجد “زيمرمان” في دفاتر رسمها -حين كانت طفلة- صورةً للعلم الإسرائيلي برفقة العلم الأمريكي، كما وجدت أنها قد تعلمت رسم علم إسرائيل بشكل ممتد بين النهر والبحر، دون أي وجود لأرض فلسطينية.
يبدأ الفيلم بتتابع لحفلات “حق الميلاد” التي تنظمها مؤسسة صهيونية، ترسل شباب اليهود الأمريكيين في رحلات مجانية إلى إسرائيل، وتعرض لهم عالما ورديا مليئا بالسعادة ورحلات البرية والتخييم والشواطئ والموسيقى.
وفي وسط هذه الأجواء الاحتفالية، يعرض الفيلم مداخلات معلمين صهيونيين أمريكيين، يخبرون طلابهم بأن “إسرائيل هي اليهودية واليهودية هي إسرائيل”، ناهيك عن تدريبات عسكرية في زي الجيش الإسرائيلي، تقدم على أنها لعبة تفاعلية للشباب والمراهقين الأمريكيين خلال هذه الرحلات، ونتيجة لذلك يلتحق عدد كبير منهم بالجيش الإسرائيلي بعد بضع سنين، ومنهم “إيتان” أحد أبطال هذا الفيلم.
جرائم الجيش.. صدمة المجند الأمريكي تغير نظرته للاحتلال
تتغير الأحداث تماما في النصف الثاني من الفيلم، حين يتعرض بطلا الحكاية لصدمة شديدة، فتتغير وجهة نظرهم عن هويتهم وعن الحقيقة، فعلى جانب يشاهد “إيتان” بأم عينه أثناء خدمته في الجيش الإسرائيلي ما يقوم به من إهانة للمدنيين الفلسطينيين، فمن ذلك استيلاء الجنود الإسرائيليين بشكل مستمر على منازل أسر فلسطينية، ثم استخدامها قواعد عسكرية.
ناهيك عن تعمد إهانة وتوقيف الفلسطينيين في الحواجز، حتى أنه وصل لموقف لم يفارق ذاكرته حتى بعد سنين من نهاية خدمته في الجيش الإسرائيلي، حينما اصطحب شابا فلسطينيا صغير السن مكبل الأيدي ومغطى العينين إلى نقطة احتجاز، وشاهد الجنود الإسرائيليين يركلونه ويضربونه.
منذ ذلك الحين عاد “إيتان” إلى الولايات المتحدة يحمل رؤية مختلفة ورغبة في إخبار الشباب اليهود بحقيقة ما يحدث في الأراضي الفلسطينية المحتلة.
سرديات بيت العنكبوت.. أوهام واهية تتبدد أمام الحُجة الفلسطينية
على جانب آخر جاءت صدمة “سيمون زيمرمان” بعد حضورها أحد المؤتمرات داخل جامعتها في أمريكا لطلبة فلسطينيين، فتخبرنا “زيمرمان” أن معلميها الصهيونيين أعطوها ورقة تحمل إجابات جاهزة لتدمير سردية الطلبة الفلسطينيين.
وقد ركزت هذه الورقة بشكل رئيسي على عدم الدخول في تفاصيل ما يحدث، واتهام كل من ينتقد إسرائيل بمعاداة السامية، وحينما استمعت “زيمرمان” لمداخلات الطلبة الفلسطينيين ومعاناتهم، لم تقتنع بما كانت قد أُخبرت به، ولم تجد إجابة لأسئلتهم عن التفرقة العنصرية والتطهير العرقي.
ومع مرور الوقت قررت “سيمون” أن تذهب لفلسطين، كي ترى الحقيقة على الجانب الآخر بعينها.
مجموعة اليهود السذج.. شخصيات نافذة تنتقد الداعمين لحقوق فلسطين
يعتمد الفيلم الوثائقي على فريق من الشباب وصناع السينما اليهود، وقد أتاح لهم ذلك حرية كاملة في إجراء مقابلات داخل الأراضي المحتلة، ومع شخصيات صهيونية بارزة في الولايات المتحدة الأمريكية، ومنهم “آبي فوكسمان” الذي ينكر في مداخلته وجود تأثير للشباب اليهودي الأمريكي المدافع عن حقوق الفلسطينيين.
يرى “فوكسمان” هؤلاء الشباب مجموعةً من السذج، وندرك من خلال الفيلم أنه تدخل بنفسه لفصل “سيمون زيمرمان” من حملة “بيرني ساندرز” داخل الحزب الديمقراطي، بسبب موقفها وانتقادها للاحتلال الإسرائيلي.
يستمر النكران على الجانب الصهيوني في الفيلم، إذ يرى المسؤولون عن حركة “حق الميلاد” والمنظمات الصهيونية المرتبطة بها داخل الجامعات الأمريكية أن “زيمرمان” ومن شابهها من اليهود الداعين للسلام مع الفلسطينيين، إنما هم واقعون تحت تأثير معلومات كاذبة ومغلوطة.
“صوت يهودي من أجل السلام”.. منظمات تفضح الاحتلال
يستمر الفيلم في التطور، فنرى تحول موقف عدد من الشباب اليهودي الأمريكي، مما أدى إلى تشكل جبهات عدة، أبرزها “صوت يهودي من أجل السلام”، وتقوم هذه الجبهات بتظاهرات مستمرة للدفاع عن حق الفلسطينيين في الحرية والحياة، ويزيد انتقادهم حدة للاحتلال الإسرائيلي وممارساته.
ونتتبع مع وصولنا لنهاية أحداث الفيلم رحلة حقيقية لـ”سيمون زيمرمان” و”وإيتان”، كانا في بدايتها مقتنعين تماما بالدعاية الإسرائيلية والقتال من أجلها، سواء كان ذلك حربيا في جيش الاحتلال، أو سياسيا في المؤتمرات والمناظرات، وقد انتهى بهما الحال في التوقيت الحالي إلى أصبحا من أبرز المعادين للاحتلال الإسرائيلي، ومن أبرز المدافعين عن حقوق الفلسطينيين في الولايات المتحدة الأمريكية.
فلربما بسبب آلاف الشباب اليهودي الأمريكي من أمثال “زيمرمان” و”إيتان” تتحول الكفة الآن سياسيا داخل المجتمع الأمريكي، وتخسر إسرائيل الصورة الوردية التي بنتها خلال عقود داخل المخيلة الأمريكية.
وبسبب هؤلاء الشباب أيضا، يتفهم ملايين من الشباب العربي أن هناك فارقا كبيرا بين اليهودية ديانةً ومن ينتمون لها، ومنهم هؤلاء الشباب المدافعون عن العدالة وحقوق الفلسطينيين، ممن يقومون بعمل نبيل ويعطون أملا في مستقبل أفضل، وبين ممارسات الاحتلال الإسرائيلي الصهيونية من إبادة وتطهير عرقي وتفرقة عنصرية.
“العقيدة الإسرائيلية”.. نجاح في محافل السينما ومحاربة في أوكار الصهيونية
منذ بداية عرضه، وفيلم “العقيدة الإسرائيلية” (Isrealism) يحظى بنجاح محلى وعالمي، فقد تُوّج بجائزة أفضل فيلم وثائقي في مهرجان أريزونا السينمائي الدولي، وجائزة أفضل وثائقي في مهرجان سان فرانسيسكو السينمائي اليهودي، وجائزة خاصة من مهرجان بروكلين السينمائي الدولي.
وكان عرضه العالمي الأول في مارس/ آذار 2024، ضمن فعاليات مهرجان كوبنهاغن السينمائي الدولي، وهو أحد أهم مهرجانات الفيلم الوثائقي عالميا.
وعلى جانب آخر، جرت محاولات لعرقلة الفيلم ومنعه من العرض، لا سيما داخل الجامعات الأمريكية والكندية، وتولى كبر ذلك شخصيات ومنظمات داعمة للفكر الصهيوني.